الأزمة اليونانية تدخل معركة جديدة مع الدائنين

مع اقتراب الذكرى الأولى لصفقة الإنقاذ

يونانيون أمام الصراف الآلي في مدينة إراكليو اليونانية بعد إعلان تسيبراس إجراء استفتاء (رويترز)
يونانيون أمام الصراف الآلي في مدينة إراكليو اليونانية بعد إعلان تسيبراس إجراء استفتاء (رويترز)
TT

الأزمة اليونانية تدخل معركة جديدة مع الدائنين

يونانيون أمام الصراف الآلي في مدينة إراكليو اليونانية بعد إعلان تسيبراس إجراء استفتاء (رويترز)
يونانيون أمام الصراف الآلي في مدينة إراكليو اليونانية بعد إعلان تسيبراس إجراء استفتاء (رويترز)

في مايو (أيار) من العام الماضي، أرسل الخبير الاقتصادي الأميركي اليساري جيمس غالبريث، رسالة بالبريد الإلكتروني إلى وزير مالية اليونان، يانيس فاراوفاكيس، يرى فيها أن خروج اليونان من منظومة الاتحاد الأوروبي سوف يعود بالفائدة على اليونان.
فمن وجهة نظر غالبريث، الذي عمل فترة مستشارا لفاراوفاكيس، أن استحداث عملة جديدة من شأنه التخلص من ديون العملة القديمة وحل مشكلة القدرة التنافسية لليونان، وفي النهاية سيخلق ما أطلق عليه «مجتمعا جيدا». وعلى الرغم من أن تلك الخطوة لاقت معارضة من أغلب اليونانيين، فإن غالبريث قد أعد خطة طوارئ لليونان يشرف على تنفيذها وزير المالية فاراوفاكيس في حال أجبر الدائنون اليونان على الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي، لكن في النهاية لم نسمع عن «الخروج اليوناني». في نفس الشهر من العام الماضي، وبعد رحيل وزير المالية المزعج عن منصبه، وافقت اليونان على خطة الإنقاذ الثالثة مع أوروبا، وبالفعل قبلت عددا من إجراءات التقشف ثمنًا لجولة جديدة من القروض. وكانت رؤية الاقتصادي غالبريث للمدينة الفاضلة ذات النقابات القوية ومؤسسات الأعمال الصغيرة والتبادل الثقافي قد نشرت في يونيو (حزيران) الماضي، ضمن كتابه الذي حوى عددا من مقالاته وكلماته ومذكراته المتنوعة، والذي صدر عن مطبعة جامعة «يال» بعنوان «مرحبا بالكأس المسمومة»، وتحدث فيه عن الشهور الخمسة التي قضاها بالدائرة المقربة من فاراوفاكيس بوصفه عضوا غير رسمي بفريق عمله.
حوى الكتاب تدقيقا في كل ما قاله وفعله فاراوفاكيس، وتناول فيه مدى الفكر الاقتصادي غير التقليدي، وحتى غير الواقعي، الذي وصل لأرفع مسؤولي الحكومة اليونانية في معركتهم التي خاضوها مع الدائنين الصيف الماضي. ومع اقتراب حلول الذكرى الأولى لصفقة إنقاذ اليونان، طفا على السطح كثير من التقارير والمقالات التي تنتقد وبعنف سياسات صندوق النقد الدولي في أوروبا، إضافة إلى قصة معاناة وعذاب اليونانيين وكفاحهم لتحاشى الوقوع في الإفلاس.
تاريخ اليونان داخل منظومة الاتحاد الأوروبي اقترب من الاكتمال بكل تأكيد، ولا تزال حزمة الإنقاذ المالي قيد الإعداد حاليا. غير أن التقارير تكشف عن عدد من المفاجئات اللاذعة بشأن أزمة شعب تلك الدولة، منها عدد من الأخطاء السياسية الواضحة، والتصرفات الملتبسة، والأجندات الخاصة والمآسي.
استمر ضغط المفاوضات بين اليونان ودائنيها يسير ببطء، في إشارة إلى أن الوصول لاتفاق يسمح لليونان بسداد ديونها من دون خنق اقتصادها، أمر غير وارد في المستقبل القريب.
وقال بولستين، مراسل سابق لصحيفة «واشنطن بوست» ومؤلف كتاب «داخل الأزمة التي هيمنت على أوروبا وصندوق النقد الدولي» المقرر صدوره في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، إن «غبار الحرب يتصاعد هنا بشكل يعوق اتخاذ قرارات سياسية حكيمة»، مضيفا: «ليس هناك أشرار، فقط هناك بعض المتعاركين في ناصية الشارع، وقد أخذوا في إلقاء العلب على قارعة الطريق».
إضافة إلى عمل غالبريث، نشر فاراوفاكيس، وجورج باباكونستانتينو، خلال الأيام الأولى للملحمة البطولية، كتابين أيضًا. ونشر نيك باباندريوس، شقيق رئيس الوزراء اليوناني السابق جورج باباندريوس، مقالا شخصيا لاذعا عن الهجوم الذي شنته الصحافة اليونانية على عائلته، إضافة إلى مجموعة قصائد بعنوان «إجراءات التقشف» التي تناول فيها أزمة بلاده. ومن دون شك، جاء الامتحان الأشمل في بعض الأوراق التي اشتمل عليها تقرير أعده «مكتب التقييم المستقل»، وهو بمثابة المراقب الداخلي لصندوق النقد الدولي. وكشف التقرير كيف أن موظفي صندوق النقد الدولي عملوا خارج القنوات الرسمية، واحتفظوا بأوراق حساسة في ملفات سرية، وحجبوا وثائق هامة عن المراقب الداخلي للصندوق، ولم يطلعوا مجلس إدارة الصندوق عن كل تفاصيل الأزمة.
فبحسب أعضاء مجلس إدارة الصندوق، كانت السرية تسير بشكل عجيب، فأحيانا كانت المعلومات التي تصل إليهم بشأن اليونان من خلال الإعلام أكثر من تلك التي تأتيهم عن طريق العاملين معهم بالصندوق.
ولصندوق النقد الدولي تفويض للقيام بدور المقرض بوصفه ملاذا أخيرا للدول ذات الاقتصاديات الضعيفة. ويوضح تقرير المراقب الداخلي للصندوق، الذي يشرف أيضًا على الأزمة في آيرلندا والبرتغال، مدى الصعوبة التي يواجهها الصندوق لإنجاز مهمته في الدول الأوروبية النامية، على عكس الدول الناشئة التي يعمل فيها الصندوق عادة.
لم يتوقع خبراء الاقتصاد بصندوق النقد الدولي حدوث الأزمة في أوروبا - من انفجار البنوك في إسبانيا وآيرلندا إلى الإفلاس السيادي في اليونان - وذلك بسبب «التفكير الجماعي والجمود الفكري»، وفق التقرير.
يدار صندوق النقد الدولي، على الرغم من كل شيء، بواسطة الأوروبيين، وأغلب كبار مسؤوليه التنفيذيين قدموا من إيطاليا وإسبانيا، وفرنسا، والبرتغال، وجميعهم لديهم ثقة كبيرة في قداسة وقوة اليورو.
فقد أشار المراقب الداخلي للصندوق إلى أنه حتى منتصف عام 2010، عندما وصلت الأزمة اليونانية لذروتها، تقبل خبراء الصندوق ولأول مرة فكرة أن تكون مبالغة الدول الصغيرة في الاقتراض باستخدام اليورو – كما في حالتي اليونان وآيرلندا – قد تتسبب في عدم استقرار لعملة اليورو.
ومرة تلو أخرى، أوضحت عملية المراجعة عدم رغبة الصندوق في تحدي المسؤولين الأوروبيين، وهو ما مثل خللاً مستمرًا في سياساته، الأمر الذي أدى في النهاية إلى القرار المثير للجدل بالموافقة على إقراض اليونان عام 2010، على الرغم من أن الاقتصاديين بالصندوق كانوا على يقين بأن تلك الدولة التي أصبحت على شفا الإفلاس ليس أمامها سوى فرصة ضئيلة للسداد.
وبكلمات صريحة، كتبت سوزان شادلر، مسؤولة سابقة بصندوق النقد الدولي، أن الصندوق كان يتحكم فيه مسؤولون أوروبيون، وأنهم جادلوا بأن عدم إقراض اليونان، أو حتى مطالبتها بإعادة جدولة ديونها، سوف يتسبب في حالة ذعر منظمة في الأسواق.
وفي رد فعل على تقرير المراقب الداخلي للصندوق، اعتبرت كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، ما قام به الصندوق في أوروبا نجاحا مستحقا، مضيفة أن مشكلات اليونان كانت فريدة من نوعها، وأن الحل الأخير هو أن يستمر اليونان داخل منظومة الاتحاد الأوروبي.
لكن للسيدة شادلر رأي آخر، فهي ترى أن القرار والطريقة السرية التي اتُخذ بها قد أضر بسمعة الصندوق. «فبعدم اتباع نهج منفتح وشفاف، تسبب الصندوق في أن يفهم الناس أن قرارا قد اتخذ في أوروبا وفرض عليهم»، بحسب تقرير شادلر.
ويحلل تقرير أعده جورج باباكونستانتينو، وزير المالية اليوناني وقت الأزمة، أسباب موافقة الصندوق على إقراض اليونان عام 2010. نشر باباكونستانتينو مقالاته تحت عنوان «انتهت اللعبة: قصة الأزمة اليونانية من الداخل» كرواية سياسية مثيرة، ويعتبر سرده قيما لمن يريد معرفة «من قال ماذا» في الوقت الذي انقسمت فيه اليونان.
يتمنى الإنسان لو أنه نسي كم كان الوضع المالي لليونان سيئا عندما تولى هذا الوزير منصبه. فعلى سبيل المثال، اعتاد وزير المالية اليوناني إنفاق 35 ألف يورو شهريا لشراء الصحف فقط.
وهناك بعض التفاصيل الأخرى الصغيرة، مثل التحذير الذي تلقاه من جان كلود تريكيت، الذي كان يشغل حينها رئيس البنك المركزي الأوروبي، الذي قال فيه إن إعادة هيكلة ديون اليونان سوف يكون لها نفس تأثير سقوط مؤسسة «ليهام براذرز» على الأسواق الأوروبية.
ويحكي باباكونستانتينو كذلك، كيف أنه كان كبش فداء لعلل اليونان، فقد وُجه له نقد شخصي بسبب إجراءات التقشف وقُدم للمحاكمة لما اتضح لاحقا أنها اتهامات زائفة بسبب معالجته لملفات حساسة تتعلق بدافعي الضرائب اليونانيين.
ويغطي مقال نشره باباندريوس في أبريل (نيسان) الماضي نفس المنظور، وقد نشره بعنوان «ترويض كلاب الحرب» والذي تحدث عنه في مؤتمر صحافي خصص للضغوط التي يمارسها رجال الأعمال والحكومة على الإعلام.
ويحكى باباندريوس كيف أن الصحف اليونانية والتي يسطر عليها رجال أعمال نافذون هاجمته وشقيقه، رئيس الوزراء السابق، وكيف أنهم اتهموه بتكديس الأموال خارج البلاد للدرجة التي دفعته للتفكير في الانتحار.
للسيد فاراوفاكيس أيضًا كتاب تساءل فيه قائلاً: «والضعيف يعاني، ماذا تنتظر؟». ولمن يتوق لما سيقوله عن تجاربه في العراك مع الأوروبيين ومسؤولي صندوق النقد الدولي حول ديون اليونان، فلن تجد ما تنشده في هذا الكتاب.
سوف يحتفي أنصار فاراوفاكيس بانتقاداته النارية لصناع السياسات الاقتصادية من الأوروبيين والأميركان، لكن غيرهم من القراء سيفضلون الانتظار حتى الصيف القادم لحين نشر شهادته في كتاب ليستمتعوا بتفاصيلها ضربة بضربة.
* خدمة «نيويورك تايمز»



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».