تركيا بين حلب و الموصل

تضارب في المصالح الروسية ـ الأميركية.. والتدخلات الإيرانية تعقد الموقف

تركيا بين حلب و الموصل
TT

تركيا بين حلب و الموصل

تركيا بين حلب و الموصل

أعلنت تركيا، خلال هذا الأسبوع، مجددًا أنها لن تتراجع عن أهدافها، سواء في شمال سوريا، من أجل تأمين حدودها وتطهيرها من التنظيمات الإرهابية، وتعني بها «داعش» والأكراد ممن تعتبرهم امتدادا لمنظمة حزب العمال الكردستاني المصنفة لديها على أنها منظمة إرهابية، أو بالنسبة لشمال العراق، حيث ترى ضرورة مشاركتها في معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، عبر معركة تخطط لها واشنطن، وإن لم تتضح معالمهما بعد. وفي كلتا الحالتين، أكدت تركيا أنه لا أطماع لها في البلدين، مشددة على أن هدفها هو حماية وحدة أراضي سوريا والعراق، وضمان وحدة الأراضي التركية أيضًا، ودرء التهديدات الإرهابية الآتية من «جاريها» المأزومين.
في سوريا، تؤكد أنقرة أنها ستستمر بعملية «درع الفرات» إلى حين تطهير مدينة الباب والمساحة المحيطة بها، البالغة 5 آلاف كيلومتر مربع، من جميع التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» وحزب الاتحاد الديمقراطي وميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية.
ومعلومٌ أن لدى تركيا أيضًا الاستعداد للمشاركة في عملية تحرير مدينة الرقّة، ولكن بشرط استبعاد الميليشيات الكردية، إلا أن واشنطن لا تبدي تحمّسًا لهذا المطلب. ومن ثم، يرى محللون ومراقبون أن الظروف التي تعيشها الولايات المتحدة حاليًا وأجواء انتخابات الرئاسة تجعلها في وضع من لا يستطيع الحسم، وأنها تسعى لفتح جبهة الموصل للتغطية على إخفاقها في سوريا.
* مسرحية حلب
الأكاديمي والمحلل السياسي التركي الدكتور سمير صالحة يرى أن كلاً من موسكو وواشنطن «ما كانتا جادتين في اتفاقية وقف الأعمال القتالية في حلب التي أعلنت في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، وفتح الطريق لوصول المساعدات الإنسانية لسكان حلب المحاصرين، ولم يعد الأمر كونه مسرحية، حيث شابها الغموض وكثير من علامات الاستفهام حول المضمون وطريقة التنفيذ والضمانات القانونية».
وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال صالحة: «السؤال هنا هو: من يتحمل هذا الإخفاق؟»، مضيفًا: «إن المسؤولية تقع على الطرفين معًا، روسيا وأميركا، لأنه لو كانت هناك رغبة حقيقة لفتح الطريق أمام الحل في حلب، لتقدم النقاش بشكل واضح يتسم بالشفافية، غير أن ما حدث هو محاولة فرض ما تم الاتفاق عليه على الشركاء والحلفاء».
ولفت صالحة إلى أن أميركا «لم تتعاط إيجابيًا مع الخطة التركية في عملية (درع الفرات)، واتضح هذا فيما بعد. وكما نرى الآن، في التنسيق الأميركي مع الحكومة المركزية في العراق، فقد حمّلت أنقرة رؤيتها بالنسبة للعملية العسكرية في الموصل لمساعد وزير الخارجية الأميركي خلال زيارته الأخيرة، ووعد الجانب الأميركي بمناقشتها مع حكومة بغداد. لكن ما حدث هو العكس، إذ فرض الجانب الأميركي على بغداد فرضًا أن ترفض هذه المواد التركية، ثم تحركت واشنطن لتبرّر للعراق أسباب رفض وجود القوات التركية في بعشيقة، ولتذهب أبعد من ذلك للقول إن الوجود التركي ليس في إطار التحالف الدولي، وهو بالتالي عملية غير شرعية».
* أزمة المعادلة الأميركية
وأضاف الدكتور صالحة، خلال اللقاء، أن «الفشل في موضوع الهدنة في حلب، وإخفاق واشنطن في تحقيق ما تريد من عملية (درع الفرات) جعلاها تتوجه إلى منحى آخر، هو إعطاء الأولوية لمعركة الموصل على معركة الرقّة. وهي تريد من خلال تحريك جبهة الموصل أن تحقق أهدافها في العراق، بعدما فشلت في سوريا بسبب التعنّت الروسي، والموقف التركي المتمثّل بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر»، والتوجه إلى معركة الباب وحسم مسألة وجود الميليشيات الكردية في منبج. إن ما حدث على الأرض في سوريا لم يطمئن واشنطن إلى أي ظروف سياسية أو عسكرية، ولذلك توجّهت إلى الموصل كي تصحّح المعادلات من منظورها للأمور. ولا بد من ربط هذا التصعيد العراقي ضد تركيا بالرغبة الأميركية في قلب الأمور لصالحها، وتعزيز نقاطها التي تراجعت في الجبهة السورية».
واعتبر الأكاديمي التركي أن الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا، بعد غد (الاثنين)، ستكون «زيارة حاسمة في تحقيق تفاهم تركي - روسي شامل بالنسبة للملف السوري، وليس فقط (درع الفرات)»، وتوقع أن يشمل «مستقبل حلب، وحسابات واشنطن وبغداد بالنسبة للموصل، ومحاولات أميركا استخدامها كورقة لتحقيق معادلتها الخاصة في الملفين السوري والعراقي».
* أهداف تركيا
مما لا شك فيه أن تركيا حدّدت أهدافها بدقة من عملية (درع الفرات)، وهي ترى أن الظروف مهيأة للاستمرار فيها، وهو ما أكدته مصادر دبلوماسية تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، إذ ترى هذه المصادر أن تصعيد أنقرة لهجتها ضد أكراد سوريا، والتصريحات المتشدّدة التي تعاقبت على ألسنة المسؤولين الأتراك، بدءًا من الرئيس رجب طيب إردوغان وصولاً إلى الوزراء في الحكومة التركية، إنما هدفها هو الضغط على واشنطن لضمان وفائها بتعهداتها بانتقال الميليشيات الكردية إلى شرق نهر الفرات، وتحييدهم في عملية الرقة المحتملة، ومنع تسليحهم.
وتؤكد المصادر أن تركيا جادة في ضمان إقامة «المنطقة الآمنة» بطول حدودها مع سوريا، البالغة 911 كيلومترا بعمق 45 كيلومترًا، وعلى المساحة التي تتحدث عنها، وهي 5 آلاف متر مربع. وتضيف أن الحديث عن الوصول بعملية «درع الفرات» إلى مدينة الباب، هو من أجل التلويح بأن لدى تركيا القدرة على دخول حلب، وإن كان من المستبعد أن تقدم على مثل هذه الخطوة كي لا تصطدم مع روسيا التي تتولى راهنًا ملف حلب.
ووفقًا لهذه المصادر، فإن أنقرة تعتقد أن واشنطن وموسكو لن تتمكنا من التوصل إلى اتفاق بشأن سوريا. ولذا، تريد جعل المنطقة الآمنة أمرًا واقعًا في ظل التخبط القائم حاليًا، لا سيما أنه لم تصدر اعتراضات من جانب واشنطن أو موسكو، أو حتى من إيران وسوريا، على إقامة مثل هذه المنطقة.
كذلك ترى المصادر أن تركيا بدأت استعدادات جدية لتوطين اللاجئين السوريين في «المنطقة الآمنة»، بدعم من بعض الأطراف الفاعلة في المنطقة التي تتفق معها في الرؤية والمواقف بشأن الملف السوري.
* التحركات الروسية
من ناحية ثانية، يقول خبيران تركيان إن خطوة موسكو المتمثلة بزيادة تعزيزاتها العسكرية في سوريا خلال الأيام الأخيرة، تأتي رسالة واضحة موجهة لواشنطن الغاية منها دفع الأميركيين إلى استبعاد الخيار العسكري لحل الأزمة السورية، وذلك بعد تداول وسائل إعلام أميركية أنباء بإعادة طرح الخيار العسكري مجددا في أروقة صناعة القرار الأميركية، بعد إعلان واشنطن تعليق مشاركتها في قنوات الاتصال الثنائية مع موسكو.
مسعود حقي جاشين، الأكاديمي التركي المتخصص في العلاقات الدولية، يقول إن «التحركات الروسية الأخيرة تصب في خانة رغبة روسيا بلعب دورها السابق، كقطب في الحرب الباردة».
ويلفت جاشين إلى أن روسيا «حققت تفوقًا عسكريًا في الأجواء السورية على الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده، بالتوازي مع زيادة نفوذها العسكري في بحر البلطيق ومناطق كثيرة حول العالم، وهي ترد على كل تصعيد لواشنطن بـ7 أو 8 أضعاف»، معتبرًا أن هذا التصعيد الروسي «خطير جدًا».
ومن جانب آخر، يرى مراد يشيل تاش، مدير الأبحاث الأمنية في مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (سيتا)، أنه «لا يجوز النظر إلى التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا على أنها موجهة ضد قوات المعارضة المسلحة هناك بشكل مباشر، بل هي رسالة واضحة موجهة لواشنطن، مفادها استبعاد الحل العسكري كخيار لحل المسألة السورية».
* تركيا والعراق
وفي ظل هذا التشابك في المواقف، وفي ظل التقدم التركي في عملية «درع الفرات»، قفز إلى السطح التوتر بين أنقرة وبغداد الذي فتح مبكرًا، وعلى الصعيد السياسي معركة الموصل قبل أن تبدأ ميدانيًا، وذلك سعيا لإبعاد تركيا عنها بدعم من قوى إقليمية متدخلة في سوريا والعراق، في مقدمتها إيران، وكذلك بدعم من واشنطن، لتثور التساؤلات حول آفاق هذا التعقيد في الموقف، وكيف ستواجهه تركيا.
وفي هذا السياق، يقول أرشد هورموزلو، كبير مستشاري الرئيس التركي السابق عبد الله غل لشؤون الشرق الأوسط، إن «سياسة تركيا تقوم على تأييد وحدة أراضي العراق وسيادته، وليست لديها مطامع إقليمية في أية دولة في المنطقة، وهي ترفض ما يُقال عن العثمانية الجديدة لأن هدفها الأساسي هو التصدي للمنظمات الإرهابية، سواءً كانت متمثلة في (داعش) أو العمال الكردستاني أو امتداده في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي) وميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية»، مستطردا: «لتركيا مبررات قوية جدًا، وهي أنه تربطها حدود مع العراق تمتد لنحو 420 كيلومترًا، ومع سوريا لنحو 920 كيلومترًا. وبالتالي، يجب أن تحمي نفسها من التهديدات الإرهابية، وأن تضمن سلامة أراضيها ومواطنيها».
ويضيف هورموزلو، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «عندما نأتي بشكل خاص إلى موضوع العراق، وما أثير حول الوجود العسكري التركي المحدود في معسكر بعشيقة، فإنه تم بموافقة الحكومة المركزية في بغداد، وبموافقة الإدارة الكردية في إقليم كردستان شمال العراق، وفي إطار مهام تدريبية كما تفعل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا أو عشرات الدول التي توجد قواتها في العراق، بما فيها نيوزيلندا. وكان على الإخوة العراقيين أن يتحمّسوا للوجود التركي لأنهم يعرفون جيدا أن لا مطامع لتركيا في بلادهم، وكل ما يقال عن أطماع في الموصل هي مسألة عفا عليها الزمن. والعراقيون يعرفون أن تركيا تحترم سيادة وحدود الدول الموجودة في المنطقة، صغيرة أم كبيرة، ولذلك يجب أن يكون هناك حوار بين الأطراف المعنية لمعرفة لماذا اتخذ هذا الموقف أو ذاك».
ويتابع المستشار الرئاسي السابق: «لكن للأسف هناك مطالبات معينة من قبل قسم من الميليشيات الموجودة في العراق، على الرغم من أن وجودها محظور بموجب الدستور العراقي الذي وضع عام 2005. وهناك أمر واقع، فثمة قسم من هذه الميليشيات يتعاون مع المنظمات الإرهابية، سواء أجنبية أو محلية. وعليه، فبطبيعة الحال ليس من مصلحتها أن تكون هناك قوة كبيرة ومتمكنة، مثل تركيا، في الحدود جاهزة للتدخل المباشر عندما تكون هناك أخطاء. ولذا، لا بد من الحوار الجاد دون لجوء للتهديدات والتصعيد الإعلامي من جهة أو أخرى».
ويلفت هورموزلو إلى «أن هناك دولا إقليمية لها وجود كبير في العراق، وتركيا لا تعارض ذلك ما دامت الحكومة المركزية في العراق تقبل، غير أن حكومة بغداد يجب أن تعلم، في المقابل، أن تركيا لها أشقاء في العراق، هم التركمان والعرب والأكراد وجميع الإثنيات الأخرى. وبالتالي، يجب أن تسمح لها بمد يد المساعدة لهم».
ومن ناحية ثانية، ينتقد هورموزلو موقف واشنطن مما تقوم به تركيا، سواء في سوريا أو ما تريد عمله من أجل الإخوة في العراق، معتبرًا أنه «لا يتوافق مع القواعد الأخلاقية، ولا مع ما يقتضيه التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة».
* انزعاج إيراني
وعلى الصعيد المتعلق بإيران، يرى رسول طوسون، النائب السابق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في البرلمان التركي والكاتب في صحيفة «ستار»، أن «أكثر من يتحمل مسؤولية الفوضى في سوريا والعراق هي الولايات المتحدة الأميركية التي لا ترى شيئًا في المنطقة غير المحافظة على أمن إسرائيل. فرغم أنّ أميركا تدعي أنها تواجه الإرهاب، فإن سياستها الحقيقية تدعم المنظمات الإرهابية على الأرض»، مردفا: «لا شك أيضًا أن عملية (درع الفرات) التي قادتها تركيا في سوريا أزعجت وأثارت قلق الإيرانيين حول إمكانية قيام تركيا بعملية مماثلة لتخليص الموصل من يد (داعش)، بعد عجز الحكومة العراقية عن القيام بذلك. ويزداد قلقهم خصوصا مع تصريحات الرئيس رجب طيب إردوغان الأخيرة حول اتفاقية لوزان، خوفا من إمكانية إلحاق الموصل بهذه النقاشات، رغم أنّ الموصل الآن تحت سيطرة (داعش)، ولا تخضع لسيطرة الدولة العراقية». ويلفت طوسون إلى أن تركيا «أكدت مرارًا موقفها الثابت تجاه وحدة الأراضي السورية ووحدة الأراضي العراقية، بينما تتحدث الولايات المتحدة وتتخذ سياسات أقرب لتقسيم الدولتين. ومع هذا، لا تزال الحكومة العراقية تركن إلى الولايات المتحدة أكثر مما تركن إلى تركيا.. إن أصل المشكلة يكمن في الجهة التي تقف خلف الحكومة العراقية، وتنزعج من زيادة نفوذ تركيا في المنطقة». ويعتبر طوسون، أخيرًا، أن «محاولة بعض رجال الدين الشيعة تفضيل التقارب مع الغرب غير المسلم على التقارب مع تركيا لعبة خطرة، وعلى إيران أنْ تكون حذرة جدا تجاه هذا الأمر، كما أن على الدولة العراقية ألا تنشغل أو تخضع للسياسات الطائفية، بل عليها أنْ تعمل جاهدة على حماية ووحدة الأراضي العراقية، وتوحيد العراقيين. لكن إذا فقد العراق وحدة أراضيه، فحينذاك سيحق لتركيا أن تكون لها كلمة.. نحن هنا نتحدث عن حق تاريخي وجغرافي لتركيا».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.