سماء يحيى تلاعب أشكالها بمرايا «الخيامية» في القاهرة

افتتحت معرضها برقصة التنورة بين وجوه المراكب والبنات

الفنانة سماء يحيى في لقطة مع وجوهها بالمعرض
الفنانة سماء يحيى في لقطة مع وجوهها بالمعرض
TT

سماء يحيى تلاعب أشكالها بمرايا «الخيامية» في القاهرة

الفنانة سماء يحيى في لقطة مع وجوهها بالمعرض
الفنانة سماء يحيى في لقطة مع وجوهها بالمعرض

تخيم أجواء فن الخيامية على معرض الفنانة سماء يحيى المقام حاليًا في قاعة الباب بمتحف الفن الحديث بدار الأوبرا بالقاهرة. عزز هذه الأجواء افتتاح المعرض على أنغام رقصات حية من تراث التنورة المصرية، أداها أحد الراقصين بمهارة فائقة، داخل وخارج القاعة، فبدت الرقصات كأنها ترديد بصري ونغمي للعوالم الشجية التي تطرحها لوحات المعرض، كما بدت ملابس راقص التنورة المصنوعة من قماش الخيامية كأنها ظل للوحات داخل الرقصة نفسها، ناهيك بمصادفة افتتاح المعرض في أجواء شهر رمضان، حيث تلون الخيامية برسومها الزخرفية المحببة، وحضورها التراث الشعبي، أغلب مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم، خصوصًا في واجهات كثير من المقاهي وسرادقات السهر والطرب والترويح الرمضاني المعتادة.
في قلب هذه الأجواء يبرز هذا المعرض كمغامرة تشكيلية لها طزاجتها وحيويتها الخاصة، خاضتها الفنانة بتحدٍ شرس، متخذة من قماش الخيامية في نسيجه الطباعي القديم وقوامه السميك مسطحًا للرسم، فتعيد عليه رسم أشكالها وشخوصها ومفردات عالمها الفني، فتبدو كأنها تضعها في حالة اختبار جديد للعيش والتصالح مع ذاتها ووجودها وحيواتها، في بيئة مغايرة وخامة أخرى، بعيدًا عن مسطح الورق أو القماش العادي الشائع في الرسم.
واجهت الفنانة في هذه المغامرة صعوبة الرسم على سطح غير مستوٍ، مليء بالتعرجات والتشققات، مما يصعب من حركة التلوين وضربات الفرشاة والكشط بالسكين، كما واجهت تحديًا فنيًا أكثر صعوبة تمثل في إيجاد بدائل وحلول للخامة وعجائنها اللونية، وكيف تساهم الألوان في إنضاج الأشكال والرسوم، وإبراز هويتها الفنية، وتثبيتها بقوة على مسطح قماش الخيامية المراوغ، كأنها تتنفس هواء جديدًا.
تحرك المعرض في خطين فنيين متوازيين، واستطاع أن يحقق بينهما نوعًا من التجاور البصري الحميم، بين اللوحات المشغولة بعالم البحر والمراكب، وما ينطوي عليه هذا الفضاء الطبيعي من ملامح جمالية أخاذة مفعمة بروح المغامرة، ورقرقة الأحلام الملحية.. هنا نجد المراكب مشرعة إلى السماء، كأنها في حالة تحليق وصعود إلى الأعلى.. تكثف الفنانة هذا المعنى بتنويع حركة الخطوط، من الأسفل إلى الأعلى، ومن زوايا مباغتة، تاركة فجوات ومساقط للضوء، ليشع في تراسلات لونية وخطية خاطفة، تبدو مغمورة فيه. أيضًا تحرص الفنانة على تحييد ألوان خلفية قماشة الخيامية بوحداتها الزخرفية الحمراء الخلابة، فتلجأ إلى استخدام النسيج اللوني الأحمر نفسه في تلوين فضاء الرسم، محفوفًا بنثارات خافتة من الحضرة والزرقة والصفرة، لنصبح إزاء صورة مجردة من التماهي مع الخلفية، محتفظة بحضورها الخاص وحيويتها الدافقة، وفي الوقت نفسه تصنع حالة من التواشج مع الخلفية، دون أن تكون نسقًا زخرفيًا أو انعكاسًا لنسيجها، كما تكسر فكرة البرواز بنمطه الغربي التقليدي، تاركة اللوحات تتنفس رائحة الداخل والخارج بحيوية، من دون حواجز، الأمر الذي يجعلنا إزاء حالة وجود فني لعالمين يتعايشان تحت سقف واحد، هو سقف اللوحة، بكل ما يتناثر عنها من رؤى وظلال.
يتمثل الخط الفني الآخر في لوحات المعرض، عبر رسوم وجوه البنات، فعلى عكس رسوم المراكب، تبدو قوة الانفعال والتعبير مشدودة للداخل تنظر للخارج بتوجس وحذر وضجر، كأن هذه الوجوه التي تلتقطها الفنانة من عَبَل الواقع والذاكرة تنطوي على شيء دفين في داخلها، يتبدى في ملامح وقسمات الوجه، التي تتقلب ما بين نظرة الحزن والألم والأسى الشفيف، أو الإحساس العابر بلطشات من الفرح والمرح تنسرب فجأة من تحت قشرية العالم والأشياء، لكنها مع ذلك تظل مسكونة بمساحات من القلق والتوتر.
إن ما يوحد بين سطح هذين الفضاءين في هذه المغامرة التشكيلية الشيقة والمهمة، سواء لوحات المنظر الطبيعي، أو لوحات وجوه البنات، ليس فقط انفتاحها السلس والحي على عوالم الداخل والخراج، إنما أساسًا الاحتفاء بالبيئة المصرية في بساطتها وإرثها الشعبي الخصب، فنوعية المراكب المرسومة طالعة من رحم هذه البيئة، وفي منطقة معينة من سطح البحر المتوسط (منطقة بحيرة البرلس)، كما أن وجوه البنات بكل تداعياتها وتضاريسها الرمزية تعكس روح الحارة المصرية، وصراع البشر من أجل اقتناص الأمل من قبضة الزمن وقسوة الواقع والأشياء.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».