«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

تعليقًا على إعلان «الجولاني»

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
TT

«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)

دلالات كثيرة يحملها انشقاق التنظيمات المتشددة - والأصولية عمومًا - بعضها عن بعض، منها ما هو مرتبط بالواقع وضغوطه والتكيف معه، لكن الأهم والأعمق - والمنسي للأسف - هو المدلول الفكري والآيديولوجي لعلاقة هذه التنظيمات بالتاريخ والواقع واضطرارها في النهاية للتكيف معه، بقدرة التاريخ النافذة على كسر جمود التشدد وتكييفه مع حركته. بل تمثل هذه الدلالات المنسية للانشقاق وغيره سندًا في نقد أسس فكرية تتصور التاريخ «يوتوبيا» لا مكان لها، تستطيع كسر الواقع وتغييره دون اعتبار لقواه وقوانينه، وتتعالى عليه بدعاوى الاقتدار والانتصار وتكفير المنطق والعقل، ليثبت التاريخ والواقع في النهاية أنه لا شيء يعمل خارج قانونه وناموسه، وهو يتحرك في زمانه لا خارجه.

الانشقاقات والمراجعات والمواءمات التنظيمية والفردية، لدى تيارات التطرف العنيف، ملامح ثلاثة بارزة على هذا التكييف التاريخي، بعيدًا عن دعوى الاقتدار وصناعة التاريخ التي تدعيها باستقامة وصلابة عند تأسيساتها وبيعاتها الأولى، واضطرارها في مسارها للتكيف معه. وينطبق هذا بدءًا من مراجعات «الجماعة الإسلامية المصرية»، كبرى الجماعات المصرية المتشددة أواخر التسعينات القرن الماضي، التي استمرت عقدًا كاملاً تصحيحًا واعتذارًا عن تصوراتها السابقة.. ووصولاً إلى مراجعات «الجماعة الليبية المقاتلة»، التي صدرت بعنوان «دراسات تصحيحية» عام 2009، مرورًا بمراجعات كلية وجزئية لمنظرين، كان بعضهم الأبرز والأهم في الساحة الراديكالية الإسلامية، شأن عبد القادر بن عبد العزيز (د. فضل)، أو القيادي الجزائري الراديكالي حسن حطاب، الذي تحولت الحركة التي أسسها للدعوة والقتال في الجزائر فيما بعد إلى «قاعدة المغرب العربي» عام 2007، وغيرهما كثيرون. وهذا يدلل على عدم يقينية الوعي وخطأ ما يدّعونه في بداياتهم من حقائق مطلقة ومسار لا يعرف الانعطافات.
ومن المواءمات كذلك - التي تمثل مراجعات جزئية بدرجة ما - قبول كثير من المتشددين والراديكاليين بالحزبية والعمل السياسي، بعد تكفيرهم إياها، فشاهدنا تأسيس عدد من الراديكاليين والمتشددين ومشاركتهم في تأسيس عدد من الأحزاب السياسية عقب زلزال الانتفاضات العربية عام 2011 في مصر وليبيا وغيرهما، ممن كانوا يكفّرون الانتماء لها كما يكفّرون الديمقراطية وسبلها، ويعتبرونها دينًا مناقضًا للإسلام يكفّر من انتمى إليه أصلاً.
وتشمل الانشقاقات كل الحركات الأصولية المتشددة، وتنشط عند الأزمات والمغانم، وتخفت عند المكاسب والمغارم، لكنها تظل حاضرة وممكنة دائمًا، ويكشف ظهورها وبزوغها مساحات الاختلاف الكامنة بين عناصر التنظيم وقياداته، ويضرب في مقتل دعوى التطابق والانتماء الصلب الذي لا يعرف اللين أو المرونة، ويدّعي استقامة خط رفيع للطائفة المنصورة التي تنسبها كل جماعة لنفسها وفكرها وأميرها، يبدع ويتهم كل مخالف لها، قريبًا كان أو بعيدًا. ولكنها تحتمل كذلك الصراع والقتال فيما بينها، ليتحولوا لصفين متحاربين بعد أن كانوا في صف واحد ضد غيرهم.
هذا ما حدث بين المختلفين في صفوف «الجماعة الإسلامية المصرية»، وهو ما حدث بين قادة «الجهاد المصري» من مؤيدي مراجعات فضل ومعارضيها، وهو ما حدث بشكل أوضح بين «داعش» و«القاعدة» ومعها «جبهة النصرة» بشكل أوضح، بعد خلافهما في أبريل (نيسان) 2012، حول بيعة «النصرة» لأبو بكر البغدادي أمير «داعش» أم أيمن الظواهري أمير «القاعدة».. التنظيم الأم!
بل إن جدل البيعة والانشقاق نفسه لا يخلو من براغماتية ظاهرة في كثير من الأحيان. فكثير من التنظيمات الفرعية والصغيرة تبايع حسب المتوقع لصالحها من التنظيم الأم الذي تبايعه، ولم تكن بيعات «ولاية سيناء المصرية» أو «بوكو حرام» النيجيرية أو بعض المجموعات المتشددة في اليمن وغيرها، لتنظيم «داعش» بعد إعلانه خلافته وتصدره المشهد العالمي، إلا رغبة فيما يملكه هذا التنظيم الأم من قدرة على التمويل والدعم الإعلامي واللوجيستي للتنظيم الفرع.
وفي الإطار البراغماتي نفسه كانت البيعات تتوالى لـ«القاعدة» في فترة زعامة أسامة بن لادن لها، قبل مقتله في مايو (أيار) 2011، لما امتلكه من حضور في صفوف المتشددين وقدرته على التمويل والدعم اللوجيستي والاجتماع حوله من مختلف القيادات، وهو ما كان عكسه أثناء فترة خليفته أيمن الظواهري، الذي لا يتمتع بنفس الحضور والتأثير، ويبدو محاصرًا مأزومًا بعد مقتل سلفه.. وهو بالتالي عاجز عن دعم حلفائه بما يحتاجونه، بل إنه يعجز أحيانًا عن التعليق على أحداث مهمة يتعرضون لها، نظرًا لظروف التنظيم، الذي سحب «داعش» فعليًا البساط من تحت قدميه في كثير من المناطق.
من هنا تبدو الانشقاقات والخلافات، دلالة بينة على خطأ ما تدعيه هذه التنظيمات وعناصرها من صلابة، وما تكرره وتدعو إليه من دعوة الوحدة والتوحّد والبيعة، تنظيمًا وأمة، لأمير بعينه، وهشاشة كامنة في مبدأ «السمع والطاعة» و«الولاء والبراء» لدى هذه التنظيمات تؤكده صراعاتها وقتالاتها النظرية والميدانية، رغم التطابق في الإطار الفكري المؤسس، وهو في حالتنا الراديكالية المقاتلة التي تجمع بين «النصرة» و«القاعدة»، كما تجمع بينهما وبين تنظيم «داعش»، مع اختلافات جزئية أو تفصيلية وتأويلية صغيرة فيما بينها، كما تجمع الثلاثة بتنظيمات غيرها في الساحة السورية والعراقية وغيرهما، إلا أن الانشقاق والاختلاف وإمكانية الفصل والانفصال، عناصر أكثر من ادعاءات الوحدة والاتحاد، أو الوصل والاتصال.
يوم الخميس 28 يوليو (تموز) الماضي، جاء انشقاق «جبهة النصرة» في سوريا، وفك ارتباطها بشبكة «القاعدة»، على لسان زعيمها أبو محمد الجولاني، وإعلان الجولاني عن تشكيل جماعة جديدة تحت اسم «جبهة فتح الشام». وهو ما قوبل بشماتة من تنظيم داعش وعناصرها، وكذلك تشكيك في زعامتها وطلبه للانفراد بالقيادة.
لكن زعيم «جبهة النصرة» - أو «جبهة فتح الشام» - أبو محمد الجولاني حاول مسبقًا نفي ذلك، معلنًا في خطاب تلفزيوني مسجل بثته قناة الجزيرة القطرية، في أول ظهور علني له، قبول تنظيم «القاعدة» وقيادته قرار «النصرة» بفك الارتباط، وتفهمهم قرار فك الارتباط وشكرهم على ذلك. إذ قال الجولاني إن قرار فك الارتباط جاء «نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا وروسيا، في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام، بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد، فقد قررنا إلغاء العمل باسم جبهة النصرة، وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم جبهة فتح الشام».
وتابع الجولاني كلامه معلنًا أن «هذا التشكيل الجديد ليست له علاقة بأي جهة خارجية»، في إشارة غير مباشرة منه إلى تصحيح صورة جماعته وعلاقتها بـ«الإرهاب المعولم»، وتصحيح وضعيتها في الساحة السورية، سواءً من قبل قوات التحالف الدولي التي استمرت في تصنيفها جماعة إرهابية، أو سائر الفصائل الموجودة في سوريا.
وازداد هذا الإلحاح على وطنية حركيته ومركزية القضية السورية فيها بشكل واضح، حين عدّد الجولاني أهداف هذه الخطوة، قائلاً إن أبرزها «العمل على التوحد مع الفصائل لرص صف المجاهدين، ولنتمكن من تحرير أرض الشام من حكم الطواغيت والقضاء على النظام وأعوانه».
وقد أتى إعلان الجولاني قبول «القاعدة» وتفهمها قراره تأكيدًا من كلا الجماعتين على تكيفهما مع الأوضاع الجديدة، خصوصًا مع ظهور الغلو الداعشي الشقيق لهما، والمقاتل لكليهما معًا، ومع التصنيف الدولي المساوي بينهما، تأكيدًا على الفروق بين «داعش» وكليهما لدى مختلف المراقبين والمتابعين والمشاركين في الشأن السوري. لكن يظهر أن إعلان فك الارتباط كان منسقًا بين الطرفين بشكل واضح، لمنع شبهة أي انتصار داعشي حين إعلانه في صراعها مع «القاعدة» على قيادة العنف الأصولي عالميًا أو سوريًا، ويضعها في حرج الجمود مقابل قدرتهما معًا على التكيف والتوافق.
من ناحية ثانية، رغم مطالبة مختلف الفصائل على الساحة السورية، «جبهة النصرة»، بإعلان انفصالها عن «القاعدة» منذ وقت مبكر في أبريل 2012، بعد إعلانها بيعتها منفصلة عن «القاعدة في العراق» - «داعش» فيما بعد - فإن الاستجابة جاءت متأخرة جدًا ومدفوعة بظروف الواقع وتحدياته في أعقاب تقدم روسيا وبقايا نظام الأسد والميليشيات الإيرانية على جبهة حلب، بشمال سوريا، وعدد من المناطق التي كانت في حوزتها، كما أتى منسقًا كما ذكرنا بما لا يبدو معه خلافات بين «النصرة» و«القاعدة»، ويعطي فرصة أكبر لـ«داعش»، لاستثمارها.
كانت الإشارة أو المباركة الأولى من المنظر المتشدد أبو محمد المقدسي يوم الثلاثاء 19 يوليو الماضي، حين دعا «جبهة النصرة» للاستجابة لمطالب الشعب والعلماء والناصحين، وتغيير اسمها وفك ارتباطها بـ«القاعدة». وقال المقدسي في تغريدات له على «تويتر»: «مراعاة المطلب إن صار مطلبًا للشعب أو العلماء والناصحين، مهم ويدل على مرونة وفطنة المجاهدين، خصوصًا إن كان مطلبًا مشروعًا ليس فيه أي تنازل عن ثوابت».
وعن التسمية الجديدة يبدو الإرهاص بها في تغريدة للمقدسي في التاريخ نفسه، حين دعا «جبهة النصرة» لتغيير اسمها قائلاً: «وكذلك اسم (جبهة النصرة) أو غيره، إن صار عائقًا أو سببًا لاستهداف أهله، فتغييره أو التنازل عنه ليس تنازلاً عن قرآن، وفك الارتباط ليس ردة عند الحاجة إليه». وأضاف: «من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فلا يهمه الاسم، إنما يهمه وضوح هذه الغاية ومن جاهد لأجل اسم، وفارق لتغيره، فلا يحزن عليه». وبيّن: «نعلم أن اسم النصرة والارتباط ليس هو السبب الحقيقي لاستهداف الجبهة وأمثالها، بل السبب هو الراية والغاية وعدم الخضوع لمشاريع الأميركان وأذنابهم».
وتابع في تأكيد وتبرير هذا التحوّل بضغوط التحالف الدولي وقصفه مواقع «النصرة» واستهدافه لها بقوله: «أكثر أعداء الجبهة يدّعي أن المسمى والارتباط سبب مشاركة أميركا بالقصف، وانطلى هذا على الناس، فالإجراء الذي نصحت به إن لم يكف بأس أميركا، أبطل الدعوى».
أما الإشارة الثانية فكانت قبل إعلان الجولاني بساعات عبر تسجيل صوتي نشره تنظيم القاعدة، وتوجّه فيه أحمد حسن أبو الخير، «نائب» أيمن الظواهري وفق التسجيل، إلى «جبهة النصرة» بالقول: «نوجه قيادة جبهة النصرة إلى المضي قدمًا بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام، ونحثهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر».
وهكذا يجبر التاريخ والواقع، الانغلاق والتصلب الظاهر لجماعات التطرف العنيف على تغيير ارتباطاتها وهوياتها، بل وأسمائها، وإن كان اسم «جبهة النصرة» نفسه نابعًا من تنظيم داعش لوليده «النصرة»، حين أرسله «نصرة للشعب السوري» ضد الميليشيات الطائفية والإيرانية المساندة لنظام بشار الأسد ضد شعبه، وما زالت تسانده بدعم روسي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.