خيبر ومدائن صالح... تحفتان بيئية وأثرية تتلألآن في شمال السعودية

رحلة خاصة إلى أولى عواصم الإسلام (2 من 2)

{الشرق الأوسط} في خيبر
{الشرق الأوسط} في خيبر
TT

خيبر ومدائن صالح... تحفتان بيئية وأثرية تتلألآن في شمال السعودية

{الشرق الأوسط} في خيبر
{الشرق الأوسط} في خيبر

الجزء الثاني من زيارتي منطقة المدينة المنوّرة في فبراير (شباط) الماضي أتيح لي برمجته بمساعدة كريمة من الإمارة، وخصّص لزيارة المنطقة الشمالية من المنطقة، وتحديداً خَيبر والعُلا - الحِجْر (مدائن صالح). ومجدّداً لا بد لي من القول إنني سمعت الكثير وقرأت الكثير عن المكانين، وبالتالي كانت فرصة زيارتهما بما يخصني لا تفوّت. وما علمته قبل الزيارة وبعدها أن نسبة متواضعة من معارفي السعوديين أتيحت لها متعة زيارة هذا الجزء الرائع الجمال من المملكة، وهو ما فاجأني حقاً.
في اعتقادي، وأنا الذي زار مناطق عديدة عبر قارات العالم، أن في هذه المنطقة جمالاً طبيعياً وأثرياً استثنائياً، وكل ما تحتاج إليه هو التعريف بها بالصورة التي تستحقّ وترويجها بدايةً للسياحة الداخلية. ولقد أسعدني كثيراً الاهتمام الذي تبديه اليوم كل من الهيئة العامة للسياحة والآثار وإمارة منطقة المدينة المنوّرة في هذا الاتجاه. وهذا ما أدركته أولاً من لقائي مع الأمير الدكتور فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، الذي كان يتحدث بحماسة بالغة عن إمكانيات الجذب الكامنة الهائلة ثقافياً وتراثياً وسياحياً في المنطقة. وفي ما بعد، لمسته على الأرض عندما زرت كلاً من خيبر والعُلا ومدائن صالح.
تجدر الإشارة إلى أن منطقة المدينة المنوّرة تضم، إلى جانب عاصمتها المدينة المنوّرة مقرّ الإمارة، عدة محافظات، بينها غرباً ينبع وبدر المطلّتان على البحر الأحمر، والحناكية في شرق المنطقة، والمَهد (مَهد الذهب) في جنوبها الشرقي، وخيبر شمالاً ثم العُلا في أقصى شمالها التي تطوّقها من الشرق والشمال والغرب منطقة تبوك.
في الصباح انطلقنا، الزميل وائل أبو منصور، سكرتير تحرير «الشرق الأوسط» في السعودية، وأنا، من الفندق في سيارته الرباعية الدفع باتجاه خيبر، ومنها إلى العُلا وجارتها الدرّة الغافية على مجد التاريخ... مدائن صالح، التي عرّفها الجغرافيون باسم الحِجْر (بكسر الحاء وتسكين الجيم). وتبلغ المسافة بين المدينة وخيبر أكثر بقليل من 160 كلم، وإلى مدينة العُلا نحو 330 كلم.

* خَيبر... البديعة

* الطريق إلى خَيبر، شمالاً، معبّد وممتاز، والرحلة مريحة. ولدى الوصول إليها تظهر ملامح التخطيط الحديث المتميّز لشبكة الطرق. ولكن خيبر «الجديدة» - المأهولة حالياً - مدينة صغيرة لا تلفت في حد ذاتها الزائر العابر ولا تعطيه أي انطباع استثنائي، باستثناء ملاحظة الحجارة السوداء على جانب الطريق... كيف لا ونحن في حرّة (طفح بركاني) تعدّ أهم حرار شبه الجزيرة العربية؟
قبل الوصول، وتسهيلاً لبلوغ غايتنا، أجرينا الاتصال مع دليلنا، والمرجع الرائع في تاريخ خَيبر وجغرافيتها وتراثها، «أبو سامي» صيفي بن عيسى الشلالي.
«أبو سامي» - أو «الموسوعة الخيبرية» كما اكتشفت لاحقاً - أمضى سنتين دارساً في مدينة كارديف عاصمة إقليم ويلز البريطاني، ولدى وصولنا إلى مدخل خَيبر أعطانا التعليمات عن خط سيرنا عبر الطرق الحديثة أولاً بأول وصولاً إلى داخلها حيث كان بانتظارنا.
وبعد استراحة قصيرة تخلّلها الترحاب والتعارف والاطلاع على ثروة من الوثائق القيّمة التي جمعها بجلد وشغف عن خَيبر وأهلها وتعود إلى عقود وعقود، تناولنا القهوة العربية والتمر اللذيذ - الذي أخبرنا أن نوعه «الحلوة» - داخل بيته العامر. ومن ثم بدأنا مشوارنا نحو اكتشاف خيبر القديمة التاريخية، الواقعة إلى الشمال الغربي من المدينة الجديدة عبر جبال الصهباء، بـ«اللاند كروزر» المجرّبة في مسالك الواحة.
منذ الإطلالة الأولى، بعد اجتياز جبال الصهباء، يطالع الزائر منظر ساحر لواحة غنّاء بوديانها وينابيعها وبساتين نخلها.. أو «خيفها» (الخيف، هو بستان النخل) وقراها وحصونها. وفي تلك اللحظة تذكّرت وصف حسان بن ثابت، شاعر الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، نخيلها وتمرها إذ قال:
أتفخر بالكتّان لمّا لبسته
وقد تلبسُ الأنباطُ رَيطاً مقصّرا
فلا تكُ كالعاوي، فأقبل نحرُهُ
ولم تخشهُ سهماً من النّبلِ مضمرا
فإنّا، ومن يهدي القصائدَ نحونا،
كمستبضِعٍ تمراً إلى أرض خيبرا
وبمناسبة الكلام عن نخيل خَيبر فإن المسلمين أحصوا من النخيل الموجود فقط في وادي النّطاه - أحد أوديتها الأشهر - فوجدوا فيها أربعين ألف نخلة. أما عن أصل اسم خَيبر فله غير تفسير واحد، منها أنه مشتق من الخبرة - أي الأرض السهلة الطيبة الطين، وبالفعل، يذكر المؤرخون أن تربتها عُرفت منذ أقدم العصور تربة خصبة ذات عيون ومياه غزيرة، صالحة لزراعة الحبوب والفواكه على أنواعها، ومنه أن كلمة «خَيبر» (جمعها خَيابر) أي «الحصن» بلغة العماليق، من الأقوام القديمة التي سكنت عدة مناطق بشمال شبه جزيرة العرب الذين سكنوها في الأيام الغابرة. إنها واحة نخيل ضخمة على مدّ النظر.. لا تعترضه سوى أبنية وحصون قديمة مهجورة. منظر من أجمل ما رأيت في بلاد العرب. وبالسيارة كانت قرية – أو حي – الشُّرَيف.. محطتنا الأولى. هنا سوق خيبر القديم، وبعض أجمل الأبنية ذات الأسس الحجرية المسقّفة والمعتّبة بجذوع نخيل «الطيبة» المرغوب خشبه المَتين في البناء، والذي يستسيغه المعتنون بصحتهم ممّن يتحاشون الحلاوة الشديدة في أنواع التمور الأخرى. وعلمنا أن عملية إعادة تأهيل الشُّرَيف مُبرمجة في أعقاب تقدّم إعادة تأهيل مَكيدة، الحي أو القرية في أقصى جنوب خَيبر القديمة، التي تشمل آثار حصن الوطيح أحد أشهر حصونها القديمة.
في الشُّرَيف جلنا بسوقها المهجور وأبنيتها القديمة، ومنها شاهدنا عن بعد حصن القموص التاريخي الشهير. وفيها أيضا شاهدنا تحضيرات عملية لاحتفال مبرمج يؤكد الاهتمام الكبير في التعجيل بإيقاظ هذه الدرّة التراثية من سباتها.
وهنا، جاء دور «أبو سامي» ليشرح لنا بالتفصيل ما هو أمامنا، فقال إن ما يميّز الواحة - الحرّة تنوّع تضاريسها، وما تحفل به من آثار ونقوش بديعة. وهي تبدأ جغرافياً من وادي الزّعبلة التي تليها مَكيدة. أما مَكيدة فتليها إلى الشمال سبخة ملحية منخفضة تُعرف باسم السُّبيخاء (أو الصُّبيخاء) تفصلها عن الشُّرَيف. وإلى الشمال من الشُّرَيف يمتد من الشرق إلى الغرب ما يدعي بوادي الزايدية، وتبدأ بجزءٍ هو الزايدية، يليه خيف مهمّل ثم خيف عين الريّا ثم خيف الحصن ثم محلة القرقاعة.
ثم إلى الشمال من وادي الزايدية يمتد وادٍ آخر أيضا من الشرق إلى الغرب هو وادي الحلحال، الذي اشتهرت مُسميات عدّة فيه إبان الجاهلية وفجر الإسلام. وحمل الوادي كله أسماء أجزاء فيه، أولها – وربما أشهرها - وادي النّطاه، ثم وادي الشقّ، ثم وادي الرّوان، ثم وادي الصّوَير، وتلتقي هذه الوديان غرباً في الوادي الكبير.. وادي خَيبر.
ولدى مغادرة سوق الشُّريف هبطنا إلى وادي النّطاه وسرنا غرباً في وادي الشق فالرَّوان... مع سريان ماء الينابيع وفي ظل النخيل السامق، إلى أن وصلنا إلى أسفل مباني الرَّوان.
«أبو سامي» أبلغنا أن بعض الآثار المُكتشفة في خَيبر تشير إلى أنها سُكنت قبل 6000 سنة ق.م، وأن فيها آثاراً ترجع إلى العصر الحجري القديم، منها فؤوس حجرية وقواطع ومعاول، والعديد من الآثار الحجرية، وهي عبارة عن ألواح حجرية كبيرة جعلت على دوائر ومُثلثّات. كذلك عثر في بعض أرجاء خَيبر على رسوم محفورة ومزخرفة لأبقار وحشية وخيول يقدّر أنها تعود للألف الخامس قبل الميلاد.
وبعد إنهاء الجولة في الرَّوان عُدنا إلى بيت «أبو سامي» لتناول الغداء مع ضيوفه الكرام من كبار المسؤولين المحليين في خَيبر، وبعدها انطلقنا إلى العُلا فمدائن صالح.

* العُلا... ومدائن صالح (الحِجْر)

* الطريق إلى مدينة العُلا ممتازة والمناظر الطبيعية، ولا سيما المُرتفعات الصخرية المُطلّة عليها غاية في الجمال.
قبل الوصول إلى المدينة اتصلنا بدليلنا الأستاذ عبد الواحد عبد الواحد، واتفقنا معه على الالتقاء في فندق «العلا – آراك»، وهو فندق عصري راقٍ تطل عليه تشكيلات صخرية حمراء نحتتها الطبيعة عبر القرون.
العلا القديمة، أو ديدان، ترتفع 70 مترا عن سطح البحر ويتيح مناخها زراعة النخيل والحمضيات، وتنتشر أطلال المنازل وعددها 770، حول قلعة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. ولقد خضعت للترميم أخيراً لكن لم يتبقَّ منها إلا الأسوار الخارجية.
القلعة تتموضع بمواجهة المزارع التي كانت ترويها 34 من الينابيع جفّ غالبيتها. وتعد المنطقة، وفقا للجغرافيين والمؤرخين، من أخصب بلدات وادي القرى الذي يمتد من شمال خيبر جنوبا حتى مدائن صالح شمالاً.
وبعد اللقاء في الفندق انطلقنا من العُلا لبضعة كيلومترات متجهين إلى مدائن صالح، أحد أبدع المواقع الأثرية العربية، في منطقة شهدت تعاقب حضارات تركت بصماتها عليها منذ الألف الأول قبل الميلاد كالديدانية واللحيانية والنبطية.
واقتربنا من موقع مدائن صالح عبر منحوتات طبيعية خلابة، ودخلنا الموقع. وفيه شاهدنا محطة لسكة حديد الحجاز، ومساكن لموظفيها والعاملين، وهي الآن تحظى باهتمام سياحي كبير. وبرفقة الأستاذ عبد الواحد، وهو مدرّس وشغوف بالتاريخ والآثار، تجولنا في المنطقة الأثرية الشاسعة. مقابر محفورة في الصخور، على نسق واحد تقريباً لا تختلف إلا في أعدادها وأحيانا في تفاصيلها.
موقع «الخريمات» أكثر من رائع. وفي قلب المنطقة الأثرية ينتصب ما يعرف بـ«قصر الفريد» (أو القصر الفريد) منتصباً بمفرده مطلاً باعتزاز على ما حوله. وفي مكان آخر موقع «قصر البنت»... وهناك على مسافة غير بعيدة «الديوان»، وهو مجلس محفور في كتلة ضخمة من الصخر الأحمر كان يلتقي فيه الحكام والأعيان، ويفصله عن صخرة أخرى مضيق يفضي إلى مسيل.
وفي الموقع آبار محفورة وخزانات للمياه، أما عدد المقابر الإجمالي فيربو على الثلاثين. ووسط الاهتمام الرسمي من هيئة السياحة والآثار وإمارة منطقة المدينة، فإن الحفريات ناشطة وواعدة، ولا سيما أن مدائن صالح تحتل مكانها المستحق على قائمة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي.
الآثار الإسلامية
* في العلا آثار إسلامية قديمة تبدأ من السنة السابعة للهجرة حيث مر بها الرسول (ص) وصلى بها، وأقام موسى بن نصير قلعته في أعلى جبل وسط العلا، وكذلك آثار سكة حديد حجاج الشام، ومن تلك الآثار الإسلامية محطة سكة حديد الحجاز، وهي عدة محطات على خط سكة حديد الحجاز التي تربطها ببلاد الشام مروراً بمدينة تبوك. ويذكر أنه بدأ العمل بسكة الحديد تلك في أكتوبر (تشرين الأول) 1899م.
قلعة الحجر الإسلامية: ورد ذكرها في رواية المقدسي، وهي عثمانية بناها العثمانيون عام 1375هـ 985م كاستراحة لحجاج بيت الله الحرام.
قلعة موسى بن نصير: أنشأها القائد المسلم موسى بن نصير البلوي على جبل شاهق وسط مدينة العلا.
البلدة القديمة: التي تسمى بالديرة وما تبقى من أزقتها ومبانيها وسقائفها.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!