باريس تستعيد ذكريات كيندي وجاكي

معرض لصور غير منشورة بمناسبة مرور 50 عاما على اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق

جون وجاكي كيندي
جون وجاكي كيندي
TT

باريس تستعيد ذكريات كيندي وجاكي

جون وجاكي كيندي
جون وجاكي كيندي

هذه المرة، كانت العاصمة الفرنسية سباقة إلى إحياء ذكرى الرئيس الأميركي الأسبق التي كان قد جاءها يوما ليقول للصحافيين: «أنا الرجل الذي جاء يرافق جاكي كيندي إلى باريس». فمن خلال معرض يستضيفه، الأسبوع المقبل، مبنى تاريخي يعود لزمن نابليون الثالث، يمكن للزوار أن يشاهدوا لقطات، أغلبها لم يُنشر من قبل، لفصول من حياة جون كيندي، أكثر رؤساء الولايات المتحدة جاذبية في التاريخ.
بعد نصف قرن على مقتله في دالاس، ما زال الجمهور متعطشا لمتابعة كل ما ينشر عن كيندي وتلك السيدة الأميركية الأولى بالغة الأناقة، وكأن مشهد اغتياله لم يفقد حرارته، وهو يتهاوى في المقعد الخلفي للسيارة المكشوفة، بينما زوجته تزحف على ركبتيها فوق حديد السيارة، ببدلتها الوردية الملطخة بدمه، تحاول النجاة بنفسها من الرصاص.
ماذا بقي لكي يستحق الانتباه بعد سيل الكتب والمعارض والأفلام والمقابلات والمذكرات؟ إن معرض باريس يتوقف عند وثائق وصور حميمة جرى التقاطها داخل أميركا وخارجها، بينها نسخة طبق الأصل من فستان عرس جاكلين كيندي، أرملة الرئيس الوسيم التي تزوجت بعده المليونير الدميم. وهناك صور عائلية للأسرة الكاثوليكية الشهيرة التي تأسست بزواج جوزيف باتريك كيندي من روز فيتجيرالد، عام 1914، وإنجابهما أربعة أبناء ذكور وخمس بنات. وفيما بعد، حين كثر الأحفاد، شاعت تلك الأسطورة التي تؤكد أن الجدة العجوز كانت تفتح حسابا باسم كل مولود جديد في عائلتها، وتودع فيه مليون دولار.
إن الأساطير تحتاج إلى ما يغذيها، عبر الزمن، ويؤجج جمرتها ويحفظها من الانطفاء. وقد أدت الصحافة دورها خير أداء في إذكاء شعلة آل كيندي، لكن تيد كيندي، شقيق الرئيس الراحل، لم يكن مرتاحا لتضخيم الأسطورة. وكتب، عام 1968، يرجو مواطنيه أن لا يجعلوا من أخيه صنما يفوق حجمه الإنساني. «لقد كان رجلا جيدا وأمينا، اطلع على الأخطاء وأراد تصحيحها، وشاهد المعاناة وسعى لعلاجها، ورأى حربا وحاول وضع حد لها».
يضم المعرض 225 صورة ويحمل عنوان «جي إف كي 1963 - 2013» ويقام في «غاليري جوزيف» ويستمر حتى نهاية الشهر المقبل. والمبنى القديم الواقع غير بعيد عن ساحة الباستيل، والعائد للقرن السادس عشر، يتألف من ثلاثة طوابق، وكان في السابق ورشة صناعية تم تحويلها إلى حاضنة للأحداث الثقافية. وقد جيء بمصمم ياباني لكي يعيد تقسيم المكان وتأثيثه وتوزيع الإنارة، ويسعى إلى الاستغلال الأمثل للفضاءات فيه. وبالإضافة إلى الصور هناك مجموعة من الأفلام والرسائل والمخطوطات والحاجيات التي استخدمها الرئيس السابق وزوجته.
أما المشرف على المعرض، فهو فريديريك لوكونت ديو، مؤرخ أسرة كيندي الذي ينكب على أرشيفها منذ 20 سنة.
وإذا كانت جاكلين بوفييه كيندي الأكثر بريقا، بحكم سيرتها المتشابكة، فإن كل فرد من أفراد «القبيلة» ساهم بدوره في تشكيل الصورة الأسطورية، ابتداء من جوزيف وروز، والدي الرئيس، مرورا بأشقائه روبرت وإدوارد وولديه كارولين وجون الصغير. وقد كان القدر قاسيا معهم؛ موتا وأمراضا مستعصية واغتيالا وحوادث سيارات وطائرات، الأمر الذي أضاف المناخ الضروري للمأساة على الطريقة الإغريقية.
وقد اختار المشرف على المعرض كل صورة بناء على أهمية المشهد الذي تكشفه ومقدار الإيحاء العاطفي المخزون فيها. ويعود قسم من المعروضات إلى الدائرة الأميركية لحفظ الوثائق وإلى متحف كيندي في بوسطن.
تستعرض الصور حياة كيندي منذ ولادته، وحتى لحظة وقوف نائبه ليندون جونسون لتأدية القسم، بعد ساعات من اغتيال الرئيس، ليحل محله، ويشغل الفراغ الدستوري الذي نجم عن مصرعه. وهناك لقطات تكشف خطواته الأولى في السياسة، وأخرى من لحظة فوزه وانتخابه سيناتورا، ومن زواجه، ومن دخوله البيت الأبيض، ومن رحلاته الرسمية والخاصة، ومن تعامله مع الأزمات الدولية في كوبا ولاوس وصراعه مع عتاة الصناعيين في القضية التي عرفت بمعركة الحديد، ومن لقائه مع نيكيتا خروتشيف والتجاذبات السرية بينه وبين الشرطة الفيدرالية وجهاز الاستخبارات، ومن عمله على تطوير الحقوق المدنية للأقليات العرقية.
وتبقى مشاهد لقاءاته مع الجنرال ديغول واحدة من نقاط الجذب الرئيسة بالنسبة لزوار المعرض من الباريسيين.
بعد 7 أيام على رحيل زوجها، استقبلت جاكي كيندي صديقها الصحافي تيودور إتش وايت في «كاب كود» لكي تستعيد معه وقائع 1007 أيام أمضتها مع الرئيس في البيت الأبيض. وهو اللقاء الذي قارنت فيه الأرملة الحزينة بين أجواء القصر الرئاسي وبلاط مملكة كاملوت، حيث سطوة الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. وسرعان ما التقطت الصحافة الأميركية، ولا سيما مجلة «لايف» الخيط، وقرنت الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة بالملك آرثر، وراحت تشتغل على نسج الأسطورة.
ولعل استمرار الأسطورة متقدة، على الرغم من مرور نصف قرن على غياب جون كيندي، يعود إلى التقارير المتضاربة للتحقيقات في اغتياله، وتعدد أصابع الاتهام الموجهة في عدة اتجاهات، لا في جهة واحدة. ففي كل عام تطلع فرضية جديدة، ويدور الحديث عن وثائق سرية أو تسجيلات ظلت مخبأة أو اعترافات جديدة تلقي الضوء على الملف الغامض. إن الغموض هو سيد حكايات الجن والقصص البوليسية.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».