الأمين العام للزراعيين العرب: الفجوة الغذائية مقبلة ما لم يدعم الاستثمار الزراعي

جار الله يتوقع ضخ 27 مليار دولار في المنطقة خلال الأعوام الخمسة المقبلة

أحمد جار الله الأمين العام للفلاحين والتعاونيين  الزراعيين العرب («الشرق الأوسط»)
أحمد جار الله الأمين العام للفلاحين والتعاونيين الزراعيين العرب («الشرق الأوسط»)
TT

الأمين العام للزراعيين العرب: الفجوة الغذائية مقبلة ما لم يدعم الاستثمار الزراعي

أحمد جار الله الأمين العام للفلاحين والتعاونيين  الزراعيين العرب («الشرق الأوسط»)
أحمد جار الله الأمين العام للفلاحين والتعاونيين الزراعيين العرب («الشرق الأوسط»)

حذر الأمين العام للفلاحين والتعاونيين الزراعيين العرب، من حدوث فجوة غذائية في العالم العربي في الأعوام المقبلة، ما لم تتلاف الحكومات العربية تفاديها، من خلال إحداث نقلة حقيقية في شكل التعاون في مجال الاستثمار الزراعي، في ظل غياب آليات تحوله لحقيقة ماثلة.
وقال أحمد جار الله، الأمين العام للفلاحين والتعاونيين الزراعيين العرب في حوار لـ«الشرق الأوسط»: «ليس من سبيل لسد الفجوة الغذائية، إلا بتقنين الاستثمار الزراعي، الذي يتطلب تكاتف الحكومات العربية مع القطاع الخاص، من خلال تهيئة البنية التحتية له وإقرار تسهيلات وضمانات تحميه من أسباب الانهيار بفعل عدم الاستقرار السياسي والأمني، وغياب ضمانات كافية لحمايته». يأتي ذلك في ظل تقديرات، تشير إلى أن عام 2010 شهد عجزا كبيرا في الحبوب بلغ 21.5 مليار دولار من أصل 37 مليار دولار، عبارة عن إجمالي العجز الغذائي في المنطقة، في حين بلغت قيمة هذا العجز 37.7 مليار دولار في عام 2009. و43.2 مليار في عام 2008.
وأضاف جار الله «ليس من مجال لتحقيق حلم الاستثمار الزراعي العربي العربي، والعربي الأفريقي، إلا إذا توافرت العزيمة بتوفير ثلاث آليات رئيسية، أولها مشروعات استثمارية بعينها، وتحديد احتياجاتها من مدخلات الإنتاج والتمويلات، مضافا إليها تحديد سقف زمني لإنجازها». وفي ما يلي نص الحوار:

> ما رؤيتكم الاستراتيجية لتعزيز الاستثمار الزراعي والتعاون العربي الأفريقي؟
- أعتقد أن مجالات التعاون واسعة جدا وغير محدودة في مجال تأمين الغذاء ومحاربة الجوع والفقر، وذلك من خلال تفعيل القرارات التي اتخذت بشأن الاستثمار الزراعي والتعاون العربي الأفريقي، التي تعني تخصيص مشروعات زراعية استثمارية بعينها وتوفير تمويلات لازمة تنجحها، ولكن المشكلة في كيفية تطبيق القرارات التي تتخذ بشأنها على مستوى المنطقة العربية والأفريقية، وتنفيذها على أرض الواقع، وإمكانية ترجمة التوصيات الاجتماعات المتكررة في هذا المنحى، خاصة أننا نرى أن الكثير من التوصيات التي صيغت في آخر اجتماع في شرم الشيخ لم تنفذ بعد، كما يلاحظ أن هناك عددا من اللجان التي كونت لم تفعل بعد، كلجنة التسيير وغيرها من اللجان، ونحن بدورنا نريد أولا إشراك المنظمات الزراعية، حتى يكون لدورنا وحضورنا إطار فاعل، ثم يحدد كل قرار يؤخذ بسقف زمني محدد حتى تكون هناك فعالية لهذه القرارات الوزارية والقمم وكبار المسؤولين، التي تخص التعاون العربي والأفريقي.
> هل تعتقد أن توفير التمويل اللازم للاستثمار الزراعي معضلة حقيقية؟
- كلها تصب في تعاون عربي عربي، وعربي أفريقي، خاصة أن هناك عددا من الدول التي تمول مثل هذه المشروعات الزراعية، والفاعل الرئيسي هو المنظمة العربية للتنمية الزراعية، وهي محرك التعاون بين الدول العربية والأفريقية، وبالنسبة لمسألة توفير التمويل اللازم للاستثمار الزراعي فلا أعتقد أنها تمثل معضلة حقيقية، ذلك أن الدول العربية خاصة السعودية ودول الخليج، لديها قدرات تمويلية كبيرة، ولكن تكمن المشكلة في كيفية تفعيل القرارات التي تتخذ في هذا الشأن، فما أكثر اللجان وما أكثر التنظير.
> ما رؤيتك للشكل العملي لتفعيل هذه القرارات؟
- ليس من مجال لتحقيق حلم الاستثمار الزراعي العربي العربي، والعربي الأفريقي، إلا إذا توافرت العزيمة بتوفير ثلاث آليات رئيسية، أولها مشروعات استثمارية بعينها وتحديد احتياجاتها من مدخلات الإنتاج والتمويلات، مضافا إليها تحديد سقف زمني لإنجازها، وهذا يتطلب أيضا تفعيل كل لجنة من اللجان التي شكلت ضمن هذه الاجتماعات الوزارية، حيث هناك لجنة التسيير التي صدر قرار عنها في 2010 في شرم الشيخ، غير أن هناك عددا من العقبات صادفتها، لذلك العبرة الآن بكيفية تنشيط هذه اللجنة والقيام بمهامها.
> هل هناك مشروعات معينة لإنتاج نوعي يمكن تحديدها من قبل الاتحاد؟
- الآفاق واسعة والأفكار كثيرة، حيث إن لدى المنظمة العربية للتنمية الزراعية أفكارا مهمة، ولكن المشكلة ليست في الأفكار، المشكلة في تحديد عمل اللجان في سقف محدد حتى نرى ترجمة واضحة لما يقرر، ولمست هناك جدية لتفعيل اللجان وتحديد سقف زمني محدد، يحضر لقمة عربية أفريقية في الكويت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وبالتالي لو سبق ذلك توفير التسهيلات اللازمة للمستثمرين، خاصة أنني أرى أن هناك متطلبات مقدورا عليها، مثل توفير النقل وتسهيل التصدير والاستيراد، غير أنني أرى أن الأهم من ذلك هو ضرورة تأسيس بنك معلومات عن الاستثمار الزراعي في المنطقتين العربية والأفريقية، وكذلك إشراك المنظمات الزراعية في القرارات والمهام التي تقوم بها، وعموما هناك مشروعات يمكن التركيز عليها، وهي تلك التي تختص بإنتاج الحبوب، ذلك أن المؤشرات تدل على أن هناك فجوة كبيرة فيها على مستوى المنطقة العربية، وربما تسبب فجوة غذائية في مقبل الأعوام، ما لم يتم العمل على الاستثمار فيها، حيث إن التقرير تشير إلى أن عام 2010 شهد عجزا كبيرا في الحبوب، بلغ 21.5 مليار دولار من أصل 37 مليار دولار، عبارة عن إجمالي العجز الغذائي في المنطقة، في حين بلغت قيمة هذا العجز 37.7 مليار دولار في عام 2009. و43.2 مليار في عام 2008، ومع أنه يلاحظ أن هناك إحرازا تقدم في سد الفجوة غير أنه يتم بشكل بطيء جدا.
> في رأيك ما تحديات ومقومات نجاح استراتيجية تأمين الغذاء من خلال التعاون العربي الأفريقي؟
- أعتقد أن مقومات النجاح متوافرة، إذ تم بالفعل صياغة الاستراتيجية الاستثمارية بالشكل الذي يحدد نوعية الاستثمار وآلياته وسقفه الزمني، وذلك أن الدول الخليجية بمقدورها توفير التمويلات اللازمة للاستثمار الزراعي، كما أن الدول العربية الأخرى والأفريقية تتمتع بمقومات الأرض ومصادر المياه، ويمكن أن يتم إنتاج وتصديره للخليج، أما فيما يتعلق بالتحديات فهي تتمثل غالبا في الاضطرابات التي تشهدها بعض المناطق العربية والأفريقية وفقدان بعضها للاستقرار السياسي، فضلا عن استشراء الفساد المالي والإداري في بعضها، بالإضافة إلى الحاجة الماسة لتأسيس بنى تحتية من كهرباء وطرق ونقل بحري وجوي وبري.
> ما الدور المطلوب من قبل الاتحاد والقطاع الخاص لبلورة هذه الاستراتيجية؟
- أعتقد أن هناك دورا تكامليا لا بد منه، ويستدعي أن تهتم به الحكومات العربية والأفريقية، وذلك بالعمل على إشراك اتحاد الفلاحين والزراعيين العرب وكذلك دعم القطاع الخاص، من خلال إعطائهما دورا استشاريا في القرارات التي تتخذ في هذا الشأن، في إطار التعاون العربي الأفريقي، خاصة فيما يتعلق بمتطلبات الدول العربية التي تتمتع بفرص كبيرة في هذا المجال مثل الجزائر ومصر والسودان وتونس وغيرها، التي يمكن من خلالها سد الفجوة الغذائية بتوفير المنتجات الغذائية، وبالتالي المساهمة بشكل مباشر في كبح الأسعار التي ارتفعت خلال الفترة الماضية بما يقدر بـ36%.
> ما تقديراتكم لحجم الاستثمار الزراعي في المنطقة العربية تحديدا؟
- هناك تقديرات صدرت عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية، تتوقع أن يصل حجم الاستثمار الزراعي في المنطقة العربية خلال الأعوام الخمسة المقبلة 27 مليار دولار، وتم تخصيص هذا المبلغ من قبل البرنامج الطارئ للأمن الغذائي العربي للفترة من 2011 إلى 2013. وذلك سعيا إلى سد الفجوة الغذائية على المستوى العربي بشكل مستدام، حيث قدر بـ34 مليار دولار في عام 2010. ومن المتوقع أن يحقق هذا البرنامج زيادة في إنتاج القمح تقدر بنحو 20 مليون طن، ما يعادل نحو 81% من حجم الإنتاج الحالي، و3.2 مليون طن من الشعير أي نحو 57% من الإنتاج الحالي، وأربعة ملايين طن من الذرة، أي ما يعادل 52% من حجم الإنتاج الحالي، فضلا عن توفير البرنامج فرص عمل كبيرة تصل إلى نحو 8.9 مليون فرصة عمل حتى العام الحالي.
> إلى أي حد تعد الضمانات التي يطالب بها المستثمرون أمرا مقلقا؟ وما تصورك لكيفية حماية الاستثمارات؟
- لا شك أن حماية الاستثمارات من التدهور أمر في غاية الأهمية ومقلق في نفس الوقت لعدد كبير من المستثمرين من قبل القطاع الخاص في بعض البلاد العربية التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني، في ظل غياب استراتيجية محددة تضمن حماية الاستثمارات، وبالتالي تبقى مسألة الضمانات التي تحمي هذه الاستثمارات ضرورة ملحة، تتطلب من الحكومات العربية والأفريقية صناعة آلية لضمان الاستثمار وحمايته من الانهيار في بلادها، وخلق حالة من الاتزان لأسعار الصرف فيها، حتى تبقى عوائدها مجزية ومشجعة للقطاعين العام والخاص على غرار ما تعمل به بعض بلاد العام المتقدمة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)