النازحون السوريون في عرسال.. بين إنعاش الاقتصاد والتضييق على العمالة المحلية

يتأقلمون على ظروف التهجير وينقلون أعمالهم إلى لبنان

عدد من النازحين السوريين في أحد مواقع العمل بمنطقة عرسال البقاعية في لبنان («الشرق الأوسط»)
عدد من النازحين السوريين في أحد مواقع العمل بمنطقة عرسال البقاعية في لبنان («الشرق الأوسط»)
TT

النازحون السوريون في عرسال.. بين إنعاش الاقتصاد والتضييق على العمالة المحلية

عدد من النازحين السوريين في أحد مواقع العمل بمنطقة عرسال البقاعية في لبنان («الشرق الأوسط»)
عدد من النازحين السوريين في أحد مواقع العمل بمنطقة عرسال البقاعية في لبنان («الشرق الأوسط»)

تعيش غالبية أهالي منطقة عرسال البقاعية في حالة قلق من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل تدفق آلاف النازحين السورين الهاربين من قصف النظام السوري على بلدتهم، من دون أن ينفوا تأثيرهم الإيجابي على الحركة الاقتصادية.
بعض هؤلاء النازحين الذين تجاوز عددهم الـ100 ألف، كان لهم الحظ في الحصول على خيمة تؤويهم، ووجدوا في «الزراعة» أو «أعمال البناء» مصدر رزق يؤمنون من خلاله لقمة عيش أولادهم، فيما لا يزال آخرون يبحثون عن مأوى يحمي عائلاتهم من برد الشتاء، وحر الصيف، كما هي حال أم هدى النازحة من بلدة يبرود.
في المقابل، بدأ بعض السوريين، لا سيما من يملك مبلغا لا بأس به من المال، يتأقلمون مع ظروف تهجيرهم، من خلال تأسيس أعمال خاصة بهم ينافسون بها أبناء عرسال، كافتتاح الأفران ومحلات لتصليح السيارات، يحصلون من خلالها على مردود مادي جيد يخول لهم استئجار منزل وتأمين متطلبات عائلاتهم قدر الإمكان، وهو الأمر الذي بدأ يؤثر سلبا على أعمال العرساليين الذين يجدون أعمالهم تنهار وتتراجع لصالح النازح السوري، بعيدا عن أي خطة من الدولة تضع حدا لهذه المشكلة، بحسب ما يصف تجار بلدة عرسال معاناتهم مع ظاهرة النزوح السوري المتفاقمة في منطقتهم.
يقول صالح، وهو شرطي في بلدية عرسال، لـ«الشرق الأوسط»: «نازحو القلمون الذين جاءوا إلى لبنان قبل ثلاث سنوات، وضعهم ميسور ماديا مقارنة مع أوضاع النازحين الذين أتوا إلى البلدة أخيرا ويعيشون في خيام صغيرة». ويشرح صالح عن وضعه قائلا: «كنت أعمل في مجال التصليحات وإمدادات الكهرباء، وأحصل 400 دولار أميركي مقابل عملي في ورشة بناء واحدة. لكن اليوم أتى العامل السوري و(كسر سعر السوق) بعدما بات يقوم بعملي مقابل 100 دولار فقط».
بدوره، يروي أحمد، زميل صالح في العمل، معاناته مع النزوح السوري. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «درست الفندقية وعملت في فندق بالبقاع، حيث كنت أتقاضى 700 دولار في الشهر، الأمر الذي لم يعجب صاحب العمل، فاستبدل بي عاملا سوريا بأجر يصل في حده الأقصى إلى 200 دولار. وبعد صرفي من وظيفتي، بدأت العمل في مجال البناء، ومن ثم في معمل للباطون، وفي الحالتين خسرت عملي بعد مجيء العامل السوري وحصوله على نصف الأجر الذي كنت أحصل عليه». وهنا يسكت قليلا، ثم يعلق ساخرا من وضعه بالقول: «اليوم قررت العمل في بلدية عرسال شرطيا أتقاضى 500 ألف ليرة شهريا، (نحو 320 دولارا)، بعدما أقفلت أبواب التجارة بوجهي وخسرت أموالي».
في المقابل، يختلف أبو محمد، صاحب دكان في البلدة، في الرأي مع شرطي البلدية، ويقول: «منذ مجيء السوريين إلى البلدة نشطت الحركة التجارية أكثر وأكثر، فالأمم المتحدة تمنح كل نازح سوري بطاقة ائتمانية بمبلغ 100 دولار شهريا يشتري بها المواد الغذائية»، ويضيف قائلا: «هناك 11 دكانا اتفقت مفوضية شؤون اللاجئين مع أصحابها ليشتري منها النازح أنواعا مختلفة من المواد الغذائية».
لكن في المقابل، يبدو أن حاجة النازحين السوريين إلى المال لتأمين حاجاتهم من غير المواد الغذائية، تجعلهم في أحيان كثيرة يبيعون ما يقدم إليهم من مواد عينية بأسعار أقل من سعرها الأصلي بكثير، وهو الأمر الذي يستفيد منه أيضا أصحاب المحلات الذين يشترونها لإعادة بيعها، وهذا ما تقوله صراحة الحاجة أم محمد، وهي أيضا صاحبة محل لبيع المواد الغذائية، مؤكدة أنها تشتري هذه المواد بـ«نصف أو ربع قيمتها»، لافتة إلى أن بعض النازحين السوريين يموتون جوعا، فيما البعض الآخر يحصل على المساعدات وهو في غنى عنها.
على بعد أمتار قليلة من محل أم محمد، يجلس علي، الشاب السوري النازح من بلدة يبرود، على رصيف الشارع وسط البلدة وإلى جانبه عربة صغيرة يضع عليها «الفرشة» التي تقدمها له ولعائلته مفوضية الشؤون، والتي يقدر سعر الواحدة منها بنحو 13 دولارا أميركيا. إلا أن علي يبيعها بنحو عشرة دولارات. ويقول لـ«الشرق الأوسط» مبررا: «وبالمال نستطيع أن نشتري الطعام، لكن النوم على هذه الفرشة لا يفيدنا بشيء.. كما أننا اعتدنا النوم على الطرقات والأرصفة».
وفي حين يؤكد ابن منطقة عرسال أبو فيصل، وهو صاحب محل لتصليح السيارات، استفادته كغيره من أصحاب المحلات والتجار من تدني تكلفة اليد العاملة السورية، يطالب رئيس بلدية عرسال علي الحجيري الدولة اللبنانية بضرورة مساعدة التاجر اللبناني في عرسال، «خصوصا ذلك الذي يعمل في الزراعة وخسر أمواله بسبب القصف السوري على البلدات الحدودية والبساتين مثل مشاريع القاع». ويشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «عددا كبيرا من النازحين السوريين يعانون من مشكلات اقتصادية وصحية، لكن هناك العديد منهم استطاعوا التأقلم مع الظروف القاسية التي فرضتها الحرب السورية عليهم بالعمل مع لبنانيين أو بتأسيس أعمال خاصة بهم».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.