خيبر ومدائن صالح... تحفتان بيئية وأثرية تتلألآن في شمال السعودية

رحلة خاصة إلى أولى عواصم الإسلام (2 من 2)

{الشرق الأوسط} في خيبر
{الشرق الأوسط} في خيبر
TT

خيبر ومدائن صالح... تحفتان بيئية وأثرية تتلألآن في شمال السعودية

{الشرق الأوسط} في خيبر
{الشرق الأوسط} في خيبر

الجزء الثاني من زيارتي منطقة المدينة المنوّرة في فبراير (شباط) الماضي أتيح لي برمجته بمساعدة كريمة من الإمارة، وخصّص لزيارة المنطقة الشمالية من المنطقة، وتحديداً خَيبر والعُلا - الحِجْر (مدائن صالح). ومجدّداً لا بد لي من القول إنني سمعت الكثير وقرأت الكثير عن المكانين، وبالتالي كانت فرصة زيارتهما بما يخصني لا تفوّت. وما علمته قبل الزيارة وبعدها أن نسبة متواضعة من معارفي السعوديين أتيحت لها متعة زيارة هذا الجزء الرائع الجمال من المملكة، وهو ما فاجأني حقاً.
في اعتقادي، وأنا الذي زار مناطق عديدة عبر قارات العالم، أن في هذه المنطقة جمالاً طبيعياً وأثرياً استثنائياً، وكل ما تحتاج إليه هو التعريف بها بالصورة التي تستحقّ وترويجها بدايةً للسياحة الداخلية. ولقد أسعدني كثيراً الاهتمام الذي تبديه اليوم كل من الهيئة العامة للسياحة والآثار وإمارة منطقة المدينة المنوّرة في هذا الاتجاه. وهذا ما أدركته أولاً من لقائي مع الأمير الدكتور فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، الذي كان يتحدث بحماسة بالغة عن إمكانيات الجذب الكامنة الهائلة ثقافياً وتراثياً وسياحياً في المنطقة. وفي ما بعد، لمسته على الأرض عندما زرت كلاً من خيبر والعُلا ومدائن صالح.
تجدر الإشارة إلى أن منطقة المدينة المنوّرة تضم، إلى جانب عاصمتها المدينة المنوّرة مقرّ الإمارة، عدة محافظات، بينها غرباً ينبع وبدر المطلّتان على البحر الأحمر، والحناكية في شرق المنطقة، والمَهد (مَهد الذهب) في جنوبها الشرقي، وخيبر شمالاً ثم العُلا في أقصى شمالها التي تطوّقها من الشرق والشمال والغرب منطقة تبوك.
في الصباح انطلقنا، الزميل وائل أبو منصور، سكرتير تحرير «الشرق الأوسط» في السعودية، وأنا، من الفندق في سيارته الرباعية الدفع باتجاه خيبر، ومنها إلى العُلا وجارتها الدرّة الغافية على مجد التاريخ... مدائن صالح، التي عرّفها الجغرافيون باسم الحِجْر (بكسر الحاء وتسكين الجيم). وتبلغ المسافة بين المدينة وخيبر أكثر بقليل من 160 كلم، وإلى مدينة العُلا نحو 330 كلم.

* خَيبر... البديعة

* الطريق إلى خَيبر، شمالاً، معبّد وممتاز، والرحلة مريحة. ولدى الوصول إليها تظهر ملامح التخطيط الحديث المتميّز لشبكة الطرق. ولكن خيبر «الجديدة» - المأهولة حالياً - مدينة صغيرة لا تلفت في حد ذاتها الزائر العابر ولا تعطيه أي انطباع استثنائي، باستثناء ملاحظة الحجارة السوداء على جانب الطريق... كيف لا ونحن في حرّة (طفح بركاني) تعدّ أهم حرار شبه الجزيرة العربية؟
قبل الوصول، وتسهيلاً لبلوغ غايتنا، أجرينا الاتصال مع دليلنا، والمرجع الرائع في تاريخ خَيبر وجغرافيتها وتراثها، «أبو سامي» صيفي بن عيسى الشلالي.
«أبو سامي» - أو «الموسوعة الخيبرية» كما اكتشفت لاحقاً - أمضى سنتين دارساً في مدينة كارديف عاصمة إقليم ويلز البريطاني، ولدى وصولنا إلى مدخل خَيبر أعطانا التعليمات عن خط سيرنا عبر الطرق الحديثة أولاً بأول وصولاً إلى داخلها حيث كان بانتظارنا.
وبعد استراحة قصيرة تخلّلها الترحاب والتعارف والاطلاع على ثروة من الوثائق القيّمة التي جمعها بجلد وشغف عن خَيبر وأهلها وتعود إلى عقود وعقود، تناولنا القهوة العربية والتمر اللذيذ - الذي أخبرنا أن نوعه «الحلوة» - داخل بيته العامر. ومن ثم بدأنا مشوارنا نحو اكتشاف خيبر القديمة التاريخية، الواقعة إلى الشمال الغربي من المدينة الجديدة عبر جبال الصهباء، بـ«اللاند كروزر» المجرّبة في مسالك الواحة.
منذ الإطلالة الأولى، بعد اجتياز جبال الصهباء، يطالع الزائر منظر ساحر لواحة غنّاء بوديانها وينابيعها وبساتين نخلها.. أو «خيفها» (الخيف، هو بستان النخل) وقراها وحصونها. وفي تلك اللحظة تذكّرت وصف حسان بن ثابت، شاعر الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، نخيلها وتمرها إذ قال:
أتفخر بالكتّان لمّا لبسته
وقد تلبسُ الأنباطُ رَيطاً مقصّرا
فلا تكُ كالعاوي، فأقبل نحرُهُ
ولم تخشهُ سهماً من النّبلِ مضمرا
فإنّا، ومن يهدي القصائدَ نحونا،
كمستبضِعٍ تمراً إلى أرض خيبرا
وبمناسبة الكلام عن نخيل خَيبر فإن المسلمين أحصوا من النخيل الموجود فقط في وادي النّطاه - أحد أوديتها الأشهر - فوجدوا فيها أربعين ألف نخلة. أما عن أصل اسم خَيبر فله غير تفسير واحد، منها أنه مشتق من الخبرة - أي الأرض السهلة الطيبة الطين، وبالفعل، يذكر المؤرخون أن تربتها عُرفت منذ أقدم العصور تربة خصبة ذات عيون ومياه غزيرة، صالحة لزراعة الحبوب والفواكه على أنواعها، ومنه أن كلمة «خَيبر» (جمعها خَيابر) أي «الحصن» بلغة العماليق، من الأقوام القديمة التي سكنت عدة مناطق بشمال شبه جزيرة العرب الذين سكنوها في الأيام الغابرة. إنها واحة نخيل ضخمة على مدّ النظر.. لا تعترضه سوى أبنية وحصون قديمة مهجورة. منظر من أجمل ما رأيت في بلاد العرب. وبالسيارة كانت قرية – أو حي – الشُّرَيف.. محطتنا الأولى. هنا سوق خيبر القديم، وبعض أجمل الأبنية ذات الأسس الحجرية المسقّفة والمعتّبة بجذوع نخيل «الطيبة» المرغوب خشبه المَتين في البناء، والذي يستسيغه المعتنون بصحتهم ممّن يتحاشون الحلاوة الشديدة في أنواع التمور الأخرى. وعلمنا أن عملية إعادة تأهيل الشُّرَيف مُبرمجة في أعقاب تقدّم إعادة تأهيل مَكيدة، الحي أو القرية في أقصى جنوب خَيبر القديمة، التي تشمل آثار حصن الوطيح أحد أشهر حصونها القديمة.
في الشُّرَيف جلنا بسوقها المهجور وأبنيتها القديمة، ومنها شاهدنا عن بعد حصن القموص التاريخي الشهير. وفيها أيضا شاهدنا تحضيرات عملية لاحتفال مبرمج يؤكد الاهتمام الكبير في التعجيل بإيقاظ هذه الدرّة التراثية من سباتها.
وهنا، جاء دور «أبو سامي» ليشرح لنا بالتفصيل ما هو أمامنا، فقال إن ما يميّز الواحة - الحرّة تنوّع تضاريسها، وما تحفل به من آثار ونقوش بديعة. وهي تبدأ جغرافياً من وادي الزّعبلة التي تليها مَكيدة. أما مَكيدة فتليها إلى الشمال سبخة ملحية منخفضة تُعرف باسم السُّبيخاء (أو الصُّبيخاء) تفصلها عن الشُّرَيف. وإلى الشمال من الشُّرَيف يمتد من الشرق إلى الغرب ما يدعي بوادي الزايدية، وتبدأ بجزءٍ هو الزايدية، يليه خيف مهمّل ثم خيف عين الريّا ثم خيف الحصن ثم محلة القرقاعة.
ثم إلى الشمال من وادي الزايدية يمتد وادٍ آخر أيضا من الشرق إلى الغرب هو وادي الحلحال، الذي اشتهرت مُسميات عدّة فيه إبان الجاهلية وفجر الإسلام. وحمل الوادي كله أسماء أجزاء فيه، أولها – وربما أشهرها - وادي النّطاه، ثم وادي الشقّ، ثم وادي الرّوان، ثم وادي الصّوَير، وتلتقي هذه الوديان غرباً في الوادي الكبير.. وادي خَيبر.
ولدى مغادرة سوق الشُّريف هبطنا إلى وادي النّطاه وسرنا غرباً في وادي الشق فالرَّوان... مع سريان ماء الينابيع وفي ظل النخيل السامق، إلى أن وصلنا إلى أسفل مباني الرَّوان.
«أبو سامي» أبلغنا أن بعض الآثار المُكتشفة في خَيبر تشير إلى أنها سُكنت قبل 6000 سنة ق.م، وأن فيها آثاراً ترجع إلى العصر الحجري القديم، منها فؤوس حجرية وقواطع ومعاول، والعديد من الآثار الحجرية، وهي عبارة عن ألواح حجرية كبيرة جعلت على دوائر ومُثلثّات. كذلك عثر في بعض أرجاء خَيبر على رسوم محفورة ومزخرفة لأبقار وحشية وخيول يقدّر أنها تعود للألف الخامس قبل الميلاد.
وبعد إنهاء الجولة في الرَّوان عُدنا إلى بيت «أبو سامي» لتناول الغداء مع ضيوفه الكرام من كبار المسؤولين المحليين في خَيبر، وبعدها انطلقنا إلى العُلا فمدائن صالح.

* العُلا... ومدائن صالح (الحِجْر)

* الطريق إلى مدينة العُلا ممتازة والمناظر الطبيعية، ولا سيما المُرتفعات الصخرية المُطلّة عليها غاية في الجمال.
قبل الوصول إلى المدينة اتصلنا بدليلنا الأستاذ عبد الواحد عبد الواحد، واتفقنا معه على الالتقاء في فندق «العلا – آراك»، وهو فندق عصري راقٍ تطل عليه تشكيلات صخرية حمراء نحتتها الطبيعة عبر القرون.
العلا القديمة، أو ديدان، ترتفع 70 مترا عن سطح البحر ويتيح مناخها زراعة النخيل والحمضيات، وتنتشر أطلال المنازل وعددها 770، حول قلعة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. ولقد خضعت للترميم أخيراً لكن لم يتبقَّ منها إلا الأسوار الخارجية.
القلعة تتموضع بمواجهة المزارع التي كانت ترويها 34 من الينابيع جفّ غالبيتها. وتعد المنطقة، وفقا للجغرافيين والمؤرخين، من أخصب بلدات وادي القرى الذي يمتد من شمال خيبر جنوبا حتى مدائن صالح شمالاً.
وبعد اللقاء في الفندق انطلقنا من العُلا لبضعة كيلومترات متجهين إلى مدائن صالح، أحد أبدع المواقع الأثرية العربية، في منطقة شهدت تعاقب حضارات تركت بصماتها عليها منذ الألف الأول قبل الميلاد كالديدانية واللحيانية والنبطية.
واقتربنا من موقع مدائن صالح عبر منحوتات طبيعية خلابة، ودخلنا الموقع. وفيه شاهدنا محطة لسكة حديد الحجاز، ومساكن لموظفيها والعاملين، وهي الآن تحظى باهتمام سياحي كبير. وبرفقة الأستاذ عبد الواحد، وهو مدرّس وشغوف بالتاريخ والآثار، تجولنا في المنطقة الأثرية الشاسعة. مقابر محفورة في الصخور، على نسق واحد تقريباً لا تختلف إلا في أعدادها وأحيانا في تفاصيلها.
موقع «الخريمات» أكثر من رائع. وفي قلب المنطقة الأثرية ينتصب ما يعرف بـ«قصر الفريد» (أو القصر الفريد) منتصباً بمفرده مطلاً باعتزاز على ما حوله. وفي مكان آخر موقع «قصر البنت»... وهناك على مسافة غير بعيدة «الديوان»، وهو مجلس محفور في كتلة ضخمة من الصخر الأحمر كان يلتقي فيه الحكام والأعيان، ويفصله عن صخرة أخرى مضيق يفضي إلى مسيل.
وفي الموقع آبار محفورة وخزانات للمياه، أما عدد المقابر الإجمالي فيربو على الثلاثين. ووسط الاهتمام الرسمي من هيئة السياحة والآثار وإمارة منطقة المدينة، فإن الحفريات ناشطة وواعدة، ولا سيما أن مدائن صالح تحتل مكانها المستحق على قائمة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي.
الآثار الإسلامية
* في العلا آثار إسلامية قديمة تبدأ من السنة السابعة للهجرة حيث مر بها الرسول (ص) وصلى بها، وأقام موسى بن نصير قلعته في أعلى جبل وسط العلا، وكذلك آثار سكة حديد حجاج الشام، ومن تلك الآثار الإسلامية محطة سكة حديد الحجاز، وهي عدة محطات على خط سكة حديد الحجاز التي تربطها ببلاد الشام مروراً بمدينة تبوك. ويذكر أنه بدأ العمل بسكة الحديد تلك في أكتوبر (تشرين الأول) 1899م.
قلعة الحجر الإسلامية: ورد ذكرها في رواية المقدسي، وهي عثمانية بناها العثمانيون عام 1375هـ 985م كاستراحة لحجاج بيت الله الحرام.
قلعة موسى بن نصير: أنشأها القائد المسلم موسى بن نصير البلوي على جبل شاهق وسط مدينة العلا.
البلدة القديمة: التي تسمى بالديرة وما تبقى من أزقتها ومبانيها وسقائفها.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.