الروائية وأستاذة الفلسفة آيريس ميردوخ (1919 - 1999) واحدة من أغزر كتاب الأدب الإنجليزي إنتاجا في القرن العشرين، أنتجت قبل إصابتها بمرض الزهايمر في سنواتها الأخيرة ستا وعشرين رواية، وكتابا عن جان بول سارتر، ومحاورتين أفلاطونيتين، وأكثر من ثلاثين مقالة متفرقة، وكتابين في الفلسفة، هما «سيادة الخير» (1970) و«الميتافيزيقيا مرشدا إلى الأخلاق» (1992).
وخلال العام الماضي (2015) صدر عن دار «تشاتو وونداس» للنشر بلندن كتاب من 666 صفحة عنوانه «العيش على الورق: رسائل من آيريس ميردوخ 1934 - 1995» حررته اثنتان من المتخصصات في أدب ميردوخ، هما: أفريل هورنر وآن راو
Living on Paper: Letters from Iris Murdoch 1934 - 1995. edited by Avril Horner and Anne Rowe، London: Chatto and Windns، 2015، 666 pp.
ويستمد الكتاب عنوانه من قول ميردوخ في رسالة إلى ديفيد هيكس بتاريخ 5 يناير (كانون الثاني) 1946: «ومع ذلك؛ فإن الكلمات مهمة اليوم إلى الحد الذي يجعلنا نعيش على الورق مرة أخرى». وبعد اثنين وعشرين عاما تكتب في رسالة إلى فيليبا فوت بتاريخ يونيه 1968: «أستطيع أن أعيش في الرسائل». وقبل ذلك بشهر تقول في رسالة إلى هذه الأخيرة: «إني كاتبة رسائل لا تكل». وفي 1992 قالت: إنها تقتضي مدة قد تصل إلى أربع ساعات من كل يوم في كتابة رسائل إلى أصدقائها ومعارفها ومحبي أعمالها.
وحقا كانت ميردوخ في كل مراحل عمرها لا تكف عن كتابة الرسائل (كانت تكتب رسائلها بخط اليد بقلم حبر). وتقول محررتا الكتاب إنهما قرأتا أكثر من خمسمائة رسالة بقلمها – موزعة بين بريطانيا وبلدان أخرى - من أجل اختيار الرسائل التي يشتمل عليها هذا الكتاب. وبذلتا جهدا في تأريخ الرسائل؛ إذ كان من عادة ميردوخ في رسائلها الأولى أن تذكر اليوم والشهر دون ذكر السنة. أما رسائلها اللاحقة فلم تكن أحيانا تحمل تاريخا على الإطلاق.
والكتاب محلى بمجموعة من الصور الفوتوغرافية تصور ميردوخ في مختلف مراحل حياتها وصديقاتها وأصدقاءها، فضلا عن شخصيات أدبية وفكرية مثل الروائي الفرنسي ريمون كوينو، والروائية البريطانية بريجيد بروفي، والروائي المجري إلياس كانيتي، والفيلسوف البريطاني ا.ج.آير، وصورتها مع زوجها الناقد والأستاذ الجامعي جون بيلي في حديقة بيتهما، وصورتها وهي تمارس رياضة السباحة، أو وهي جالسة إلى مكتبها ومن ورائها أرفف مكتبتها.
ويوضح الكتاب أن ميردوخ، على اشتهارها في الحقل الفلسفي، لم تتزحزح قط عن اعتقادها أن الأدب أهم من الفلسفة. تقول: «من أجل كل من الخلاص الجمعي والخلاص الفردي للنوع الإنساني، فإن الفن من غير شك أهم من الفلسفة، والأدب أهم من الجميع». وحين تتحدث عن الحب تقول إن أعلى أشكاله هو «إدراك وجود الأفراد الآخرين. فالحب هو الإدراك –بالغ الصعوبة - أن شيئا غير الذات حقيقي».
وتشي رسائل ميردوخ بما كانت تتمتع به من حس بالفكاهة و«الشقاوة» المتجلية في عدم توقيرها كثيرا من الأمور المتعارف عليها. كذلك تقدم صورة للتفاصيل الدقيقة في حياتها اليومية، وأسفارها الكثيرة، واهتمامها بالثقافات الأخرى، وحبها لفن التصوير واللغات. والأهم من هذا كله أنها ترسم صورة قوية حية لما كانت عليه: إنسانة وكاتبة، امرأة وفيلسوفة.
وينتهي الكتاب بتعريف بأهم الأعلام والأصدقاء والعشاق الذين كتبت إليهم ميردوخ، والمدارس الفكرية التي اشتبكت معها بالموافقة أو المخالفة، مثل السلوكية والتفكيكية والوجودية والوضعية المنطقية.
وقد قسمت المحررتان الكتاب إلى ثمانية أقسام تغطي مختلف مراحل ميردوخ منذ مولدها في شمال دبلن، والتحاقها بكلية سومرفيل في جامعة أكسفورد، ودراستها اللغتين اليونانية واللاتينية وأدبهما، والفلسفة والتاريخ القديم إلى السنوات الأخيرة من حياتها.
وأول رسالة في الكتاب (29 أغسطس/آب 1934) موجهة من ميردوخ إلى صديقة لها تدعى آن ليتش، وقد كتبتها من آيرلندا، حيث كانت تقضي عطلة مع أبويها، وكانت آنذاك تلميذة في مدرسة باوفتون. وتبدأ الرسالة بقولها: «عزيزتي آن.هالو. إن سماء رمادية لا هوادة فيها قد ظلت تصب المطر علينا طوال الأسبوع الماضي، وقد نسيت الشمس كيف تشرق».
أما آخر رسالة في الكتاب فهي مؤرخة في سبتمبر (أيلول) 1995، وقد كتبتها إلى صديقة لها تدعى ماريان اختارت أن تنخرط في سلك الرهبنة في دير ستانبروك. وتقول فيها: «لقد انتهيت لتوي من تأليف رواية بعنوان (حيرة جاكسون) قد تظهر قريبا. فهل من الملائم [نظرا لكون صديقتها راهبة] أن أرسل إليك نسخة منها؟».
وكانت سنواتها الأخيرة فرصة لإجالة النظر في حياتها السابقة. وصرحت بأن الكتاب الوحيد الذي تخجل منه بين مؤلفاتها هو رواية «الأحمر والأخضر»، وهي رواية تدور أحداثها في آيرلندا عند قيام هبة عيد القيامة 1916 ضد الإنجليز، وفي مقابلة أجريت معها عام 1992 قالت: إن أكبر مصدرين للسعادة في حياتها كانا: زواجها من جون بيلي. وأنه قد أتيحت لها فرصة استخدام ذهنها على نحو خلاق.
ومع مجيء عام 1993 غدت متزايدة العزوف عن المشاركة في الأنشطة العامة، وعازفة عن إجراء المقابلات الصحافية أو الإذاعية أو التلفزيونية؛ وإذ راحت ذاكرتها تغيب في ظلمات النسيان كانت أحيانا تجلس لكتابة رسالة تبدأ بـ«عزيزي» أو «عزيزتي» ثم يتوقف القلم في يدها. ومع ذلك ظلت جذوة من يقظتها الفكرية حية تحت الرماد. تقول في رسالة مؤرخة في مارس (آذار) 1991: «أريد أن أجدد معرفتي بكتابات وليم جيمس. لقد قرأته منذ فترة ولكني الآن قد فقدت كتابه». وجيمس هو بطبيعة الحال فيلسوف البرغماتية الأميركية وشقيق الروائي هنري جيمس. وتكتب إلى الشاعر والمترجم الإنجليزي مايكل هامبرجر (في 1992) قائلة: «إن بجواري الآن كتاب ترجماتك لقصائد هولدرلين» وكانت قد اشترته في سبتمبر 1943. وتقول في رسالة آخرى (أكتوبر/تشرين الأول 1992) عن رحلتها مع زوجها إلى روسيا: «إن موسكو بالغة الجمال بقبابها الذهبية وشوارعها الفسيحة على نحو يثير الدهشة وقد كساها الجليد». وتعبر في رسالة أخرى (مارس 1993) عن إعجابها ببيل كلينتون وزوجته هيلاري كلينتون قائلة: «ها هنا زعامة حقيقية وأداء لما يلزم». وتقول في يونيه 1993 إنها قامت مع زوجها بزيارة لليابان (هي زيارتهما الثالثة) حيث حاضرا في جامعاتها. وتكتب مرة أخرى إلى مايكل هامبرجر في 1994 قائلة: «إني أحب ترجماتك لهولدرلين ومقدمتك لها. وأنا أذكر هولدرلين في رواية أكتبها الآن [تقصد رواية حيرة جاكسون]. لقد كانت لغتي الألمانية في فترة من الفترات جيدة على نحو لا بأس به، ولكنها الآن لم تعد بمثل هذه الجودة».
توفيت ميردوخ في الثامن من فبراير (شباط) 1999، وأثناء مرضها كان زوجها يعنى بها بمساعدة أصدقاء لهما. قضت أيامها الأخيرة في مصحة لرعاية فاقدي الذاكرة في أكسفورد. ورحلت في سلام بين ذراعي زوجها. وتلبية لرغبتها لم يحضر أحد حرق رمادها أو نثر هذا الرماد في أكسفورد. ولم تقم صلاة على روحها.
آيريس ميردوخ: الأدب أهم من الفلسفة
666 صفحة من رسائل تغطي مراحل حياة الروائية والفيلسوفة البريطانية
آيريس ميردوخ: الأدب أهم من الفلسفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة