حنة أرنت.. التباسات الحرية

مقاومتها للصمت والتواطؤ لم تؤد إلى رؤية أكثر رحابة على المستوى الإنساني

حنة أرنت
حنة أرنت
TT

حنة أرنت.. التباسات الحرية

حنة أرنت
حنة أرنت

في لقاء على التلفزيون الألماني أجراه معها الصحافي غنتر غوس عام 1964، طرح مجري اللقاء سؤالاً عما إذا كانت أرنت ترى أن الصمت كان أولى بها حيال قضية آيخمان بالنظر إلى ردود الفعل العنيفة التي تلت نشر ما كتبته حول تلك القضية. جاءت إجابة أرنت أن واجب المؤرخ، كما هو واجب العالم بشكل عام، أن يروي الحقائق المتصلة بالواقع، أو ما تسميه «حقائق الوقائع» في مقابل «حقائق الآراء». واستشهدت بمثل لاتيني بعد تعديله ليقول: «لتُعلَن الحقيقة وليهلك العالم» (بدلاً من «لتحِل العدالة وليهلك العالم). ومع أن أرنت أكدت حقها بل وإصرارها على إعلان الحقيقة، فإن تفريقها بين حقائق الواقع وحقائق الآراء يوحي برغبة في الاحتفاظ بخط رجعة: «ليس المرء مضطرًا دائمًا لأن يتكلم. ولكننا الآن نأتي إلى المسألة التي كانت في القرن الثامن عشر تسمى «حقائق الواقع». هذه في الحقيقة مسألة حقائق وقائعية. ليست مسألة حقائق آراء. العلوم التاريخية في الجامعات ترعى حقائق الوقائع.
تكاد أرنت هنا تتراجع باحتمائها بما تسميه حقائق الوقائع، أو ما تكاد تسميه حقائق علمية لا مجال للجدال فيها. إنها لا تعبر عن رأي وإنما تصف حقائق على الواقع، حقائق مشاهدة ومثبتة. والقول بهذه الحقائق، على عكس القول بحقائق الرأي، يعفي من المسؤولية، تمامًا كما هو حال الفيزيائي حين يتحدث عن قوانين الحركة أو الضوء، فذلك ليس رأيه وإنما هي معطيات الطبيعة.
تستشهد أرنت في اللقاء نفسه بالشاعر الألماني شِلَر وبالمؤرخ اليوناني هيرودوتس اللذين تحدثا عن المهزومين والأعداء بإنصاف أو حياد. ما يهمها إيضاحه هو أن حب الإنسان لوطنه لا يجب أن يثنيه عن قول الحق أو عن أن يكون منصفًا أو محايدًا حتى مع أعداء وطنه. أمام امتحان إخلاصها لليهود تجد المفكرة الألمانية اليهودية حاجة ملحة للتذكير بنوع من الحب الزائف «إذا لم يكن شخص ما قادرًا على الحياد لأنه يتظاهر بأنه محب لشعبه إلى حد أنه يثني عليهم كل الوقت... لا أعتقد أن أناسًا مثل ذاك وطنيين». غير أن تفادي قول الحقيقة هو ما ينقذ الإنسان في كثير من المواقف، وقولها، في المقابل، مهلكة أدركها الفلاسفة والحكماء قديمًا وحديثًا، والحقيقة هي أن أكثر المبادئ عرضة للتهميش أو التفادي في سبيل البقاء لا سيما حين يتصل الأمر بالسياسة التي تناقشها أرنت في سياق العلاقة بينها وبين الحقيقة. تقول أرنت: «مع أننا قد نرفض حتى سؤال أنفسنا ما إذا كانت الحياة جديرة بأن نحياها في عالم يخلو من مفاهيم كالعدل والحرية، فإن ذلك السؤال، يا للغرابة، لا يمكن طرحه في ما يتعلق بفكرة تبدو أقل سياسية كالحقيقة».
في مقالتها «الحقيقة والسياسة» المقتبسة هنا تميز أرنت بين حقيقة الرأي وحقيقة الوقائع، كما ألمحت قبل قليل، وترى أن الأضعف هو دائمًا حقيقة الوقائع، الحقيقة التي لا تعتمد على وجهة نظر أو تصورات شخصية مسيسة أو مؤدلجة. وترى أن هذا الضعف يبدو واضحًا في المواجهة بين الحقيقة والقوة، أي عند مواجهة السطوة السياسية بشكل خاص. التاريخ يكتبه الأقوياء، بتعبير آخر، وسيزيلون من السجلات كل ما هو منافٍ لمصلحتهم، لتصبح عملية استعادته بالغة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة. وتضرب أرنت لذلك بمثال من التاريخ الحديث فتشير إلى تروتسكي ودوره في الثورة الروسية، تروتسكي «الذي لا يظهر في أي من كتب التاريخ الروسي السوفياتي». بيد أن أرنت وهي تنعي على التاريخ وسطوة السياسة تغييب أسماء مثل تروتسكي وغيره تنسى، أو تبدو كما لو أنها تنسى، أن خطابًا كخطابها المقاوم لتلك السطوة يمثل استعادة لمن سعى التاريخ والسياسة إلى تغييبهم.
ما تفعله أرنت هو إنشاء خطاب للحقيقة الغائبة أو بالأحرى المغيّبة سواء اتصلت بالهولوكوست ومعاداة السامية أو بالأنظمة الشمولية وسطوة السياسة. وهي إذ تفعل ذلك تدرك دون شك أنها لم تكن لتستطيع فعل ذلك دون حرية اكتسبتها في مهاجرها، الولايات المتحدة، البلد الذي اختارته وطنًا بديلاً واكتسبت جنسيته. قيمة عملها وأهميته تعتمد على تلك المقاومة المتاحة، لكن كما تبين في مرحلة تالية لكتاب ومفكرين آخرين من ذوي الأصل اليهودي مثل تشومسكي وتوني جت، كتاب أرقهم الكثير مما أرق أرنت، لا يعني الكشف عن الحقائق الغائبة إمكانية إحداث تغيير ملموس في الأوضاع السياسية والآيديولوجيات التي أدت وتؤدي إلى تغييبها. لكن يظل الكشف خطوة أولى وأساسية في الطريق نحو ذلك التغيير، وهو تغيير حدث دون شك، وإن بشكل محدود، فيما يتصل بأوضاع مختلفة اجتماعية وسياسية لا سيما أوضاع الجماعات والأفراد المهاجرين من ألمانيا بعد الحرب، واليهود في طليعتهم. وما تسعى إليه أرنت في الكثير مما كتبت هو توسيع دائرة ذلك التغيير الذي لم يكن أثناء حياتها قد بلغ ما بلغه اليوم، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك فإن المرء يظل يفاجأ بكثرة المقولات والآراء التي أطلقتها في الخمسينات والستينات على الحال اليوم، لا سيما في نقدها للحريات المتاحة في الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية، تقول أرنت، كان الحديث عن الحقائق أو الوقائع التاريخية مثل «مراكز الاحتجاز والإبادة» أخطر من الحديث عن الآيديولوجيات مثل الشيوعية ومعاداة السامية. لكن تلك الخطورة وإن غابت في الغرب المعاصر، فإن حالة غريبة «وأكثر إثارة للقلق» تسود اليوم في «البلاد الحرة»، أي أوروبا الغربية وأميركا، تتمثل في أنه «بالقدر الذي يُتسامح فيه بشأن الحقائق غير المرغوب بها، فإن تلك الحقائق، بوعي أو من دون وعي، تُحوّل إلى آراء». إنه التهميش الذي ينتج عما سيطلق عليه نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان في أواخر الثمانينات من القرن العشرين «صناعة الموافقة»، أي حالة القبول التي تأتلف في تصنيعها الإدارة السياسية والإعلام بشكل خاص. وعلى هذا الأساس تعبر أرنت عن تعجبها واستيائها من النظر إلى دعم ألمانيا لهتلر أو لانهيار فرنسا عام 1940 «كما لو لم تكن مسألة موثقة تاريخيًا وإنما مسألة رأي». ومسألة الرأي هذه، كما يراها الغربيون اليوم، لا تحمل ثقل التاريخ الموثق فحسب بالنسبة لامرأة هربت من المعتقلات النازية وشاركت في النشاط الصهيوني لإنقاذ أطفال اليهود ونقلهم إلى إسرائيل التي كانت تولد آنذاك. وهي من هنا تنشئ خطابها الذي يمتزج فيه التحليل والتنظير التاريخيين بالاحتجاج المعبر عن مقاومة الصمت والتواطؤ.
مقاومة أرنت للصمت والتواطؤ لم تؤد مع الأسف إلى رؤية أكثر رحابة على المستوى الإنساني، إلى مقاومة للصمت والتواطؤ حين يتصل الأمر بإثنيات وجماعات غير غربية وغير بيضاء كالأفارقة الأميركيين، أو بشعوب كشعب فلسطين، مثلاً. لقد عبرت المفكرة الألمانية عن موقف يضج بالعنصرية تجاه الاحتجاجات الطلابية في أميركا في فترة الستينات من القرن العشرين. ففي مقالة شهيرة لها بعنوان «حول العنف» نشرت فيما بعد في كتاب، انتقدت أرنت مطالب الطلبة الأميركيين السود في مظاهرات 1968 التي اجتاحت بعض الجامعات الأميركية. بل إنها لم تكتف بانتقاد المطالب وإنما ذهبت إلى أن الطلبة السود، أو الزنوج، كم سمتهم بالاسم العنصري الشائع آنذاك، لتغض من شأنهم «قبلت غالبيتهم في الكليات من دون أن تكون للواحد منهم مواصفات أكاديمية تسمح له بذلك...».
ثم تشير أرنت إلى مطالب التعددية الثقافية في مناهج الجامعات التي طالب بها السود فتقول إنها «مطالب حمقاء»، مبررة ذلك في ملاحظة هامشية طويلة تتحدث فيها عن خطورة الاستسلام لمطالب كتلك، منها قولها: «الأخطر من هذا بكثير ما نتوقعه من أنه خلال خمسة أعوام أو عشرة أعوام سوف ينظر إلى تدريس اللغة السواحلية (وهي خليط لغوي من العربية واللهجات الأفريقية، كان رائجًا خلال القرن التاسع عشر)، والأدب الأفريقي وغيرها من المواضيع التي لا وجود لها، على أنها أفخاخ أخرى نصبها الإنسان الأبيض لمنع السود من الحصول على دراسة ملائمة وحقيقية».
اللافت في هذا الخطاب العنصري هو أنه يصدر عن باحثة ومفكرة جندت نفسها للكشف عن العنصرية والاضطهاد المبني على التمايز العرقي، كما في معاداة السامية، وفي الملاحظة المقتبسة أعلاه ملاحظة استدراكية ترد عبارة تتضمن وعيها بخطورة ما تقول، وأنه عرضة للتفسير بأنه يتكئ على نظرة استعلائية عنصرية، فهي ترى «أن المرء بحاجة إلى قدر كبير من الشجاعة حتى يتكلم بصورة عقلانية عن هذا النوع من المواضيع»، وتستدل بذلك على «الحالة الذهنية والمعنوية للمجتمع».



«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة
TT

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

أعلنت «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»، في الكويت، اليوم (الأحد)، عن القائمة الطويلة لدورتها السابعة (2024 - 2025)، حيث تقدَّم للجائزة في هذه الدورة 133 مجموعة قصصية، من 18 دولة عربية وأجنبية. وتُعتبر الجائزة الأرفع في حقل القصة القصيرة العربيّة.

وقال «الملتقى» إن جائزة هذا العام تأتي ضمن فعاليات اختيار الكويت عاصمة للثقافة العربية، والإعلام العربي لعام 2025، وفي تعاون مشترك بين «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، و«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»، في دورتها السابعة (2024 - 2025).

وتأهَّل للقائمة الطويلة 10 قاصّين عرب، وهم: أحمد الخميسي (مصر) عن مجموعة «حفيف صندل» الصادرة عن «كيان للنشر»، وإيناس العباسي (تونس) عن مجموعة «ليلة صيد الخنازير» الصادرة عن «دار ممدوح عدوان للنشر»، وخالد الشبيب (سوريا) عن مجموعة «صوت الصمت» الصادرة عن «موزاييك للدراسات والنشر»، وزياد خدّاش الجراح (فسطين) عن مجموعة «تدلّ علينا» الصادرة عن «منشورات المتوسط»، وسامر أنور الشمالي (سوريا) عن مجموعة «شائعات عابرة للمدن» الصادرة عن «دار كتبنا»، وعبد الرحمن عفيف (الدنمارك) عن مجموعة «روزنامة الأغبرة أيام الأمل» الصادرة عن «منشورات رامينا»، ومحمد الراشدي (السعودية) عن مجموعة «الإشارة الرابعة» الصادرة عن «e - Kutub Ltd»، ومحمد خلفوف (المغرب) عن مجموعة «إقامة في القلق» الصادرة عن «دار إتقان للنشر»، ونجمة إدريس (الكويت) عن مجموعة «كنفاه» الصادرة عن «دار صوفيا للنشر والتوزيع»، وهوشنك أوسي (بلجيكا) عن مجموعة «رصاصة بألف عين» الصادرة عن «بتانة الثقافية».

وكانت إدارة الجائزة قد أعلنت عن لجنة التحكيم المؤلّفة من الدكتور أمير تاج السر (رئيساً)، وعضوية كل من الدكتور محمد اليحيائي، الدكتورة نورة القحطاني، الدكتور شريف الجيّار، الدكتور فهد الهندال.

النصّ والإبداع

وقال «الملتقى» إن لجنة التحكيم عملت خلال هذه الدورة وفق معايير خاصّة بها لتحكيم المجاميع القصصيّة، تمثّلت في التركيز على العناصر الفنية التي تشمل جدة بناء النصّ، من خلال طريقة السرد التي يتّخذها الكاتب، ومناسبتها لفنّ القصّ. وتمتّع النصّ بالإبداع، والقوّة الملهمة الحاضرة فيه، وابتكار صيغ لغوية وتراكيب جديدة، وقدرة الرؤية الفنيّة للنصّ على طرح القيم الإنسانيّة، وكذلك حضور تقنيّات القصّ الحديث، كالمفارقة، وكسر أفق التوقّع، وتوظيف الحكاية، والانزياح عن المألوف، ومحاكاة النصوص للواقع. كما تشمل تمتّع الفضاء النصّي بالخصوصيّة، من خلال محليّته وانفتاحه على قضايا إنسانية النزعة.

وقالت إن قرارها باختيار المجموعات العشر جاء على أثر اجتماعات ونقاشات مستفيضة ومداولات متعددة امتدت طوال الأشهر الماضية بين أعضاء اللجنة، للوصول إلى أهم المجاميع القصصيّة التي تستحق بجدارة أن تكون حاضرة في القائمة الطويلة للجائزة، المكوّنة من 10 مجاميع، بحيث تقدّم مشهداً إبداعياً قصصياً عربياً دالّاً على أهمية فن القصة القصيرة العربية، ومعالجته لأهم القضايا التي تهم المواطن العربي، ضمن فضاء إبداعي أدبي عالمي.

وستُعلن «القائمة القصيرة» لجائزة «الملتقى» المكوّنة من 5 مجاميع قصصيّة بتاريخ 15 يناير (كانون الثاني) 2025، كما ستجتمع لجنة التحكيم في دولة الكويت، تحت مظلة «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، في منتصف شهر فبراير (شباط) 2025، لاختيار وإعلان الفائز. وسيُقيم المجلس الوطني احتفالية الجائزة ضمن فعاليات اختيار الكويت عاصمة للثقافة والإعلام العربي لعام 2025. وستُقام ندوة قصصية بنشاط ثقافي يمتد ليومين مصاحبين لاحتفالية الجائزة. وذلك بمشاركة كوكبة من كتّاب القصّة القصيرة العربيّة، ونقّادها، وعدد من الناشرين، والمترجمين العالميين.