الفنان الألماني العالمي ديتر كولن يجسد تدمر بنموذج من الفلين

ينحت المدينة بشكل مصغر.. ولكن بكامل تفاصيلها

الفنان الألماني ديتر كولن يعرض عمله الفني - من إبداعات ديتر كولن
الفنان الألماني ديتر كولن يعرض عمله الفني - من إبداعات ديتر كولن
TT

الفنان الألماني العالمي ديتر كولن يجسد تدمر بنموذج من الفلين

الفنان الألماني ديتر كولن يعرض عمله الفني - من إبداعات ديتر كولن
الفنان الألماني ديتر كولن يعرض عمله الفني - من إبداعات ديتر كولن

صنع فنان «الفيلوبلاستيك» المعروف ديتر كولن نماذج فلينية مصغرة من الكابيتول ومن أهرامات خوفو ومن معبد بوسيدون بطلبات من المتاحف العالمية، أو من جامعي التحف من الأثرياء، لكنه يقول إن عمله لصنع نموذج من مدينة تدمر التاريخية نابع من القلب.
يشكل الأميركان الأثرياء معظم زبائنه من هواة الأعمال الفيلوبلاستيكية (فن نحت الفلين)، لكن الخراب الذي ألحقه برابرة القرن الحادي والعشرين من «داعش» بمدينة بالميرا حفزه لتخليد هذا الإرث التاريخي العالمي بالضد من همجية الإرهابيين، وسيان بالنسبة له ما إذا كان سيفلح في بيعه أم لا. لم يطلب منه أحد ذلك، ولا ينتظر أن يشتريه أحد، ولو أنه يفضل أن يهديه في المستقبل إلى متحف قد يكون سوريًا، لكنه يعمل منذ ثلاثة أشهر لتجسيد جميع معالم مدينة تدمر.
حطم الإرهابيون أعمدة المدينة القديمة على حافة الصحراء، ونسفوا صروح الأبراج، وهدوا معبد بعل العظيم، لكنه الفنان يريد بناء كل شيء من جديد من الفلين. استشار خبراء عالميين، واعتمد صورًا قديمة، وأخرى من الأقمار الصناعية، كي ينجز مهمته على الفلين. وكان معرض بالميرا في متحف ريتشارتز - فالراف في كولون الصاعق الذي فجر فيه فكرة تخليد المدينة بالفلين.
ومعروف أن متحف ريتشارتز - فالراف، في المدينة القديمة من كولون، عرض محتويات أرشيفه الفريد عن مدينة تدمر في إطار حملة جهود إعادة بناء المدينة التي فجرها الإرهابيون. وضم المعرض رسوم الفنان الفرنسي لويس - فرنسوا كاساس، التي نفذها قبل 230 سنة من الآن. يتألف المعرض من 41 لوحة، أو مخططًا، رسمها الفنان الفرنسي، والباحث المعماري، كاساس (1756 - 1872) أثناء رحلته إلى الشرق الأوسط. وقضى منها ستة أشهر في مدينة النخيل بالميرا. وتظهر اللوحات جميع تفاصيل بقايا بالميرا بالمقاطع الطولية والعرضية والأساسات. وهي الخرائط التي يسير عليها ديتر كولن في رسم طريقه الطويل إلى تدمر الفلينية.
يقضي الفنان يومًا كاملاً في صناعة عمود واحد من أعمدة بالميرا من الفلين. ويعمل منذ 3 أشهر بمعدل 10 ساعات في اليوم، ولا يعرف متى سينتهي من المشروع. ويقول إن سعر الفلين الذي يستخدمه في كل عمل من الأعمال التي نفذها سابقًا لا يقل عن سعر سيارة صغيرة جديدة. وربما ستكون كلفة تجسيد بالميرا بالفلين أكثر كلفة، لكن الفنان يستجيب لنداء المقاومة ضد الجهل في أعماقه.
ويشبه الفنان (62 سنة)، ابن مدينة كولون، نكبة المواطن السوري في الدمار الذي حل بتدمر بكارثة أن يسمع يومًا بتفجير الإرهابيين لكاتدرائية كولون العظيمة (الدوم). يشتري الفلين من البرتغال وينقله إلى كولون، لأن لون الفلين البرتغالي جميل، وحقيقة أنه يمتص الضوء ولا يعكسه مثل الخشب، هو سر جماله في الأعمال الفنية. وتسهم الثقوب المختلفة في الفلين في منح العمل الفني حرارة وجمالاً لا تمنحه المواد الفنية الأخرى. ويعد كولن محبي فنه بأنه سيصنع من الفلين تدمر تحمل كل الآثار القديمة، مثل الصدوع والثلمات الأصلية، التي كانت موجودة في الأبنية قبل أن يداهمها الظلاميون.
سينحت كولن، وهو رسام معماري في الأصل، مدينة تدمر بنموذج مصغر 1:100، ولكن بكامل تفاصيلها ومن الفلين فقط. أما أدوات عمله على الفلين فهي أدوات خاصة طورها بنفسه خلال 30 سنة من هواية الفيلوبلاستيك. وهذا يسري على الصمغ الخاص الذي ينتجه في ورشته أيضًا من مواد طبيعية.
والنتيجة، كالمعتاد، نماذج مصغرة من الأنتيكة يمنح الفنان عند بيعها ضمانة أمدها 300 سنة، على أنها لن تتفكك أو تهترئ أو تتغير ألوانها. وهناك نموذجان من أعماله، أحدهما الكابيتول، محفوظة حاليًا في متحف «بريتوريوم» القديم في كولون، أما الأخرى فموزعة في كل العالم، وخصوصًا في المجاميع الفنية الصغيرة لأفراد أثرياء في الولايات المتحدة.
وقد عمل من قبل سنة كاملة على نموذج الكابيتول الفليني، قضى منها 6 أشهر في البحث والدراسة فقط، لأن العمل مع الفلين يتطلب الكثير من الوقت والصبر والمهارة واليد الثابتة. ولذلك لم يستطع أن ينجز أكثر من 4 نماذج مصغرة في إحدى السنوات، لكن مشروع بالميرا سيتطلب وقتًا أكثر بكثير بتقديره. وليس غريبًا أن يقضي سنة في بناء الكابيتول، لأن النموذج الفليني المصغر من الكابيتول ارتفع 160 سم عن الأرض.
ظهر فن الفيلوبلاستيك في روما القديمة على يد المعماري أوغوستو روزا في عام 1780. وأصبح له الآلاف من المقلدين خلال السنوات التي أعقبته، لكن عددهم بدأ ينقرض، وبقي قلائل فقط يعملون على المستوى العالمي. ومات آخر فنان ألماني يعمل على الفلين قبل أكثر من مائتي سنة، ولم يعثر له على أدوات عمل، ولهذا وقع على كولن أن يصنع أدواته بنفسه.
ويشعر كولن بالاطمئنان تجاه مشروعه الجديد في بالميرا، لأنه لا أحد يهتم بالموضوع غير العارفين والذين يقرون الإرث الثقافي البشري. ولا يشعر بأن صناعة النماذج الفلينية من الآثار في المستقبل بواسطة جهاز الطباعة المجسم (ثلاثي الأبعاد) بمكن أن يهدد فنه. فما يفعله فن رفيع يصنع نماذج الأبنية من مئات الآلاف من قطع الفلين، ولا ينتجها في قوالب جاهزة.
ولكن هل هناك من يهتم اليوم بفنه؟ يقول إن كثيرين يهتمون بفنه ويزورون ورشته، لكن أكثر المهتمين بفنه، ويعتقد أنهم ربما سيرثون فنه، هم مجموعة من الطلبة واللاجئين السوريين.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».