أكاديمي أميركي يوثق تاريخ بيروت الثقافي واللغوي بالخرائط الرقمية التفاعلية

ديفيد ويرسلي يشرف على أول معهد للإنسانيات الرقمية في العالم العربي

البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
TT

أكاديمي أميركي يوثق تاريخ بيروت الثقافي واللغوي بالخرائط الرقمية التفاعلية

البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»

يعمل ديفيد ويرسلي، الأستاذ المساعد بقسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية ببيروت، بدأب في مجال الإنسانيات الرقمية، حيث أسس أول قسم للإنسانيات الرقمية في العالم العربي بالجامعة الأميركية ببيروت، وهو تخصص أكاديمي يجمع عدة تخصصات في مجال العلوم الإنسانية كالتاريخ والأدب والجغرافيا مع تكنولوجيا المعلومات، وقام ويرسلي مع طلابه بتوثيق تاريخ بيروت عبر عدة مشروعات رقمية تدمج علوم اللسانيات مع الجغرافيا مع تكنولوجيا المعلومات عبر تصميم الخرائط الرقمية، فكان أول مشروعاته البحثية تصميم خريطة تفاعلية لغوية لبيروتLinguistic Landscapes of Beirut - (llb.djwrisley.com) أما المشروع الثاني فهو خريطة رقمية تفاعلية توثق لتاريخ بيروت في عالم الطباعة والنشر انطلاقا من مقولة «بيروت تطبع، والقاهرة تكتب، وبغداد تقرأ».
يقول ويرسلي لـ«الشرق الأوسط»: «أقوم بتدريس تاريخ اللغة الإنجليزية وهو الذي أثار شغفي في تتبع تاريخ الإنجليزية في بيروت، وواحد من أكثر الأمور إثارة للانتباه هو كم اللغات المستخدمة في كتابة اللافتات في شوارع بيروت. وحينما كنت أتدرب على الخرائط الرقمية في نيويورك رأيت مشروع خريطة للغرافيتي السياسي في شوارع نيويورك وبوينس آيريس باستخدام تطبيق للهواتف الذكية، وفجأة طرأت الفكرة في ذهني لرسم خريطة توضح استخدام اللبنانيين للكثير من اللغات المكتوبة في الأماكن العامة، وبدأت المشروع مع طلابي، وقمت بتطبيق الفكرة بواسطة تطبيق للهواتف الذكية fulcrumapp.com لجمع البيانات بسهولة أثناء تنقلهم من مكان لآخر وبالتالي كونوا قاعدة بيانات مكانية كبرى».
وعن عدد الأماكن التي تم جمعها عبر الخرائط الرقمية، يوضح ويرسلي: «على مدار عام كامل قمنا بجمع أكثر من ألفي عينة من اللافتات العامة، وكان تركيزنا الأساسي على أي اللغات وجدت مكتوبة معا، ونوعية النص الذي وجدت فيه العينات، وكيف تكتب الأرقام وبأي لغة، وقد عثرنا على نماذج مثيرة للاهتمام». ويقول: «إن جمع البيانات لهذا المشروع كان نوعا ما سهلا وسريعا، لكنه كان يتطلب أن يكون الطلاب على قدر كبير من الدقة في استخدام الكاميرا. ولم نجمع صورا لأماكن حساسة أو صورا لأشخاص بل فقط اللغات المكتوبة في الأماكن العامة».
حظي المشروع باهتمام بالغ وبدأ تدريسه في عدد من الدورات التعليمية الخاصة بالإنسانيات الرقمية حول العالم، هكذا أوضح ويرسلي بسعادة كبيرة بجهوده وجهود طلابه، قائلا: «في باريس قرر عدد من الزملاء استخدام نموذج المشروع لعمل أبحاث اجتماعية - لغوية مماثلة. كما أن طلاب الماجستير في الجامعة الأميركية ببيروت يدرسونه كنقطة انطلاق لمزيد من الأبحاث الأكثر تعمقا عن اللغات المستخدمة في شوارع محددة ببيروت. وكم أود أن أرى المشروع يتمدد ويتوسع لمزيد من المدن المتعددة اللغات في العالم العربي».
ديفيد ويرسلي أحد أبرز وأنشط الأكاديميين المتخصصين في الإنسانيات الرقمية ولديه عدد من المشروعات التي تدمج علوم اللسانيات والجغرافيا وعلم الاجتماع والأدب معا، وهو يعيش منذ أكثر من 14 عاما بالعالم العربي ويتحدث العربية باللهجة اللبنانية بطلاقة. ويقيم منذ العام الماضي عدة دورات تدريبية ومشروعات بحثية يشارك فيها طلاب جامعته ومتطوعون في سبيل جمع المعلومات وتحويلها إلى خرائط معلومات رقمية. كما شارك نهاية العام الماضي في أول فعالية للتعريف بعلم الإنسانيات الرقمية في مصر بالتعاون مع الجامعة الأميركية بالقاهرة.
يشرح بروفسور ويرسلي تفاصيل المشروع الثاني وهو خريطة رقمية عن (ثقافة المطبوعات) أو (ثقافة الطباعة) في بيروت mbpc.djwrisley.com. وكان من المثير التعرف على السبب الذي جعله يفكر في مثل هذا المشروع الذي غاب عن الباحثين في العالم العربي دراسته كظاهرة تستدعي التأمل وبحث تطورها ومآلاتها، يوضح قائلا: «كنت أخطط لتدريس دورة تدريبية في (الإنسانيات المكانية) لقسم اللغة الإنجليزية وأردت أن أطبق منهجية مماثلة للمشروعات السابقة ولكن حول سوسيولوجيا ثقافة الطباعة في بيروت. ولطالما كانت بيروت معروفة بأنها مركز للطباعة والنشر، لذا قررنا أن نقوم بمسح لهذه الأماكن من دور نشر ومراكز بيع المطبوعات ومحاولة استكشاف تطورها وما آلت إليه في إطار التغيرات التي يمر بها العالم، وأثناء توسعنا في الفكرة وجدنا خريطتين مماثلتين لفكرة مشروعنا؛ أحدهما عن منافذ بيع الكتب بالقاهرة Cairo Bookstop، والأخرى منافذ بيع التسجيلات الموسيقية بباريس Disquaires de Paris، في المشروع الأول: تم عمل خريطة لجميع الأماكن التي يمكن من خلالها الحصول على الكتب في القاهرة، وبالطبع كل مصري يعلم صعوبة الحصول على الكتاب الذي يرغب فيه، وقد أعجبني أيضا إضافة العنصر التاريخي لمحل «فينيل ريكورد» في باريس. وأردت أن أدمج بين كلا المشروعين في خريطة عن بيروت وإضافة العمق التاريخي للأماكن التي تبرزها الخريطة».
ويشير إلى أن الخريطة تضمنت مواقع لمختلف أنماط المطبوعات الثقافية مثل: منافذ بيع الكتب، ودور النشر، والمكتبات الخاصة وأكشاك الكتب، ومعارض الكتب والمكتبات العامة وغيرها، وتم اختيار المواقع بعد استشارة ذوي الخبرة، وعمل مقابلات، وأيضا السير في طرقات وشوارع بيروت. ويضيف: «وقد قدمت الخرائط التحليلية لمشروع مبادرة (الجوار) بالجامعة الأميركية ببيروت عونا كبيرا لنا في مشروعنا، حيث مدتنا ببيانات عن الساحات الثقافية واستغلال الأراضي، لقد مكننا هذا المشروع من أن نبني فرضيات عن تأثير كثافة التوسع الحضري على الثقافة». ويكشف ويرسلي: «لقد قمنا بوضع 500 موقع لها علاقة بالمطبوعات في بيروت بعضها له تاريخ كبير وبعضها حديث، لكن جهود الطلاب ذهبت لأبعد من ذلك، لقد أجروا مقابلات حول موضوعات معينة مع أناس محليين لهم علاقة بمجال الطباعة مما ساعد على تطوير المشروع وتميزه وجعله أكثر أصالة». ويوضح: «أعمل منذ فترة مع عدد من الزملاء في الجامعة الأميركية ببيروت وزميلي ريان فياض لعمل خريطة صوتية لبيروت تشرح تاريخها».
وعن إمكانية تطبيق مثل هذا المشروع على مدن أخرى بالعالم العربي يقول: «يمكن لهذا المشروع أن يتوسع ليشمل باقي العالم العربي خاصة أن مدنا مثل الإسكندرية والقاهرة، وبغداد، ودمشق، وطنجة وتونس لها تاريخ غني فيما يتعلق بثقافة المطبوعات وسيكون أمر مشوق أن نقوم برسم خرائط رقمية لها. وأتمنى أن أتابع العمل على هذا المشروع مع باعة الكتب في معارض الكتاب في بيروت وأبوظبي».
تتنوع مهارات الباحثين في مجال الإنسانيات الرقمية ما بين تكويد النصوص المكتوبة بشكل رقمي، وعلم الشبكات وتصميم ورسم الخرائط الرقمية التفاعلية البصرية والسمعية. وعن شغفه بالخرائط الرقمية التفاعلية، يقول ويرسلي: «إن عمل خرائط معلومات يسمح لك بالرؤية أو التصور بطريقة واضحة لم نكن لنحظى بها من قبل، تروي الخرائط أنواعا كثيرة من القصص تختلف عن تلك التي توضحها النصوص أو الرسوم البيانية. ويحتاج الأمر لمعرفة جيدة بالأمكنة وقراءتها. ويسمى هذا التخصص الفرعي من الإنسانيات الرقمية الذي يتعامل مع الخرائط التفاعلية (الحية): (الإنسانيات المكانية) أو (الجغرافيا الإنسانية)».
ويستطرد: «لطالما كنت مهتما بعدد من المشروعات البحثية في مجال الإنسانيات الرقمية، وكان أولها عام 2013 وهو مشروع عن المواقع التي ذكرت في أدب العصور الوسطي الفرنسي، وهو مشروع يتطلب قدرا عاليا من التخصص؛ فهو يتطلب خلفية معرفية تاريخية ومهارات لغوية».
بدأ ديفيد ويرسلي بتدريس الطلاب كيفية تصميم تلك الخرائط منذ أن بدأ دورة للتعريف بأساسيات علم الإنسانيات الرقمية في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأميركية ببيروت في خريف عام 2013. وهو يعتقد أن تعليم الخرائط الرقمية لهذا الجيل من الطلاب تجربة ثرية جدا. ويقول بفخر كبير: «لقد صممت راندا الخطيب، وهي واحدة من بين طلابي، خريطة تفاعلية شيقة وهامة للغاية تجسد الأمكنة التي ذكرها مريد البرغوثي في روايته (رأيت رام الله)، حيث قامت بالتمييز بين الألوان لتوضح الأمكنة التي ذكرها فقط والتي زارها فعليا، إنها خريطة أدبية عن الذاكرة الفلسطينية وتنقل خبرة صنعتها الرواية. وتقوم راندا حاليا بالإعداد للدكتوراه في الإنسانيات الرقمية بكندا».
وحول أهمية علم الإنسانيات الرقمية ومناهجه البحثية للعالم العربي في ظل ما يعاني منه من تدمير لتراثه وحضارته، يقول ويرسلي: «إننا بحاجة للإنسانيات الرقمية مثلما نحن بحاجة لعلوم الإنسانيات بصفة عامة، أما الجانب الرقمي فإنه يعني مزيدا من مهارات التعلم والوقت والجهد لكن هذا الجانب يكسب المشروعات البحثية الناتجة صيغة عالمية فهي تصبح مرئية ومفهومة من قبل الباحثين على اختلاف جنسياتهم كما يمكن تطبيقها في أكثر من مكان حول العالم. ففي الإنسانيات الرقمية، نحاول أن نجعل الدراسة تخرج عن إطار التخصص عن طريق إشراك العامة حتى إننا نقبل البيانات التي ترسل لنا من أناس عاديين ولها علاقة بموضوع المشروع البحثي».
وعن مزايا علم الإنسانيات الرقمية يقول: «يتعلم طلاب الإنسانيات الرقمية مهارات قيمة حول جمع البيانات وتحليلها، وعن اللغات، والثقافة وإنتاج الثقافة وكيفية التعامل مع قواعد البيانات، وصنع الخرائط الرقمية وعرض نتائج بحوثهم بشكل رقمي وتقليدي. وعادة لا أطلب من طلابي الانغماس في الأبحاث التقليدية، حيث يسود الاعتقاد بأن الجامعة لدراسة وحفظ ما توصل إليه كبار العلماء، لكن نحن نغير الفكر التقليدي في التعليم».
ويضيف ويرسلي: «وكأستاذ في الإنسانيات عاش في العالم العربي نحو 14 عاما، فأنا على علم بنقص المعرفة فيما يتعلق بالثقافة والتاريخ، خاصة أن أغلب الأبحاث والدراسات التي تتناول تلك الموضوعات تم عملها من الخارج عن الداخل، أما المشروعات الرقمية التي نعمل عليها فهي تحاول تغيير هذا الوضع الرائج».
ولا يتوانى البروفسور ويرسلي عن التحفيز الفكري لطلابه ومتابعيه على موقع «تويتر» حيث يحفزهم دائما بأسئلة تتطلب التفكير بشكل جماعي، والبحث والتنقيب، سواء عن معلومات تاريخية أو مرادفات لغوية تمثل عقبات أثناء عملية الترجمة من وإلى العربية والإنجليزية، فضلا عن أنه يبث نتائج مشروعاته وأحدث الأبحاث والمشروعات الرقمية حول العالم. ويقول: «المشروعات البحثية التي أشرفت عليها تتبنى عددا من القيم المعرفية في علم الإنسانيات الرقمية، ألا وهي: مهارات الاعتماد على النفس (اصنعها بنفسك)، حيث يبحثون هم عن طرق التعلم بأنفسهم بدلا من انتظار أن يعلمهم الأستاذ الجامعي، كما أنني شجعتهم على تبادل النتائج التي يعملون عليها ودمج نتاج عملهم معا حيث يتم تعديل الخرائط الرقمية بصورة حية في الوقت الآني. ولعل الأروع من ذلك هو أن الطلاب يحصلون على مهارات معرفية رقمية ضرورية للغاية في القرن الحادي والعشرين»، مضيفا: «إنهم يتعلمون التفكير حول تداخل العلوم عبر شرح اللغة والثقافة، ويحتاج الطلاب في العصر الرقمي إلى تعلم كيفية جمع البيانات وتخير أفضلها».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».