فنّ هابط..؟

فنّ هابط..؟
TT

فنّ هابط..؟

فنّ هابط..؟

في قطر هناك شعور بالغضب لأن كوميديًا سعوديًا يؤدي وصلات ساخرة عبر «ستاند أب كوميدي» أساء للقطريين بدعوى أنهم شعب قليل العدد..! وخلال الأسبوع الماضي استمعتُ إلى فنان قطري يبدي ألمه وانزعاجه من هذا التعريض.. ويتساءل: هل أصبح هذا النوع من الفنّ هابطًا إلى هذا الحدّ؟
الحقيقة، أن المشكلة ليست في الفنّ بذاته، فالفن ترجمان لإحساس الإنسان وإبراز مشاعره بمهارة وإبداع مع قيمة جمالية راقية. وهو مجرد وسيلة للتعبير ومخاطبة الناس وإسعادهم. ويستمد قوته من مناخ الحرية المتوفر، أولاً، ومن عبقرية ومهارة المؤدين لهذا الفنّ، ثانيًا.
و«ستاند أب كوميدي» ليس فنًا طارئًا، بدايته كانت في بريطانيا في القرن الثامن عشر، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة.. وكان وسيلة مهمة للتعبير عن الرأي الناقد للأوضاع الراهنة بعيدًا عن لغة الخطابات المباشرة، وفي الوقت نفسه كان وسيلة لتنفيس الاحتقان والتخفيف من مشاعر الإحباط الحياتية والسياسية، فهو إذن نقد سياسي مبطّن، وأداؤه ليس سهلاً، لأنه يتطلب التفاعل المباشر مع الجمهور، والشراكة معه في الأداء وقياس الاستجابة وردود الفعل.
الحاجة لهذا الفنّ مثل الحاجة لكل فنون الأداء والتعبير، والكوميديا جزء مهم من حاجة الناس إلى التنفيس والتعبير السلمي، من أجل مجتمع حيوي متسامح متعاف من الأمراض والعقد، يمكنه مواجهة مشاعر القهر والاحتقان، ولديه القدرة على النفوذ إلى الآخرين، فالطرفة سفير الثقافة الشعبية إلى العالم، وعلى رأي الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، فـإن «السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط!».
حاجتنا للكوميديا تتضاعف كلما صعبت الظروف الحياتية والمعيشية، في النهاية لا بد أن يتخلص الإنسان من كل مشاعر الإحباط لديه، وصالات الترفيه الكوميدي يمكنها أن تصبح متنفسًا، لكن متى ما تحول هذا الفنّ إلى التهريج، والسخرية من الناس وليس من الأوضاع أو المواقف، واتجه نحو الاستهداف الشخصي، أصبح وسيلة رديئة للهجاء والتسقيط ووشم الآخرين وإهانتهم، وبالتالي فقد دوره في إمتاع الجمهور وإسعادهم.
هنا تكمن المشكلة، الكوميديا التي يفترض أن تخلق مناخًا صافيًا أصبحت تُستغل لتكدير الخواطر، وبدل أن تقّرب بين الشعوب وتذّوِب الفروقات بينهم، أصبحت أيضا وسيلة للتباعد والتنابذ وإظهار مشاعر العنصرية تجاه الآخرين، أصبح البعض كما في المسرحيات الخليجية يستخدم الكوميديا لإظهار مهاراته في احتقار الناس والسخرية من أشكالهم. بعض المسرحيات لا يلزمها سوى ممثل يمتهن التهريج وشخص سمين أو قصير القامة يتلقيان الإهانات والسخرية طوال الوقت من أشكالهم وخلقتهم!
هذا ليس فنّا ولا يمتّ للفن بصلة. وهو تسطيح للرسالة التي يقوم عليها الفنّ وأهم بنودها احترام الناس وتقديم قيمة جمالية ذات حسّ إنساني رفيع.
إذا لم يمكننا أن نتحلى بالشجاعة في توجيه النقد الساخر لأخطاء الناس ومواقفهم وظروفهم العامة، فلا ينبغي أن نسخر منهم أو نهين مشاعرهم، أو نتسبب في أي أذى نفسي أو معنوي تجاههم.. فأن نضحك أحدًا لا يعني أن نتسبب في حزن آخرين.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.