لم تكن العملية العسكرية التي ينفذها النظام السوري في مدينة حلب، مجرد حلقة في سياق الحرب التي يشنها مع حلفائه على ما يسمى «التنظيمات الإرهابية» كما يزعم، بقدر ما هي حرب تدمير ممنجهة للعاصمة الثانية برمزيتها وتاريخها وعراقتها، وضرب لتنوعها وتعددها الطائفي والثقافي الذي يعود إلى قرون. وحلب هي العاصمة الثانية بعد دمشق، والعاصمة الاقتصادية الأولى ليس في سوريا فحسب، بل ربما في المنطقة، بالاستناد إلى رمزيتها التاريخية والعمرانية. وتعد حلب ثاني المدن بعد الفاتيكان المدرجة على قائمة الاهتمام الفرنسي، بالنظر إلى الحضور المسيحي المميز فيها، والدور التنويري والنهضوي الذي لعبه المسيحيون في المدينة وجوارها، وكانوا رواد نهضتها منذ مطلع القرن السابع عشر.
يقف أهالي مدينة حلب، حاضرة الشمال السوري، بحسرة أمام مشاهد تدمير مدينتهم إحدى أعرق مدن الشرق الأوسط - بل العالم - وأغناها من حيث الإرث الثقافي. وهم من فاخر دومًا بأن «الشهباء» كانت موطئ أول سفارة أوروبية في المنطقة حتى قبل البندقية (فينيسيا). وهي احتضنت أول قنصلية أميركية في العالم العربي وتحديدًا في العام 1836 (منذ 220 سنة)، قبل أن تفتتح الولايات المتحدة سفارتها بدمشق في العام 1942. عدا عن أنها كانت أهم مدن إمبراطورية السلطنة العثمانية من الناحية الاقتصادية.
وإذا كان بديهيًا طرح السؤال المنطقي، لماذا هذه الحرب على حلب؟ لا يتأخر الجواب كثيرًا من قبل معارضين سوريين يؤكدون أن الأسباب تعود إلى أكثر من 35 سنة، عندما تعرضت حلب في العام 1980 لأول عملية قمع دموية على يد نظام البعث، إثر حركة الاحتجاج التي قادها نخبويو المدينة على مستوى نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين والصيادلة وفعاليات المدينة وشبابها، في وجه الطغيان وعمليات تكميم الأفواه.
كل هؤلاء أجمعوا يومها على المطالبة بالديمقراطية وبنظام ليبرالي بعيدًا كل البعد عن حكم البعث والإخوان المسلمين، وقد أدت تلك الأحداث إلى إضراب شامل في كل سوريا، ما عدا العاصمة دمشق، الممسوكة والمحاصرة أمنيًا.
يومذاك اكتشف الرئيس السابق حافظ الأسد مبكرًا، أهمية المحافظة على دمشق وحلب في آن، وفق ما يكشف المعارضون لـ«الشرق الأوسط»، الذين قالوا: «إن الأسد الأب عمل على بقائهما تحت سيطرته، باعتبار أن الحضور السوري سياسيًا واقتصاديًا وتاريخيًا وثقافيًا كله موجود في هاتين المدينتين العريقتين، وهذا ما كان السبب الجوهري في تأخر انطلاقة الثورة فيهما؛ لأن النظام بنى في المدينتين تحالفات اقتصادية ومالية، وأخضعهما لقوانين جديدة هيمنت عليها المخابرات وأجهزة السلطة؛ مما أسهم في تأخر الانتفاضة الشعبية في كل من دمشق وحلب».
* حلب.. والثورة
لا يخفي ناشطون من حلب عتبهم على من اتهم مدينتهم بـ«التآمر» حينًا، وبأحسن الأحوال بالتقاعس عن الالتحاق بركب الثورة، ويتحدث هؤلاء لـ«الشرق الأوسط» عن «ظلم كبير أصابهم؛ لأن البعض غفل سهوًا أو أَغفَل عن قصد حقيقة، أن جامعة حلب كانت السبَّاقة في إطلاق شرارة التحركات الطلابية، وهي الجامعة الأولى وربما الوحيدة التي سقط فيها عشرات الطلاب الشهداء، وتعرضت لحصار خانق».
وفي الوقت الذي كان أشد المدافعين عن نظام الأسد، يعدون أن مقياس نجاح الثورة أو فشلها يتوقف على ما ستقوله حلب، جاءت انتفاضتها كـ«القشّة التي قسمت ظهر البعير»، فهي برأي معارضين حلبيين «وضعت حكم الأسد على شفير السقوط؛ مما جعل قوات النظام وأجهزة الاستخبارات سباقة إلى ارتكاب المجازر فيها، فكانت أولى المدن التي اختبر فيها سلاح الجوي، وقصف الأحياء المدنية التي ثارت وطالبت بالحرية وبسقوط النظام».
انطلاقًا من هذه المقاربة، وضع نظام بشار الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون، خطة لاسترجاع حلب بأي ثمن، باعتبار أن استعادتها وبقاء دمشق في قبضته، يجعل النظام قويًا جدًا، وعندها تبقى كل المحافظات الأخرى هامشية. صحيح أن الحلبيين لم يكونوا جميعًا مع هذه الانتفاضة، خصوصًا بعض الرأسماليين بحكم الشراكة مع النظام في التجارة والصناعة والمشاريع الضخمة، لكن كان من الصعب على هؤلاء تغيير بوصلة التحاق أبناء المدينة بالثورة توقًا إلى الحرية التي تراودهم منذ عقود.
ولكن اليوم، بعد خمس سنوات على الثورة، ماذا تغير في حلب بعد كل ما جرى ويجري على أرضها؟
من الواضح أن الثورة التي انطلقت من جامعة حلب، لقيت الصدى المطلوب في الأوساط الشعبية الفقيرة وشبه المعدمة. واللافت أن هذه الطبقة من الناس تقيم في المناطق الشرقية، في وقت كان الأثرياء والمقربون من النظام يقطنون المنطقة الغربية التي لا تزال حتى الآن تحت سيطرة قوات النظام، وفق ما أوضح عضو «الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية» سمير النشار، الذي لم يخف وجود أحياء فقيرة حتى في المنطقة الغربية، مشيرًا إلى أن «الأحياء الشرقية لحلب توسعت في السنوات التي سبقت الحرب، نتيجة النزوح من الأرياف إلى المدينة، والسكن في أطراف المنطقة الشرقية، باعتبار أن النازحين هم من الفقراء الذي قصدوا المدينة للعمل وكسب الرزق».
* صورة للمدينة
ويؤكد النشَّار، ابن مدينة حلب، لـ«الشرق الأوسط»، أن «المكوِّن السني هو الغالب في المدينة، لكن في الوقت نفسه تتميز بالحضور المسيحي الذي لا يقارن بالحضور الكردي أو التركماني أو الأرمني». ويتابع: «إن أهمية الحضور المسيحي في حلب، لا يكمن في كونه أصيلاً في المدينة فحسب، بل لأنه لعب الدور النهضوي والتنويري فيها، وهو يكاد ينافس الحضور المسيحي في بيروت»، لافتًا إلى أن «الحي الذي يغلب عليه الحضور المسيحي هو حي العزيزية، بينما الحضور الأرمني المتوطد منذ مائة سنة هو في حي الميدان، وهذان الحيان يقعان في القسم الغربي من المدينة».
وطالما أن الفوارق الطبقية والاجتماعية واضحة بفعل الامتيازات المالية والتجارية التي منحها النظام لحلفائه، فإن الطبقة النخبوية بحسب ما يشير النشار «تقيم في حي الحمدانية حيث الفيلات الفخمة جدًا، العائدة لأشخاص من الطائفتين الإسلامية والمسيحية، المعروف أنهم مرتاحون اقتصاديًا وماليًا». ويؤكد في الوقت عينه أن «نسبة كبيرة من المكونين المسيحي والأرمني موجودة في منطقة السبيل وفي حي السبيل المتجاورين أيضًا».
من الطبيعي أن ما كان الواقع عليه قبل الحرب لم يبق قائمًا الآن، فحركة النزوح شملت كل مناطق حلب سواء تلك الواقعة تحت سيطرة النظام أو المعارضة، وإن كانت نسبة الهجرة من مناطق المعارضة أكبر بكثير، خصوصًا بعد إحراق وتدمير الأسواق القديمة والعريقة في الأشهر الأولى للمواجهات العسكرية، باعتبار أن هذه الأسواق كانت مجرد خطوط تماس، لكونها تقع في الخط الجغرافي الفاصل بين القسمين الغربي والشرقي.
ويشدد النشار على أن «الفئات الميسورة ماديًا، خصوصًا التجار والرأسماليين سواء كانوا سنة أو مسيحيين أو أرمنيين انتقلوا إلى بيروت، حتى أن البعض منهم سافروا مع عائلاتهم إلى مصر أيضًا. أما الصناعيون فانتقلوا إلى تركيا ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم لسببين: الأول القرب الجغرافي والثاني لأن السوق التركية واسعة وقادرة على استيعابهم وتصريف إنتاجهم». مشيرًا إلى أن تركيا «كانت أيضًا وجهة المهاجرين من أبناء الطبقات الفقيرة، بحثًا عن ملجأ آمن وسعيًا إلى العمل وكسب لقمة العيش».
* بالأرقام..
وما دامت الهجرة سمة السوريين الهاربين من الموت، فإن حلب كانت نسخة عن باقي المدن والقرى السورية التي هشمتها الحرب، وفتكت بأبنائها قوات الأسد وحلفاؤها، وقطعت الطائرات والصواريخ والمدافع أوصالها.
وفي غياب الإحصاءات الدقيقة لنسبة المهاجرين من حلب، يقول عضو «الائتلاف السوري»: «إن التقديرات القريبة من الواقع تشير إلى أن حلب لم يبق فيها أكثر من مليون مواطن، من أصل ثلاثة ملايين ونصف أو أربعة ملايين»، مضيفًا: «إن ما بين 700 و800 ألف مواطن ما زالوا يقيمون في القسم الغربي، أي في مناطق سيطرة النظام، فيما يوجد في المنطقة الشرقية ما بين 150 و200 ألف نسمة، لم يكن بمقدورهم النزوح أو الفرار إلى أي مكان».
ولم يكن خافيًا على أحد أن أحياء حلب الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام ما زالت تتلقى الخدمات من السلطة القائمة، وهي سهلة المنال إلى حد ما بسبب وجود خطوط الإمداد مع الخارج، لكن الوضع المنطقة الشرقية مختلف، كما يقول النشار، الذي يفيد بأن «الخدمات في مناطق سيطرة المعارضة تقدمها منظمات المجتمع المدني المدعومة من هيئات الأمم المتحدة، ومؤسسات إنسانية أوروبية، تتخذ من مدينة غازي عنتاب التركية المتاخمة للحدود السورية مقرًا لها. وهذه الهيئات تقدم خدماتها إلى الجزء الشرقي من حلب وإلى الأرياف في شرق وشمال حلب، وصولاً إلى مدينة إدلب وريفها وأطراف حمص». ويلفت إلى أن «خدمات الحكومة المؤقتة محدودة؛ لأن مواردها ضئيلة جدًا ويصعب عليها الدخول والخروج من وإلى المدينة». مشيرًا إلى أن «مشفى القدس الذي قصفته ودمرته طائرات النظام في الأيام الأخيرة، ممول من مؤسسة (أطباء بلا حدود) التي كانت تزودها بالمعدات الطبية والأدوية اللازمة والمستلزمات الأولية».
أما على صعيد الإدارة المحلية، فيتابع النشَّار: «كانت ثمة محاولة لبناء جهاز شرطة تابع للفصائل، في المناطق الشرقية، يتولى تنظيم أمور الناس، ممولة من منظمات غربية، لكن فرصها لم تنجح؛ لأن تعدد الفصائل المسلحة لم يسمح بتطبيق سلطة القانون في هذه المناطق».
* المعارك والمجازر
بعد خلط الأوراق من الناحية العسكرية، خصوصًا غداة المجازر التي ارتكبها النظام السوري، وقصفه بالطائرات لمستشفى القدس، وتدميره على رؤوس من فيه، لم يبق للعملية السياسية أي معنى برأي قادة المعارضة، وبات واضحًا أن الكلمة أصبحت للميدان، بحيث تحاول فصائل المعارضة المسلحة تعزيز مواقعها من الناحيتين البشرية والتسليحية. ولا ينكر مصدر عسكري في الجيش الحر أن «الثوار باتوا يتحسبون للأسوأ بعدما شهدته حلب في الأيام الأخيرة». ويؤكد أنهم «يتهيأون لحرب عصابات لن يكون للنظام فيها الكلمة العليا».
ويكشف المصدر لـ«الشرق الأوسط»، أن «الفصائل المسلحة المنتشرة في المناطق والأحياء الشرقية لحلب، تتحضر لمواجهة وحرب استنزاف طويلة»، لافتًا إلى أن «المجموعات القتالية المنضوية في صفوف (الجبهة الشامية)، وتضم كتائب نور الدين الزنكي و(جيش الإسلام) و(أحرار الشام) وغرفة عمليات (فتح حلب) وغيرها من الفصائل وضعت نفسها في جهوزية لقتال طويل الأمد».
وإذا كان الاستنفار والتعزيزات العسكرية حال المعارضة المسلحة، فمن باب أولى أن يكون النظام ماضيًا في تعزيزاته أيضًا؛ حيث أكد المصدر العسكري أن «قوات الأسد والميليشيات الموالية لها مثل ميليشيا (قوات الدفاع الوطني) ومقاتلي الحرس الثوري الإيراني وما يسمى (حزب الله) اللبناني و(لواء القدس) الفلسطيني وبعض المرتزقة، تتخذ أقصى الاحتياطات في مناطق وجودها». وأشار المصدر إلى أن «الهجوم المعاكس الذي شنَّه الثوار على مواقع النظام بعد مجزرة مشفى القدس، والخسائر التي تكبدها النظام وأتباعه، تؤكد أن الثورة ليست ضعيفة في حلب، وهي اكتسبت خبرة قتالية عالية تجعلها قادرة على خوض حرب استنزاف طويلة وإن بإمكانيات محدودة».
ويرى خبراء عسكريون، أن روسيا «تحاول استغلال الصمت الأميركي لفرض سيطرة النظام على سوريا، وتعد حلب مدخلا لهذه الاستراتيجية الروسية التي تسعى لزعزعة سيطرة المعارضة على شمال سوريا». ويقول الخبراء: «إن المعارضة المسلحة المعتدلة في سوريا باتت أمام تحدي وضع استراتيجية دفاعية واسعة النطاق للصيف والخريف القادمين يشارك فيها الجميع، وتثبت قدرتها على تخطي بعض الخلافات التي تعصف بها بين الحين والآخر».
ووفق قراءة هؤلاء الخبراء، فإن المعارضة بحاجة إلى «إعادة هيكلة عمليات، بما يمكنها من قلب الموازين ليس في حلب وريفها فقط، بل على امتداد جبهاتها مع النظام، لدفع الأخير إلى تقديم تنازلات وليس العكس». وقلَّلوا من إمكانية الوصول إلى هدنة في حلب؛ لأن «الولايات المتحدة غير جادة لفعل شيء في سوريا، وهو ما يدركه الروس ويحضهم على استغلال هذه المرحلة»، مؤكدين في الوقت نفسه أن «مصداقية المجتمع الدولي أصبحت في مهب الريح».
* تنوع ديموغرافي وريادة صناعية
- قلصت الحرب عدد سكان حلب إلى نحو مليون شخص، يتوزعون في الأحياء الشرقية للمدينة حيث مناطق سيطرة المعارضة، وفي الأحياء الجنوبية والغربية حيث منطقة سيطرة النظام. وبينما تعيش في مناطق المعارضة أغلبية إسلامية، يسكن في مناطق النظام خليط من المسيحيين والمسلمين والأكراد والأرمن الذي تدنى عددهم بنسبة كبيرة بعد اشتعال الحرب؛ حيث غادر عدد كبير من الأرمن إلى خارج البلاد.
وبينما كان عدد سكان المسيحيين في حلب قبل الحرب العالمية الأولى يقارب الربع في أقصى تقدير، ازداد عددهم بشكل كبير إثر هجرة الأرمن إلى المدينة. فإن هؤلاء كانوا العامل الأبرز في ازدهار المدينة صناعيًا؛ حيث بلغ عدد المصانع في حلب قبل الأزمة السورية في العام 2011 نحو ألفي مصنع للنسيج والصناعات التعدينية والحرفية وغيرها، مثل: الصناعات الكيميائية، والصناعات الدوائية، والصناعات الغذائية الخفيفة، والصناعات الكهربائية، والصناعات الهندسية، والسياحة.
ويعد حي الشيخ نجار المنطقة الصناعية الأساسية في المدينة، ويحتل مساحة 4412 هكتارًا ليكون أحد أضخم الأحياء الصناعية في المنطقة، يقدر حجم الاستثمارات بأكثر من ملياري دولار حتى نهاية عام 2009. وأدى ازدهار الصناعة فيها إلى اطراد في الصادرات، بلغت 50 في المائة من مجمل الصادرات الصناعية السورية قبل الأزمة.
وخلال أحداث الثورة السورية، تضررت حلب بشكل كبير إنسانيًا واقتصاديًا بفعل القتال والقصف، واتهم النظام قوات المعارضة بتفكيك المصانع الضخمة وبيع ألف منها لتركيا، بينما توقفت عجلة الاقتصاد في المدينة، وتعرض الكثير من معالمها الأثرية للدمار مثل قلعة حلب.
حلب.. حرب إبادة الهوية والتاريخ
تقلص عدد سكان ثاني مدن سوريا من 3.5 مليون إلى مليون معظمهم في أحياء النظام ويتنوعون طائفيًا وإثنيًا

حلب.. حرب إبادة الهوية والتاريخ

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة