«وكالة البلح» أقدم أسواق الملابس المستعملة في القاهرة تنتعش من جديد

بعد كساد امتد لقرابة ثلاث سنوات

عودة حركة البيع والشراء نسبيا
عودة حركة البيع والشراء نسبيا
TT

«وكالة البلح» أقدم أسواق الملابس المستعملة في القاهرة تنتعش من جديد

عودة حركة البيع والشراء نسبيا
عودة حركة البيع والشراء نسبيا

أمسك بمقبض النارجيلة ونفث سحابة كثيفة من الدخان، وكأنها تنهيدة بعد معاناة وصبر طويلين امتدا ربما لما يقرب من الثلاث سنوات منذ اندلاع الثورة المصرية في الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011. ها هو إبراهيم السيد (50 عاما) جالس أمام دكانه البسيط في شارع 26 يوليو بحي بولاق في العاصمة، ينظر بدهشة إلى سوق «وكالة البلح» التي عانت الافتقار للزبائن لفترات طويلة أثرت على حركة البيع والشراء وقطعت مصدر رزق التجار الأساسي والوحيد منذ أحداث يناير. بينما الآن يتحسن الوضع كثيرا بعد عودة الأمن نسبيا واستقرار الوضع السياسي في البلاد.
يقول إبراهيم: «أنا أملك هذا المحل منذ نحو 12 عاما، لم أتعرض خلالها لانتكاسة من أي نوع، وحركة البيع كانت ممتازة، والزبائن كانوا يتوافدون بالمئات، بل بالآلاف في بعض الأوقات إلى أن اندلعت الثورة في 2011 فبتنا منذ ذلك الوقت نجلس أمام المحلات في انتظار زبون واحد، وإذا أتى فإنه في الغالب لا يشتري إلا بعد فصال ومساومات لا تنتهي.. فالإقبال كان شبه منعدم، وكنت لا أبيع أكثر من خمس أو ست قطع في اليوم، وزاد الوضع سوءا إبان فترة حكم الجماعة الإرهابية للبلاد، حيث حل الكساد على جميع التجار».
ويضيف: «لكن الآن وبفضل تحسن الوضع الأمني في البلاد نسبيا عادت حركة البيع والشراء بنسبة عالية وعاد الزبائن يتوافدون على السوق بنسبة كبيرة، وأصبحت أبيع الآن ما بين 60 و100 بنطال يوميا».
وأضاف بنبرة حماس واضحة: «الزبون أصبح يجد الأمان في الشارع مع انتشار رجال الشرطة والقوات المسلحة وعودة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد بنسبة كبيرة، وهذا جعل الكثير من المحلات التي أغلق أصحابها أبوابها تعود وتستأنف النشاط من جديد لجذب المشترين الذين أصبحوا يتوافدون على السوق حتى ساعات متأخرة من الليل».
وتعود نشأة السوق (وكالة البلح) إلى عام 1880، وكانت تسمى سوق «الكانتو»، وهي كلمة إيطالية تعني التجارة في الأشياء المستعملة أو المستخدمة، كما تعرف باسم «وكالة البلح»؛ لأنها كانت في الأساس سوقا للاتجار في البلح، ثم تحولت إلى تجارة الملابس التي تأتي في أكياس ضخمة تسمى «البالة» وتصل إلى ميناء بورسعيد عبر شركات ومكاتب متخصصة في استيراد تلك الملابس لتبيعها لتجار الوكالة بـ«الكيلو».
ويتحدد سعر البالة وفقا لنوع البضاعة وموسمها ودرجاتها، فأغلى الأنواع التي يطلق عليها «الريم» أو «نمرة واحد» يتراوح ثمن الكيلو منها بين 50 و70 جنيها، أما ملابس الدرجة الثانية «مستعمل بسيط» فيباع الكيلو منها بـ30 جنيها، وقد يصل إلى 45 جنيها لكيلو الملابس الواحد.
وتستعد السوق لمواجهة مشكلات من نوع آخر مثل انتشار البضائع الصينية زهيدة الثمن، والباعة الجائلين الذين يزاحمون أصحاب المحال على البيع والشراء. ويشير إبراهيم إلى أن «الباعة الجائلين ينتهزون الفرصة للبيع في أي مكان وإن كان أمام الدكاكين الخاصة بنا والتي ندفع إيجارا شهريا لها يبلغ خمسة آلاف جنيه في حين أنهم لا يدفعون شيئا للدولة».
ويؤكد: «حالة الانتعاش التي تسود السوق لا ينغصها إلا الباعة الصينيون الذين أثروا علينا كثيرا كتجار ملابس أغلبها مستعمل في الأساس، وإن كان الزبائن بدأوا في التمييز ومعرفة الفرق بين جودة تلك المنتجات ومنتجاتنا التي تفوقها بكثير».
وكان الكثير من «دكاكين» الوكالة قد أغلقت أبوابها بسبب تراكم الديون وارتفاع أسعار الإيجار والكهرباء. وحالة الكساد التي طالت تجار «وكالة البلح» هي حالة عامة يعاني منها معظم التجار في مصر منذ 2011 وفي مختلف القطاعات بسبب سوء الحالة الأمنية والاقتصادية والتي طالت قطاعا مهما جدا «قطاع السياحة». يقول إبراهيم: «لا شك أن السياحة بفضل الله بدأت تنتعش من جديد وبشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة وبدأنا نرى توافدا للسياح العرب والأجانب على حد سواء في السوق وفي الشوارع المحيطة بها وهو مؤشر جيد جدا على تحسن الوضع الأمني في المقام الأول».
ومثله كمثل تجار الوكالة الذين بدأوا في رؤية الأمل لعودة الانتعاش للسوق من جديد في ظل ظروف اقتصادية صعبة ومعاناة بسبب الديون والخوف من شبح الإفلاس، قال إبراهيم: «نحن نسلم أمرنا لله ولدينا يقين بأنه لن يتركنا وننتظر إصلاح أمور البلاد بشكل أكبر وأسرع وعودة الأمن والسياحة كما كانت وأفضل.. ليس فقط من أجل التجارة، ولكن من أجل إنعاش الاقتصاد المصري ككل من جديد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)