من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية
TT

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

كما أوضحنا من قبل، تنسب الدولة العثمانية إلى زعيمها عثمان بن أُرطُغرُل الذي هاجرت قبيلته التركية في أواخر القرن الثالث عشر إلى آسيا الصغرى (هضبة الأناضول). ويومذاك، انضمت لقوات السلطان السلجوقي علاء الدين خلال إحدى حروبه ضد التتار، فمنح السلطان هذه القبيلة أرضًا لتعيش فيها. ومن ثم، أخذت تتوسع تدريجيًا، خصوصا خلال حكم عثمان، إلى أن أصبحت دولة متوسطة الحجم، واتخذت مدينة بورصة عاصمة لها. وبعد وفاة عثمان، خلفه ابنه السلطان أورخان بن عثمان، فعزّز التوسع، وسيطر على بعض المناطق الأوروبية المحدودة مع مرور الوقت، وساعده على ذلك تنظيمه الجيد لجيشه، بما جعله جيشًا نظاميًا منضبطًا، وإصلاحه وتوسعه في الأسس الإدارية التي وضعها والده لإدارة دولته، فغدا للعثمانيين دولة قوية تنظيميًا وعسكريًا.
ولكن، على الرغم من إنجازات عثمان وأورخان، فإن كثيرين يعتبرون السلطان مراد الأول المؤسس الفعلي لـ«الإمبراطورية العثمانية»؛ ذلك أن مراد ابن أورخان، وحفيد عثمان، حوّل الدولة من مجرد دولة قوية تسيطر على الأناضول إلى إمبراطورية كبيرة تلعب الدور المحوري في شرق أوروبا بنهاية حكمه.
لقد ورث مراد الحكم من أبيه أورخان عام 1362، عندما كان في السادسة والثلاثين من عمره، وورث مع عرشه دولة منظمة قوية، غير أن حدودها كانت أضيق مما كان يحلم به هذا السلطان الشاب. وبالتالي، كرّس حكمه، الذي بلغ 27 سنة، لتحويل الدولة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، وفتح شرق أوروبا، ليس فقط للحكم العثماني، بل للاستيطان العثماني أيضًا.
واقع الأمر أن مراد تولى الحكم في دولة وضع والده لها الأساس الصلب لتوسعها ونموها التدريجي. وكما سبقت الإشارة، تمتعت الدولة البازغة بجيش منضبط قوي يعتمد في أساسه على ألوية الإنكشارية الشهيرة. وكلمة «إنكشارية» Janissaries مشتقة من كلمتي: «يني» و«شيري»، أي: «الجيش الجديد». وقد قامت على أساس من «ضريبة الذكور» التي كانت تفرض على المسيحيين في الأراضي المستولى عليها، إذ كان يؤخذ أفضل طفل في الأسرة المسيحية، ويُدخل في الإسلام، ويجري تدريبه روحيًا وجسديًا وعلميًا بمرور الوقت، ليصبح عسكريًا مثاليًا مضمون الولاء في الجيش العثماني. وبعدما كان عثمان يستخدم الإنكشارية حرسًا خاصًا له، طوّر مراد هذا الهدف، فجعلهم نواة مدرّبة وقوة نخبوية داخل جيشه، فتحوّلت هذه القوة مع الوقت إلى تشكيل عظيم يبث الرعب في نفوس الأعداء كلما واجههم.
وامتدت تركة السلطان مراد إلى أوروبا منذ حكم أورخان عام 1337، عندما وقعت الإمبراطورية البيزنطية في مأزق سياسي، لانقلاب قوة إسبانية على الإمبراطور البيزنطي، بعدما كانت تسانده، فصار في حالة يرثى لها. وحينذاك، طلب العون الفوري من السلطان الذي استغل الفرصة مباشرة للتدخل في الشؤون البيزنطية، ونشر بعض القوات في الأراضي الأوروبية الخاضعة لها، بحجة مساندة الإمبراطور، تمهيدًا لمزيد من التوسع.
ومع اضطراب أحوال الدولة البيزنطية، فُتح المجال على مصراعيه للعثمانيين من أجل زيادة رؤوس الجسر الحربية لهم في أوروبا، خصوصا عندما وقعت الحرب الأهلية في القسطنطينية (عاصمة تلك الدولة)، فدخلت الدولة العثمانية طرفًا أساسيًا فيها لحساب أحد الأمراء، وانتهت التسوية السياسية بزواج سياسي لابنة الإمبراطور الجديد من الأمير مراد.
اعتلى مراد السلطنة عام 1359، وكانت منطقة البلقان في شرق أوروبا ممهدة للتوسع العثماني، وهو أمر لم يتأخر السلطان الشاب في استغلاله، إذ وجه جيوشه بعد سنة فقط للاستيلاء على ممالك المنطقة لتوسيع رقعة دولته على حسابها. والحقيقة أن أوضاع البلقان، بصفة عامة، كانت مضطربة. فلقد كانت الدويلات الأوروبية الشرقية في نزاعات شبه دائمة، إما لأسباب تتعلق بتقسيم الأراضي ورسم الحدود، أو التنافس بين الأسر الحاكمة، أو نتيجة للاختلافات المذهبية التي عمّقت الفرقة بين الأقاليم المنتمية مذهبيًا لأوروبا الغربية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية المرتبطة بالكنيسة البيزنطية قبل استقلالها نتيجة الانشقاق الكبير بين كنيستي القسطنطينية (بيزنطة) وروما، عام 1054، حول قضية العقيدة والإيمان المرتبطة بالتثليث.
وعلى الفور، تحركت القوات العثمانية نحو «تراكيا» Thrace والبلقان، ودانت أجزاء كبيرة من الروملّي (بلغاريا الحالية) لتلك القوات المتدفقة، وتبعتها شمال اليونان وغيرها من المناطق المجاورة. وطبق مراد الأول سياسة حكيمة للغاية في صدامه العسكري للموازنة بين التوسعين الشرقي والغربي، ولم يقدم في أي وقت من الأوقات على فتح جبهتين له في آن واحد. فكان يستولى على مناطق في الغرب، وينتظر لبعض الوقت قبل أن يتوسع شرقًا. وحقًا، استطاع لاحقًا تركيز جهده الحربي على مدينة أدرنة المهمة (إلى الغرب من القسطنطينية / إسطنبول) في أوروبا، ففرض الحصار البري الكامل عليها إلى أن استسلمت له بالتفاوض والدبلوماسية، ولم يلبث أن جعلها العاصمة الجديدة للإمبراطورية العثمانية، وذلك بعدما دفعت الجزية، وشاركت أيضًا بقوة لها ضمن تشكيلات الجيش العثماني في فتوحاته التالية.
وعلى الرغم من المقاومة الشرسة التي واجهتها القوات العثمانية المتدفقة إلى أوروبا، استطاع مراد التغلب على المقاومين تدريجيًا، ولا سيما بعد أن فشلت مبادرة البابا أوربان الخامس في روما لتوحيد القوى الأوروبية بغية مواجهة المسلمين، بفعل انعدام الثقة التي واجهت هذه الدويلات والإمارات الأوروبية وقياداتها السياسية، وهذا ما أتاح لمراد ضم أجزاء من صربيا ومعظم منطقة البلقان، وقيادة التوسع شمالاً. وكفلت عبقرية هذا الرجل له القدرة على هضم هذه الأراضي الجديدة، كونه أدرك منذ البداية ضرورة استحداث نظم جديدة لإدارة هذه المناطق بشكل يضمن ولاءها، ويمنع الثورات الداخلية عليه. وعليه، وجّه باتباع سياسة تنظيمية كفلت الحرية الكاملة للعقيدة، بما في ذلك حرية البطريركية الأرثوذكسية، كي يضمن ولاء الرعايا الجدد، ولكن في الوقت نفسه نظم الأراضي بشكل جعل المزارعين والفلاحين أفضل حالاً مما كانوا عليه إبان خضوعهم للإقطاع الأوروبي قبل الفتح العثماني. وهكذا، ساد الرضى الشعبي المجتمعات العثمانية الجديدة مقارنة بالأنظمة السابقة. وأيضًا، فتح مراد المجال أمام التصعيد السياسي والاجتماعي لغير المسلمين في هذه المناطق، فسمح لبعض المسيحيين الأوروبيين بتولي مناصب قيادية في البلاط العثماني، وسمح أيضًا بانخراط الجيوش المهزومة داخل كتائب الجيش العثماني تحت قياداتها التقليدية، وهو ما كفل له قوة وطمأنينة ساعدته على مزيد من التوسع.
من ناحية أخرى، كان مراد الأول حصيفًا حكيمًا للغاية في استخدام قوته العسكرية، وتلميذًا نجيبًا لمبدأ «اقتصادات القوة»، وتمكن أن يكسب ولاء كثير من إمارات شرق أوروبا من خلال التعاون معهم، وضمها لإمبراطوريته بالتبعية عبر الجزية والولاء، مستخدمًا الوسائل الدبلوماسية لا القوة العسكرية. وهذا ما جعله يركز قواته نحو الأهداف التي تحتاج لكثافة عددية، إلى جانب اتباع سياسة استيطانية مُمنهَجة لنشر الوجود العثماني الفعلي في هذه الأراضي، إلى جانب السكان الأصليين، حتى يضمن ولاء العرقيات المختلفة له؛ وهي السياسية التي كفلت له السيطرة على هذه الأراضي الجديدة.
وواصل مراد الأول حملاته في البلقان حتى وقع الصدام بينه وبين الصرب الذين كانوا يمثلون قوة عسكرية شديدة البأس تاريخيًا. وعام 1389، خاضت القوات العثمانية معركتها الفاصلة ضدهم، وهي «معركة كوسوفو»، التي كانت واقعة حربية شديدة العنف سيحصل المنتصر فيها على صربيا بالكامل، بما فيها إقليم كوسوفو. وبعد معارك كرّ وفرّ، حقّقت القوات العثمانية نصرًا كبيرًا على الجيش الصربي. ولكن، خلال المعركة، هرب ميلوش، زوج ابنة القائد الصربي، واستسلم للعثمانيين بمكر، وطلب لقاء السلطان مراد. وبينما كان ينحني أمام مراد، عاجله بضربتين من خنجره في صدره أودتا بحياة هذا السلطان العظيم.. ولكن ليس قبل أن يصدر مراد آخر حكم له بإعدام ميلوش.
أسلم السلطان مراد الروح هناك، وجرى دفنه في محيط مدينة بريشتينا الشهيرة، عاصمة كوسوفو. وما زال قبره هناك مزارًا إلى يومنا هذا. ومن ثم، تولى الحكم خلفًا له ابنه بايزيد الأول، ولكن ليس قبل أن يقتل أخاه خليل لضمان عدم منافسته على الحكم، وهي الآفة التي اتسم بها السلاطين العثمانيون عبر تاريخهم.
بناءً على ما رأيناه، يستحق مراد الأول لقب «مؤسس الإمبراطورية العثمانية»، كونه نقلها من دولة متوسطة إلى إمبراطورية كبيرة. ولعل أعظم ما في هذا الرجل تلك المعادلة السياسية التي اتبعها خلال حكمه للموازنة بين الفتوحات العسكرية والقدرة على هضم الأراضي تباعًا دون عناء كبير. ومن ثم، فتحه المجال للتوطن العثماني في هذه الأراضي، وهو ما كفل له سياسة توسعية ثابتة ودولة مركزية قوية بدأت تلعب دورها في السياسة الأوروبية، وكادت خلال القرون التالية أن تجتاح غرب أوروبا، لولا الظروف السياسية والعسكرية المعاكسة التي لم تسمح لها بذلك.



متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.