تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

مع تعثر محاولات تشكيل وزارة جديدة

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟
TT

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

خلافًا للبرنامج الذي سبق أن أعلن عنه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ومستشاروه لن تتشكل «حكومة الوحدة الوطنية» التي ستعوّض حكومة الحبيب الصيد يوم 27 يونيو (حزيران) الحالي أو قبل عيد الفطر. ولقد أفرز الاجتماع التشاوري الجديد الذي أشرف عليه قائد السبسي أخيرًا بمشاركة ممثلي 9 أحزاب وزعماء النقابات خلافات حول مضمون «الوثيقة الرئاسية» التي تبرر الإطاحة بحكومة الصيد وتشكيل حكومة جديدة تدعمها «كل الأطراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وفي هذه الأثناء كشفت المشاورات داخل الحزبين الكبيرين، «نداء تونس» و«النهضة»، وفي صفوف المعارضة، عن خلافات في تقييم الحكومة الحالية ورئيسها بما يوشك أن يفجر أزمات داخلية فيها بينها.. خلافات قد تتسبب بانهيار حزب الرئيس الذي فقد الأغلبية البرلمانية منذ أشهر. فإلى أين تسير تونس في ظل «الماراثون السياسي الجديد» الذي تشهده من أجل الإطاحة بالحكومة الثامنة منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011؟
وهل سيكون تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» خطوة نحو الإنقاذ والإصلاح أم مدخلاً لأزمة سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة؟

رسميًا، رحبت كل قيادات الأحزاب التونسية بالمبادرة التي أطلقها الرئيس الباجي قائد السبسي مطلع يونيو الحالي ودعا فيها إلى «حكومة وحدة وطنية» طلب من المعارضة ومن نقابات العمال ورجال الأعمال المشاركة فيها. إلا أن الأزمات بدأت تبرز منذ بدء جلسات «الحوار الوطني» في قصر الرئاسة بضاحية قرطاج، قرب تونس العاصمة، لرسم أولويات الحكومة المقبلة، ومناقشة أسماء المرشحين لتعويض الحبيب الصيد ووزرائه.
وفي الوقت نفسه تفجرت خلافات جديدة داخل حزب الرئيس وخارجه بسبب التقييمات المتباينة للحكومة الحالية والبرلمان والمواقف المتناقضة من «البديل» المقترح رغم بروز نوع من الإجماع حول المبرّرات الذي قدمها قائد السبسي لمبادرته ومنها خصوصًا «المخاطر الاقتصادية والاجتماعية» التي تهدد البلاد.
* معركة الكراسي والمواقع
مصادر مسؤولة أفادت «الشرق الأوسط» بأن الاجتماع الموسع لقيادة حزب الرئيس الذي عقد بإشراف نجله حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي للحزب، كشف وجود مناصرين للإبقاء على الحبيب الصيد رئيسًا للحكومة في حال تعديلها وآخرين مساندين لرحيله. وكان بين الذين دافعوا عن الصيد وزيرا الخارجية خميس الجهيناوي والسياحة سلمى اللومي، والوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات. كذلك صدرت تصريحات عن قياديين في «النهضة» بينهم الوزير السابق عبد اللطيف المكي تؤكد أن الحزب الأول في البرلمان لم يبت نهائيًا في «مشروع» تعويض الحبيب الصيد. وعندما بدأت «الحرب النفسية» ومعركة «لتسريبات» لأسماء المرشحين لتعويض رئيس الحكومة الحالي استفحلت الخلافات داخل الحزب الحاكم منذ عام ونصف العام، وخارجه. وتعالت مجددًا الدعوات لاختيار «شخصية مستقلة» لرئاسة الحكومة المقبلة.
ورغم تصريحات رئيس الجمهورية ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية التي حذّرت التونسيين من «العجز المالي» ومن إفلاس الصناديق الاجتماعية وشركات وطنية كبيرة العام المقبل، يبدو السياسيون والنقابيون منشغلين أساسًا بـ«معركة الكراسي والمواقع».
و«مرة أخرى تجد البلاد فيها نفسها مهددة بالمعنيين بـ(الغنيمة)، وليس بإصلاح الأوضاع العامة» على حد تعبير النقيب السابق للمحامين التونسيين عبد الرزاق الكيلاني، ووزير المالية السابق إلياس فخفاخ.
* مشاريع معطّلة
الوزيرة سلمى اللومي، رغم أنها من بين أقارب الرئيس، انتقدت ما وصفته بـ«تعاقب الحكومات بنسق سريع خلال الأعوام الماضية» مما تسبب في «تعطل إنجاز المشاريع وتعثر عمل الإدارة التي أصبحت مكبّلة بالخوف، لأن أغلب المسؤولين الإداريين باتوا يتخوّفون من تنفيذ قرارات الوزراء أو رؤسائهم المباشرين، نتيجة ما حدث بعد 14 يناير 2011 (من محاكمات واعتقالات ومضايقات)، حين دفع كبار الموظفين وبعض الوزراء ثمن قرارات خاطئة اتخذها الرئيس السابق ومستشاروه». كذلك اعتبر برلمانيون معارضون مثل زهير المغزاوي، زعيم حزب الشعب، أنه «ليس من مصلحة شباب تونس العاطل عن العمل والمهمش محاولة إنقاذ حزب النداء عبر مبادرات قد تزيد الأوضاع في البلاد تعفنًا».
* المعارضة تقاطع؟
أما في صفوف المعارضة اليسارية «المتشددة»، بزعامة حمه الهمامي ورفاقه في «الجبهة الشعبية»، فقد تقرر إيقاف المشاركة في الاجتماعات التي يشرف عليها رئيس الدولة. وانطلقت حملة إعلامية دعائية قوية ضد «نداء تونس» وشركائه في حكومتي الحبيب الصيد، مع تحميلها «مسؤولية تعمق أزمات البطالة والفقر والتضخم وعجز موازنات الدولة وبينها الميزان التجاري وميزان الدفوعات»، على حد تعبير البرلماني اليساري عمار عمروسية من حزب العمال الشيوعي.
ويُعتبر بعض المراقبين في تونس، منهم الأكاديمي رضا الشكندالي، أن «خطر الانكماش الاقتصادي في تونس قد يستفحل إذا تعمّقت الأزمة بين النقابات القريبة من اليسار التونسي والسلطات، وإذا لم تتوصل الحكومة والأطراف الاجتماعية إلى اتفاق حول تجميد الإضرابات والتحركات الاحتجاجية لمدة لا تقل عن سنتين». بينما اعتبر محسن مرزوق، زعيم حزب مشروع تونس- المنشق عن حزب قائد السبسي قبل أشهر - أن «الهدف الرئيسي من المبادرة الرئاسية ليس سياسيًا بل كان ولا يزال اجتماعيًا اقتصاديًا»، أي إشراك النقابات والمعارضة اليسارية في الحكومة المستقبلية.
وفي حين فهم نقابيون يساريون بارزون، مثل سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، المبادرة الرئاسية على أساس أنها «محاولة لتوريط النقابات» في الخيارات السياسية والاقتصادية الفاشلة للائتلاف الحكومي، ذهب اليساري عمروسية إلى حد التساؤل عن قيمة التمسك بالمبادرة الرئاسية الحالية إذا لم يدعمها اتحاد نقابات العمال ولم تساندها المعارضة اليسارية بزعامة «الجبهة الشعبية».
* «النهضة» تحسن موقعها
في المقابل، ماذا عن موقف حزب حركة «النهضة» (الإسلامي)، الحزب الأول في البرلمان منذ الانقسامات التي أضعفت «نداء تونس» الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014؟ فرسميًا ساند زعيم «النهضة» راشد الغنوشي ومستشاره السياسي لطفي زيتون ورئيس كتلة الحزب في البرلمان نور الدين البحيري «المبادرة الرئاسية»، وذكّروا بكونهم دعوا إلى حكومة «وحدة وطنية» منذ ما قبل تشكيل حكومة الحبيب الصيد الأولى في يناير 2015.
كذلك تحرّك الغنوشي في تونس وخارجها بقوة لدعم مبادرة الرئيس قائد السبسي وخيار «التوافق الوطني» و«دعم تجربة الشراكة بين العلمانيين والإسلاميين». وبعد التصريح الذي أدلى به الحبيب الصيد، وأعلن فيه أنه لن يستقيل من منصبه، زاره الغنوشي ثم قياديون من «النهضة» مصحوبين بزعماء من أحزاب سياسية أخرى. وصدرت في أعقاب تلك اللقاءات بلاغات صحافية عن ترحيب الحبيب الصيد بالمبادرة الرئاسية، بما يعني استعداده للاستقالة دون «التسبب في أزمة سياسية ودستورية»، حذر منها الأكاديمي خلفية شاطر وبعض الخبراء القانونيين، مثل أمين محفوظ وقيس سعيد. وأكدت مصادر مختلفة أن زعيم «النهضة» تعهد للحبيب الصيد بـ«خروج مشرف» من الحكومة في صورة استكمال مشاورات اختيار «البديل».
لكن الرئيس الجديد لمجلس الشورى - القيادة العليا لحزب «النهضة» - الوزير السابق عبد الكريم الهاروني - أعلن في أكثر من تصريح أن حركته التي أصبحت «صاحبة الكتلة الأولى في البرلمان»، وأثبتت اعتدالها للعالم وللشعب التونسي - من خلال مؤتمرها الوطني العاشر تطالب بأن تكون حصتها في الحكومة المقبلة «مطابقة لحجمها السياسي».
هذا التصريح الذي تزامن مع تصريحات مماثلة لقياديين بارزين في «النهضة» يكشف بوضوح أنها لن ترضى في التشكيلة القادمة بحصتها الحالية - أي بحقيبتي التشغيل والصناعة - بل ستطالب بحقائب أكثر وأهم. كما سيكون موقفها حاسمًا في البت في تغيير رئيس الحكومة من عدمه واختيار «البديل» عنه إذا تأكدت مغادرته موقعه.
* الغنوشي في باريس
ويعتقد المراقبون في تونس الآن أن «حظوظ النهضة في المشاركة بحجم أكبر في رسم توجهات الحكومة المقبلة تحسنت بعد زيارة العمل» غير المسبوقة التي قام بها وفد من قيادة «النهضة» بزعامة راشد الغنوشي هذا الأسبوع إلى باريس، حيث استقبل من قبل رسميين فرنسيين كبار بينهم وزير الخارجية جون مارك إيرولت ورئيسا البرلمان ومجلس الشيوخ ورئيس الحكومة السابق جان بيار رافاران. وإذا كانت واشنطن ولندن وبرلين وبروكسل تساند منذ مدة طويلة مشاركة «النهضة» و«الاتجاه الإسلامي المعتدل» في الحكم رغم اعتراضات فرنسية واضحة، فقد تسفر زيارة الغنوشي والوفد الكبير المرافق له إلى باريس عن «إعادة خلط الأوراق أكثر في تونس» وعن تعديل موقف فرنسا «العلماني المتشدد» من الإسلاميين التونسيين.
* المصالحة التاريخية
لكن هذا الخلط الجديد للأوراق يتناقض جوهريًا مع معارضي إشراك «النهضة» في الحكومة المقبلة من داخل حزب الرئيس وخارجه، وبينهم برلمانيون يساريون ونقابيون من «الجبهة الشعبية» نظموا أخيرًا حملة إعلامية سياسية ضدها مع اتهام حكومتها السابقة مجدّدًا بتحمل «المسؤولية السياسية والأخلاقية» عن اغتيال زعيميها شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي عام 2013 من قبل إرهابيين ينتسبون إلى مجموعات مسلحة متعاطفة مع «القاعدة» و«داعش».
لكن التيار السائد في قيادة «نداء تونس»، بزعامة حافظ قائد السبسي ورجلي الأعمال محمد رؤوف الخماسي وفوزي اللومي والوزير خالد شوكات، يناصر مشاركة «النهضة» في الحكومة المقبلة، ويرفض إقصاءها لأسباب كثيرة. من بينها أنها الكتلة الأكبر في البرلمان، وبالتالي، لأن حرمانها من المشاركة في الحكم سيخدمها ويجعل منها أكبر حزب معارض في مرحلة ستضطر خلالها الحكومة لاتخاذ إجراءات غير شعبية وقاسية اقتصاديًا واجتماعيًا، من بينها قرارات تهم الأسعار والرواتب وسن التقاعد والشركات العمومية الكبرى المفلسة.
وحقًا، دعا محمد رؤوف الخماسي وخالد شوكات، آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «مصالحة تاريخية ونهائية» بين الوطنيين التونسيين، وخصوصًا بين «الدستوريين» و«الإسلاميين المعتدلين».
* المأزق الجديد؟
لكن الأزمة في تونس تتطوّر نحو «مأزق جديد» إذا ما عجز أنصار «مبادرة الحكومة الوطنية» عن تفعيلها وسط دعوات إلى «تجديد الثقة بالحبيب الصيد خدمة للاستقرار الحكومي والسياسي الذي يطالب به المستثمرون». وفي هذه الحالة يتوقع قياديون من داخل «نداء تونس» أن تكون «الحصيلة مأزقًا يتحمل مسؤوليته المستشارون الذين ورّطوا رئيس الدولة في مبادرة غير مضمونة النتائج». وبعدما أجهضت مبادرات سابقة قام بها رئيس الدولة - بينها مبادرة لإعلان مصالحة وطنية شاملة - يخشى قياديون في «النداء» و«النهضة» أن تفشل المبادرة السياسية الجديدة فتكون «النتيجة مزيدًا من إضعاف مؤسسة الرئاسة وحزب الرئيس»، وفي هذه الحالة قد يكون «البديل» عن «حكومة الحبيب الصيد» تكليف رئيس الحكومة الحالي بتشكيل حكومته الثالثة مع تغيير بعض وزرائها.
* صعوبات ولكن
الصعوبات المالية والاقتصادية التي تواجهها تونس تحتاج بالفعل إلى «تصحيح» في نظر عدد من الخبراء الاقتصاديين، بينهم وزير المالية السابق جلول عياد، الذي يقول إن الإفلاس يهدّد الآن كثير من المؤسسات الحكومية والصناديق الاجتماعية، وهذا رغم إشارته إلى أن «أوضاع القطاع الخاص والمؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة التونسية تحسنت بشكل ملموس». وفي الوقت نفسه، كشف الشاذلي العياري، محافظ البنك المركزي التونسي، أن البنك لم يسجل سحب أي من المودعين في البنوك التونسية لأرصدتهم «ما يؤكد ثقتهم في النظام البنكي التونسي، رغم البلبلة التي أثيرت حول مشروع قانون البنوك والمؤسسات المالية والمتعلقة أساسًا بمخاوف من الإفلاس». وأشار العياري أمام البرلمان التونسي قبل أيام إلى أن «المؤشرات المتوفرة للبنك المركزي، تؤكد أن أوضاع البنوك التونسية مقبولة، وأنها بعيدة عن شبح الإفلاس باستثناء بنكين اثنين». كما كشف أن تونس ستحصل خلال الفترة المقبلة على تمويلات من المؤسسات المالية الدولية ستمكنها من سد الحاجات في الميزانية والتنمية مع مراعاة نسبة الدين الخارجي حتى لا تتجاوز الحدود المقبولة». واستطرد الشاذلي العياري قائلاً: «المشكل في تونس لا يتعلق بالتمويل الذي سيتم الحصول عليه تدريجيًا، بقدر ما يتعلق بالاستقرار السياسي والأمني والتوافق بين الأطراف الاجتماعية حتى تستفيد تونس من قرارات التي أعلن عنها أطراف دولية، بينها تخصيص منحة سنوية لفائدة تونس تقدر بمليار دولار على مدى 5 سنوات من البنك الدولي و3 مليار من صندوق النقد ونصف مليار من البنك الأفريقي للتنمية ومثلها من الاتحاد الأوروبي.. إلخ».
* «الطريق الثالث»؟
إذا كانت الأوضاع على مثل هذه الدرجة من الهشاشة، هل سيستمر الإصرار إذن على تغيير الحكومة ورئيسها أم يمدد التمديد له إلى ما بعد تنظيم الانتخابات البلدية في مارس (آذار) 2017 مثلما سبق أن أورد راشد الغنوشي في حديث لـ«الشرق الأوسط»؟
مصادر مقربة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي، مثل عماد الدايمي الوزير ومدير الديوان الرئاسي سابقًا، تتحدث عن حرص بعض «اللوبيات» على الإطاحة بالصيد لأنه رفض تغيير المدير العام للامن الوطني عبد الرحمن الحاج علي، وقد يكون «اعترض على بعض مشاريع الصفقات المشبوهة».
وفي هذا السياق، تعاد إلى السطح قضية التحرك الذي نظمته إحدى النقابات الأمنية في فبراير (شباط) الماضي في ساحة الحكومة بالقصبة للمطالبة بالإطاحة بالحاج علي والحبيب الصيد مع رفع شعارات لا أخلاقية ضدهما، واقتحام مقر رئاسة الحكومة. وفي المقابل، يتمسك آخرون بتشكيل حكومة جديدة مع إشارة التقارير الوطنية والعالمية إلى استفحال ظواهر الرشوة والفساد والاستبداد في «تونس ما بعد الثورة».
وعليه، قد يكون «الطريق الثالث» هو الحل الوسط الذي يرضي كل الأطراف في النهاية، أي تكليف الحبيب الصيد بترؤس «حكومة الوحدة الوطنية» مع تغيير بعض الوزراء «المثيرين للجدل» أو الذين تعترض عليهم النقابات والمعارضة. وقد يسهم هذا «الحل الوسط» في تكريس شعارات يرفعها كبار السياسيين في تونس منذ سنوات من بينها «أولوية الاستقرار»، خصوصًا في وزارات السيادة، لا سيما وزارة الداخلية.



بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)
TT

بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)

دخلت فرنسا منذ قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) يوم 9 يونيو (حزيران) 2024 في أزمة سياسية غير مسبوقة، حيث أفضى غياب الغالبية البرلمانية وهشاشة التحالفات إلى سقوط حكومة ميشال بارنييه بعد اقتراع لحجب الثقة بعد 3 أشهر فقط من تشكيلها. على أن الوضع لا يبدو أحسن حالاً بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة فرنسوا بايرو، فعلى الرغم من تقديم الإعلام الفرنسي لشخصية رئيس الوزراء على أنه «رجل المصالحة» و«الوحيد القادر على تحقيق الوفاق الوطني والسياسي المحنّك الذي يتكلّم إلى جميع الفصائل السياسية»، فإن خطواته الأولى بدت متعثرة. وبعد سلسلة مشاورات مع المعارضة، فشل بايرو في توسيع القاعدة السياسية التي يستطيع الارتكاز عليها لدعم أداء حكومته، وبالأخص في اتجاه اليسار، كذلك أثار موجة كبيرة من الانتقادات بسبب هفوات سياسية ارتكبها منذ اللحظات الأولى لتعيينه، ففي أول مساءلة له أمام البرلمان واجه رئيس الحكومة الجديد غضب نواب المعارضة الذين هاجموه بشّدة بسبب قراره الالتحاق جواً باجتماع المجلس البلدي لمدينة بو - التي يشغل فيها منصب العمدة - بدل الانضمام إلى خلية الأزمة لمتابعة تطور الأوضاع في جزيرة مايوت بعد الإعصار المدمر الذي ضرب الجزيرة الواقعة بجنوب غربي المحيط الهندي.

على الرغم من وعود الانفتاح التي لوّح بها رئيس الوزراء الفرنسي الجديد فرنسوا بايرو، حين أعلن أنه سيعمل على تشكيل فريق حكومي متماسك ومنفتح - قدر الإمكان - يتكوّن من شخصيات قادرة على تجنُّب الرقابة، فإن واقع الحسابات السياسية جعل رئيس الوزراء يتجنّب المفاجآت، ويشكل حكومة يمينية من شخصيات سياسية معروفة لدى الفرنسيين... واضعاً نصب عينيه نهجاً واحداً هو إرضاء اليمين المتطرّف لتفادي السقوط.

لقد أعاد بايرو تعيين ما يقرب من 19 وزيراً ووزير منتدب من الحكومة السابقة من أصل 35، بينهم وزير الداخلية برونو ريتايو المعروف بمواقفه اليمينية الصارمة. وهو صاحب مشروع قانون جديد للهجرة يهدف إلى تقليص عدد المهاجرين، وتنفيذ أوامر مغادرة الأراضي الفرنسية، وقطع المساعدات الطبية على المهاجرين غير الشرعيين.

كذلك أبقى بايرو على وزير الخارجية جان نويل بارو في حقيبة الخارجية، وسباستيان لوكورنو في وزارة الجيوش (الدفاع)، ورشيدة داتي في الثقافة. وهذا، إضافة لأنياس بانيه روناشيه وزيرة التحول البيئي والصيد البحري، التي كانت قد شغلت مهام وزارية سابقة في حكومة إليزابيث بورن، ثم إن الحكومة ضمت أيضاً اليمينية كاترين فوتران على رأس حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية... وكانت التحقت بفريق ماكرون في 2022.

ومن جهة ثانية، أعاد رئيس الوزراء الجديد إلى الواجهة أسماءً معروفة من المقرّبين للرئيس ماكرون، كوزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان الذي كُلِّف بحقيبة العدالة، وهو شخصية جدلية بسبب تعرّضه لملاحقات قضائية بتهم التحرش والاغتصاب، ومواقفه المعادية للمهاجرين.

وأيضاً أعاد رئيسة الوزراء السابقة إليزابيث بورن، التي أوكل إليها حقيبة التربية والتعليم العالي. وبورن شخصية سياسية لاقت معارضة واسعة بعدما لجأت إلى إقرار قوانينها من خلال المادة 49.3 من الدستور، وبالأخص قانون المعاشات الذي يعارضه الغالبية الساحقة من الفرنسيين، كما أنها فور تسلُّمها المهام الوزارية أثارت بورن الاستياء من جديد حين أقّرت بأنها قبلت المنصب، لكنها ليست خبيرة في قطاع التربية.

وأخيراً، لمنصب وزير أقاليم ما وراء البحار، عّين بايرو رئيس الوزراء الأسبق إيمانويل فالس، الذي كان ترأس الحكومة في عهد الرئيس السابق الاشتراكي فرنسوا هولاند عام 2016، إلا أنه ترك عائلته السياسية، والتحق بحزب ماكرون عام 2017 أملاً في منصب وزاري.

استقبال بارد للحكومة الجديدة

الواقع أن المعارضة السياسية ووسائل الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة الجديدة بكثير من الانتقاد وردود الأفعال السلبية؛ إذ وصفها موقع «ميديا بارت» المستّقل بـ«حكومة الموتى الأحياء (الزومبي)»، مضيفًا أن رئيس الوزراء الجديد «عاد إلينا بعد 10 أيام من تعيينه بحكومة مكوَّنة من شخصيات ماضيها غير مشرق» سبق أن تقلّدت مسؤوليات سياسية من دون أن تترك أثراً إيجابياً. ولفت المنتقدون إلى أن بايرو احتفظ بنصف أعضاء حكومة ميشال بارنييه رغم تعرُّضها لحجب الثقة، أما النصف الآخر فهو مكوَّن من شخصيات سياسية قديمة عادت إلى الواجهة بإيعاز ومباركة من اليمين المتطرف أمثال بروتو ريتايو. وتحت عنوان «حكومة بايرو: التكرار والبُعد عن وعود الانفتاح»، علّقت صحيفة «لوموند» على تركيبة الحكومة الجديدة بالقول: «لقد اختار رئيس الوزراء فرنسوا بايرو اللّجوء إلى شخصيات سياسية من الغالبية السابقة، وهي القاعدة المحدودة نفسها التي اعتمدها سابقاً ميشال بارنييه، وهذا لن يحمي الحكومة من السقوط». ومن جانبها، رأت صحيفة «لو فيغارو» أن حكومة بايرو «تعبّر عن فشل المصالحة الوطنية، فأداء بايرو لن يكون أحسن من أداء بارنييه؛ لأنه اكتفى بإتلاف الوسط واليمين، مستعيناً بشخصيات سياسية من الماضي».

المعارضة السياسية ووسائل

الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة

الجديدة بالكثير من الانتقاد

حجب الثقة وارد

في هذا الإطار، يبدو أن رئيس الحكومة الجديد كان متفائلاً أكثر مما ينبغي حين أعلن عشية تسلُّم مهامه في قصر ماتينيون (قصر الحكومة) يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) أنه «على يقين» بأن حكومته لن تتعرض لاقتراع حجب الثقة؛ لأن ما يلاحظه مراقبو الشأن الفرنسي يشير إلى العكس، ولا أحد أصبح يسأل هل سيكون حجباً للثقة، بل متى سيكون؟

وأول من عاد للتلويح بهذا السلاح هو الحزب الاشتراكي الذي كان قد وجّه إشارات إيجابية إلى رئيس الوزراء بإمكانية «منح الثقة» مقابل تقديم بعض التنازلات فيما يخص ملف المعاشات، لكن المباحثات لم تسفر عن شيء بعدما رفض بايرو مطالب الاشتراكيين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين عيَّن في حكومته الجديدة غالبية من الشخصيات ذات التوجه اليميني. وعلى الرغم من وجود أسماء محسوبة «تاريخياً» على اليسار فهي حقاً لا تمثله في شيء، بما أنها شخصيات منشّقة كإيمانويل فالس، الذي تخلى عن الحزب الاشتراكي للالتحاق بالتيار الماكروني، أو فرنسوا رابسين الذي ترك الحزب منذ سنوات.

أوليفييه فور، الناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي، أعرب عن استيائه، وهدّد بإسقاط الحكومة معلقاً «السيد بايرو لم يحترم ولا شرطاً من شروط اتفاقية عدم الحجب إنها حكومة من اليمين، بل من اليمين المتّشدد... وبعد اليوم لا يوجد لدينا سبب يمنعنا من إسقاطها». أما رئيس كتلة النواب الاشتراكيين، بوريس فالو، فكتب على منصة «إكس» ما يلي: «إنها ليست حكومة... إنها تحريض...». وكان لحزب الخضر الموقف نفسه، حين أعلنت زعيمته مارين توندولييه: «المفروض حين تتعرض حكومة للفشل، فإن العقل يملي علينا ألا نعيد الكرّة، لكن السيد بايرو أخذ الشخصيات نفسها، وأعاد تدويرها، ولهذا فهو يقترب يوماً بعد يوم من حجب الثقة».

في قبضة أنياب اليمين المتطرف

من جانب آخر، إذا كان فرنسوا بايرو قد اتخذ منعطف اليمين غير آبهٍ بتهديدات ائتلاف اليسار من الاشتراكين والخضر و«فرنسا الأبية»، فلأنه يُعمل على مساندة حزب اليمين المتطرف «التجمع الوطني» لإنقاذه من السقوط المرتقب؛ ذلك أنه أضافة إلى المؤشرات الإيجابية التي وُجهت له عبر إعلان رئيس «التجمع» جوردان بارديلا أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، تَبَيَّنَ أن تعيين أعضاء الحكومة الجديدة جرى باستشارة وموافقة من اليمين المتطرف.

ففي بيان نشره على «إكس» كشف كزافييه برتران، أحد كوادر حزب اليمين الجمهوري ووزير العمل السابق في حكومة نيكولا ساركوزي، أن بايرو عرض عليه منصب وزير للعدالة قبل أن يتراجع عن قراره بسبب معارضة مارين لوبان التي بينها وبين برتران خصومة قديمة. برتران أيضاً كشف عما دار بينه وبين رئيس الوزراء، مضيفاً أنه عرض عليه منصباً آخر هو وزير الزراعة، لكنه رفض لأنه لا يتشرف بالمشاركة في حكومة تعمل تحت سيطرة اليمين المتطرف. وبالتالي، إذا كانت هذه الحادثة تكشف عن مدى سيطرة اليمين المتطرف على توجهات الحكومة، فان البعض يتكلّم الآن عن «الفخ» الذي أوقع فيه بايرو نفسه؛ لأن الحسابات السياسية غير مضمونة العواقب، والسبب أن مارين لوبان شاركت مع ائتلاف اليسار في اقتراع حجب الثقة عن الحكومة السابقة رغم الضمانات التي قدمتها لبارنييه، وقد تعيد الكرّة مع بايرو. والدليل تصريحاتها الأخيرة على «إكس» بمناسبة احتفالات نهاية السنة، حيث توقعت أن يختار الشعب الفرنسي «في غضون أشهر قليلة طريقاً جديداً هو طريق الطفرة والانتعاش».

هذا الكلام فُسِّر على أنه توقع من زعيمة اليمين المتطرف سقوط الحكومة الجديدة، وإمكانية مشاركتها في السباق الرئاسي الذي تحلُم به منذ سنوات. وفعلاً، هذا ما صرّحت به لصحيفة «لو باريزيان» في حوار نُشر أخيراً قالت فيه إنها تستعد «لانتخابات رئاسية مبكرة، كإجراء احترازي، نظراً لهشاشة إيمانويل ماكرون». وعلى هذا رد المحلّل السياسي لويس دو غاكنال في مداخلة لقناة «سي نيوز» الإخبارية شارحاً أنه «من مصلحة لوبان إضعاف المؤسسات، لأن ذلك قد يعني استقالة الرئيس (ماكرون) وتنظيم انتخابات مبكرة مع إمكانية ترشحها الآن قبل أن تمنعها الأجندة القضائية. وفي حالة الفوز، فإنها ستتخلص من الملاحقات القضائية ومن تهم الاختلاس».