تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

مع تعثر محاولات تشكيل وزارة جديدة

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟
TT

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

خلافًا للبرنامج الذي سبق أن أعلن عنه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ومستشاروه لن تتشكل «حكومة الوحدة الوطنية» التي ستعوّض حكومة الحبيب الصيد يوم 27 يونيو (حزيران) الحالي أو قبل عيد الفطر. ولقد أفرز الاجتماع التشاوري الجديد الذي أشرف عليه قائد السبسي أخيرًا بمشاركة ممثلي 9 أحزاب وزعماء النقابات خلافات حول مضمون «الوثيقة الرئاسية» التي تبرر الإطاحة بحكومة الصيد وتشكيل حكومة جديدة تدعمها «كل الأطراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وفي هذه الأثناء كشفت المشاورات داخل الحزبين الكبيرين، «نداء تونس» و«النهضة»، وفي صفوف المعارضة، عن خلافات في تقييم الحكومة الحالية ورئيسها بما يوشك أن يفجر أزمات داخلية فيها بينها.. خلافات قد تتسبب بانهيار حزب الرئيس الذي فقد الأغلبية البرلمانية منذ أشهر. فإلى أين تسير تونس في ظل «الماراثون السياسي الجديد» الذي تشهده من أجل الإطاحة بالحكومة الثامنة منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011؟
وهل سيكون تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» خطوة نحو الإنقاذ والإصلاح أم مدخلاً لأزمة سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة؟

رسميًا، رحبت كل قيادات الأحزاب التونسية بالمبادرة التي أطلقها الرئيس الباجي قائد السبسي مطلع يونيو الحالي ودعا فيها إلى «حكومة وحدة وطنية» طلب من المعارضة ومن نقابات العمال ورجال الأعمال المشاركة فيها. إلا أن الأزمات بدأت تبرز منذ بدء جلسات «الحوار الوطني» في قصر الرئاسة بضاحية قرطاج، قرب تونس العاصمة، لرسم أولويات الحكومة المقبلة، ومناقشة أسماء المرشحين لتعويض الحبيب الصيد ووزرائه.
وفي الوقت نفسه تفجرت خلافات جديدة داخل حزب الرئيس وخارجه بسبب التقييمات المتباينة للحكومة الحالية والبرلمان والمواقف المتناقضة من «البديل» المقترح رغم بروز نوع من الإجماع حول المبرّرات الذي قدمها قائد السبسي لمبادرته ومنها خصوصًا «المخاطر الاقتصادية والاجتماعية» التي تهدد البلاد.
* معركة الكراسي والمواقع
مصادر مسؤولة أفادت «الشرق الأوسط» بأن الاجتماع الموسع لقيادة حزب الرئيس الذي عقد بإشراف نجله حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي للحزب، كشف وجود مناصرين للإبقاء على الحبيب الصيد رئيسًا للحكومة في حال تعديلها وآخرين مساندين لرحيله. وكان بين الذين دافعوا عن الصيد وزيرا الخارجية خميس الجهيناوي والسياحة سلمى اللومي، والوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات. كذلك صدرت تصريحات عن قياديين في «النهضة» بينهم الوزير السابق عبد اللطيف المكي تؤكد أن الحزب الأول في البرلمان لم يبت نهائيًا في «مشروع» تعويض الحبيب الصيد. وعندما بدأت «الحرب النفسية» ومعركة «لتسريبات» لأسماء المرشحين لتعويض رئيس الحكومة الحالي استفحلت الخلافات داخل الحزب الحاكم منذ عام ونصف العام، وخارجه. وتعالت مجددًا الدعوات لاختيار «شخصية مستقلة» لرئاسة الحكومة المقبلة.
ورغم تصريحات رئيس الجمهورية ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية التي حذّرت التونسيين من «العجز المالي» ومن إفلاس الصناديق الاجتماعية وشركات وطنية كبيرة العام المقبل، يبدو السياسيون والنقابيون منشغلين أساسًا بـ«معركة الكراسي والمواقع».
و«مرة أخرى تجد البلاد فيها نفسها مهددة بالمعنيين بـ(الغنيمة)، وليس بإصلاح الأوضاع العامة» على حد تعبير النقيب السابق للمحامين التونسيين عبد الرزاق الكيلاني، ووزير المالية السابق إلياس فخفاخ.
* مشاريع معطّلة
الوزيرة سلمى اللومي، رغم أنها من بين أقارب الرئيس، انتقدت ما وصفته بـ«تعاقب الحكومات بنسق سريع خلال الأعوام الماضية» مما تسبب في «تعطل إنجاز المشاريع وتعثر عمل الإدارة التي أصبحت مكبّلة بالخوف، لأن أغلب المسؤولين الإداريين باتوا يتخوّفون من تنفيذ قرارات الوزراء أو رؤسائهم المباشرين، نتيجة ما حدث بعد 14 يناير 2011 (من محاكمات واعتقالات ومضايقات)، حين دفع كبار الموظفين وبعض الوزراء ثمن قرارات خاطئة اتخذها الرئيس السابق ومستشاروه». كذلك اعتبر برلمانيون معارضون مثل زهير المغزاوي، زعيم حزب الشعب، أنه «ليس من مصلحة شباب تونس العاطل عن العمل والمهمش محاولة إنقاذ حزب النداء عبر مبادرات قد تزيد الأوضاع في البلاد تعفنًا».
* المعارضة تقاطع؟
أما في صفوف المعارضة اليسارية «المتشددة»، بزعامة حمه الهمامي ورفاقه في «الجبهة الشعبية»، فقد تقرر إيقاف المشاركة في الاجتماعات التي يشرف عليها رئيس الدولة. وانطلقت حملة إعلامية دعائية قوية ضد «نداء تونس» وشركائه في حكومتي الحبيب الصيد، مع تحميلها «مسؤولية تعمق أزمات البطالة والفقر والتضخم وعجز موازنات الدولة وبينها الميزان التجاري وميزان الدفوعات»، على حد تعبير البرلماني اليساري عمار عمروسية من حزب العمال الشيوعي.
ويُعتبر بعض المراقبين في تونس، منهم الأكاديمي رضا الشكندالي، أن «خطر الانكماش الاقتصادي في تونس قد يستفحل إذا تعمّقت الأزمة بين النقابات القريبة من اليسار التونسي والسلطات، وإذا لم تتوصل الحكومة والأطراف الاجتماعية إلى اتفاق حول تجميد الإضرابات والتحركات الاحتجاجية لمدة لا تقل عن سنتين». بينما اعتبر محسن مرزوق، زعيم حزب مشروع تونس- المنشق عن حزب قائد السبسي قبل أشهر - أن «الهدف الرئيسي من المبادرة الرئاسية ليس سياسيًا بل كان ولا يزال اجتماعيًا اقتصاديًا»، أي إشراك النقابات والمعارضة اليسارية في الحكومة المستقبلية.
وفي حين فهم نقابيون يساريون بارزون، مثل سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، المبادرة الرئاسية على أساس أنها «محاولة لتوريط النقابات» في الخيارات السياسية والاقتصادية الفاشلة للائتلاف الحكومي، ذهب اليساري عمروسية إلى حد التساؤل عن قيمة التمسك بالمبادرة الرئاسية الحالية إذا لم يدعمها اتحاد نقابات العمال ولم تساندها المعارضة اليسارية بزعامة «الجبهة الشعبية».
* «النهضة» تحسن موقعها
في المقابل، ماذا عن موقف حزب حركة «النهضة» (الإسلامي)، الحزب الأول في البرلمان منذ الانقسامات التي أضعفت «نداء تونس» الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014؟ فرسميًا ساند زعيم «النهضة» راشد الغنوشي ومستشاره السياسي لطفي زيتون ورئيس كتلة الحزب في البرلمان نور الدين البحيري «المبادرة الرئاسية»، وذكّروا بكونهم دعوا إلى حكومة «وحدة وطنية» منذ ما قبل تشكيل حكومة الحبيب الصيد الأولى في يناير 2015.
كذلك تحرّك الغنوشي في تونس وخارجها بقوة لدعم مبادرة الرئيس قائد السبسي وخيار «التوافق الوطني» و«دعم تجربة الشراكة بين العلمانيين والإسلاميين». وبعد التصريح الذي أدلى به الحبيب الصيد، وأعلن فيه أنه لن يستقيل من منصبه، زاره الغنوشي ثم قياديون من «النهضة» مصحوبين بزعماء من أحزاب سياسية أخرى. وصدرت في أعقاب تلك اللقاءات بلاغات صحافية عن ترحيب الحبيب الصيد بالمبادرة الرئاسية، بما يعني استعداده للاستقالة دون «التسبب في أزمة سياسية ودستورية»، حذر منها الأكاديمي خلفية شاطر وبعض الخبراء القانونيين، مثل أمين محفوظ وقيس سعيد. وأكدت مصادر مختلفة أن زعيم «النهضة» تعهد للحبيب الصيد بـ«خروج مشرف» من الحكومة في صورة استكمال مشاورات اختيار «البديل».
لكن الرئيس الجديد لمجلس الشورى - القيادة العليا لحزب «النهضة» - الوزير السابق عبد الكريم الهاروني - أعلن في أكثر من تصريح أن حركته التي أصبحت «صاحبة الكتلة الأولى في البرلمان»، وأثبتت اعتدالها للعالم وللشعب التونسي - من خلال مؤتمرها الوطني العاشر تطالب بأن تكون حصتها في الحكومة المقبلة «مطابقة لحجمها السياسي».
هذا التصريح الذي تزامن مع تصريحات مماثلة لقياديين بارزين في «النهضة» يكشف بوضوح أنها لن ترضى في التشكيلة القادمة بحصتها الحالية - أي بحقيبتي التشغيل والصناعة - بل ستطالب بحقائب أكثر وأهم. كما سيكون موقفها حاسمًا في البت في تغيير رئيس الحكومة من عدمه واختيار «البديل» عنه إذا تأكدت مغادرته موقعه.
* الغنوشي في باريس
ويعتقد المراقبون في تونس الآن أن «حظوظ النهضة في المشاركة بحجم أكبر في رسم توجهات الحكومة المقبلة تحسنت بعد زيارة العمل» غير المسبوقة التي قام بها وفد من قيادة «النهضة» بزعامة راشد الغنوشي هذا الأسبوع إلى باريس، حيث استقبل من قبل رسميين فرنسيين كبار بينهم وزير الخارجية جون مارك إيرولت ورئيسا البرلمان ومجلس الشيوخ ورئيس الحكومة السابق جان بيار رافاران. وإذا كانت واشنطن ولندن وبرلين وبروكسل تساند منذ مدة طويلة مشاركة «النهضة» و«الاتجاه الإسلامي المعتدل» في الحكم رغم اعتراضات فرنسية واضحة، فقد تسفر زيارة الغنوشي والوفد الكبير المرافق له إلى باريس عن «إعادة خلط الأوراق أكثر في تونس» وعن تعديل موقف فرنسا «العلماني المتشدد» من الإسلاميين التونسيين.
* المصالحة التاريخية
لكن هذا الخلط الجديد للأوراق يتناقض جوهريًا مع معارضي إشراك «النهضة» في الحكومة المقبلة من داخل حزب الرئيس وخارجه، وبينهم برلمانيون يساريون ونقابيون من «الجبهة الشعبية» نظموا أخيرًا حملة إعلامية سياسية ضدها مع اتهام حكومتها السابقة مجدّدًا بتحمل «المسؤولية السياسية والأخلاقية» عن اغتيال زعيميها شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي عام 2013 من قبل إرهابيين ينتسبون إلى مجموعات مسلحة متعاطفة مع «القاعدة» و«داعش».
لكن التيار السائد في قيادة «نداء تونس»، بزعامة حافظ قائد السبسي ورجلي الأعمال محمد رؤوف الخماسي وفوزي اللومي والوزير خالد شوكات، يناصر مشاركة «النهضة» في الحكومة المقبلة، ويرفض إقصاءها لأسباب كثيرة. من بينها أنها الكتلة الأكبر في البرلمان، وبالتالي، لأن حرمانها من المشاركة في الحكم سيخدمها ويجعل منها أكبر حزب معارض في مرحلة ستضطر خلالها الحكومة لاتخاذ إجراءات غير شعبية وقاسية اقتصاديًا واجتماعيًا، من بينها قرارات تهم الأسعار والرواتب وسن التقاعد والشركات العمومية الكبرى المفلسة.
وحقًا، دعا محمد رؤوف الخماسي وخالد شوكات، آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «مصالحة تاريخية ونهائية» بين الوطنيين التونسيين، وخصوصًا بين «الدستوريين» و«الإسلاميين المعتدلين».
* المأزق الجديد؟
لكن الأزمة في تونس تتطوّر نحو «مأزق جديد» إذا ما عجز أنصار «مبادرة الحكومة الوطنية» عن تفعيلها وسط دعوات إلى «تجديد الثقة بالحبيب الصيد خدمة للاستقرار الحكومي والسياسي الذي يطالب به المستثمرون». وفي هذه الحالة يتوقع قياديون من داخل «نداء تونس» أن تكون «الحصيلة مأزقًا يتحمل مسؤوليته المستشارون الذين ورّطوا رئيس الدولة في مبادرة غير مضمونة النتائج». وبعدما أجهضت مبادرات سابقة قام بها رئيس الدولة - بينها مبادرة لإعلان مصالحة وطنية شاملة - يخشى قياديون في «النداء» و«النهضة» أن تفشل المبادرة السياسية الجديدة فتكون «النتيجة مزيدًا من إضعاف مؤسسة الرئاسة وحزب الرئيس»، وفي هذه الحالة قد يكون «البديل» عن «حكومة الحبيب الصيد» تكليف رئيس الحكومة الحالي بتشكيل حكومته الثالثة مع تغيير بعض وزرائها.
* صعوبات ولكن
الصعوبات المالية والاقتصادية التي تواجهها تونس تحتاج بالفعل إلى «تصحيح» في نظر عدد من الخبراء الاقتصاديين، بينهم وزير المالية السابق جلول عياد، الذي يقول إن الإفلاس يهدّد الآن كثير من المؤسسات الحكومية والصناديق الاجتماعية، وهذا رغم إشارته إلى أن «أوضاع القطاع الخاص والمؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة التونسية تحسنت بشكل ملموس». وفي الوقت نفسه، كشف الشاذلي العياري، محافظ البنك المركزي التونسي، أن البنك لم يسجل سحب أي من المودعين في البنوك التونسية لأرصدتهم «ما يؤكد ثقتهم في النظام البنكي التونسي، رغم البلبلة التي أثيرت حول مشروع قانون البنوك والمؤسسات المالية والمتعلقة أساسًا بمخاوف من الإفلاس». وأشار العياري أمام البرلمان التونسي قبل أيام إلى أن «المؤشرات المتوفرة للبنك المركزي، تؤكد أن أوضاع البنوك التونسية مقبولة، وأنها بعيدة عن شبح الإفلاس باستثناء بنكين اثنين». كما كشف أن تونس ستحصل خلال الفترة المقبلة على تمويلات من المؤسسات المالية الدولية ستمكنها من سد الحاجات في الميزانية والتنمية مع مراعاة نسبة الدين الخارجي حتى لا تتجاوز الحدود المقبولة». واستطرد الشاذلي العياري قائلاً: «المشكل في تونس لا يتعلق بالتمويل الذي سيتم الحصول عليه تدريجيًا، بقدر ما يتعلق بالاستقرار السياسي والأمني والتوافق بين الأطراف الاجتماعية حتى تستفيد تونس من قرارات التي أعلن عنها أطراف دولية، بينها تخصيص منحة سنوية لفائدة تونس تقدر بمليار دولار على مدى 5 سنوات من البنك الدولي و3 مليار من صندوق النقد ونصف مليار من البنك الأفريقي للتنمية ومثلها من الاتحاد الأوروبي.. إلخ».
* «الطريق الثالث»؟
إذا كانت الأوضاع على مثل هذه الدرجة من الهشاشة، هل سيستمر الإصرار إذن على تغيير الحكومة ورئيسها أم يمدد التمديد له إلى ما بعد تنظيم الانتخابات البلدية في مارس (آذار) 2017 مثلما سبق أن أورد راشد الغنوشي في حديث لـ«الشرق الأوسط»؟
مصادر مقربة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي، مثل عماد الدايمي الوزير ومدير الديوان الرئاسي سابقًا، تتحدث عن حرص بعض «اللوبيات» على الإطاحة بالصيد لأنه رفض تغيير المدير العام للامن الوطني عبد الرحمن الحاج علي، وقد يكون «اعترض على بعض مشاريع الصفقات المشبوهة».
وفي هذا السياق، تعاد إلى السطح قضية التحرك الذي نظمته إحدى النقابات الأمنية في فبراير (شباط) الماضي في ساحة الحكومة بالقصبة للمطالبة بالإطاحة بالحاج علي والحبيب الصيد مع رفع شعارات لا أخلاقية ضدهما، واقتحام مقر رئاسة الحكومة. وفي المقابل، يتمسك آخرون بتشكيل حكومة جديدة مع إشارة التقارير الوطنية والعالمية إلى استفحال ظواهر الرشوة والفساد والاستبداد في «تونس ما بعد الثورة».
وعليه، قد يكون «الطريق الثالث» هو الحل الوسط الذي يرضي كل الأطراف في النهاية، أي تكليف الحبيب الصيد بترؤس «حكومة الوحدة الوطنية» مع تغيير بعض الوزراء «المثيرين للجدل» أو الذين تعترض عليهم النقابات والمعارضة. وقد يسهم هذا «الحل الوسط» في تكريس شعارات يرفعها كبار السياسيين في تونس منذ سنوات من بينها «أولوية الاستقرار»، خصوصًا في وزارات السيادة، لا سيما وزارة الداخلية.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.