قصور وشوارع ومساجد الشرق تتألق في لندن

من خلال مزاد الفن الاستشراقي في سوذبي

TT

قصور وشوارع ومساجد الشرق تتألق في لندن

ما الذي أحبه الفنان الغربي في الشرق؟ سؤال يجد إجابته في تراث فني عريض من المقتنيات التي وجدها الفنانون في مدن الشرق على امتداده من المغرب إلى إيران، وفي اللوحات والأعمال الفنية التي عبروا فيها عن رؤيتهم الخاصة لأجواء المدن الإسلامية والعربية، وربما تكون تلك الرؤية في بعض الأحيان متعمدة لإظهار الشرق بصورة واحدة نبتت في مخيلة الفنان، فاختار أن يختزلها في نساء مستلقيات على الفرش الوثيرة، أو حراس أشاوس أو مساجد وقصور، بعضها حقيقي وبعضها متخيل. في كل الأحوال، هذا النوع من الفن أنتج أعمالا غاية في البراعة في معظم الأحيان، فتح نافذة أمام الجمهور الغربي على عالم جديد.
40 عملا من الفن الاستشراقي تعرض في لندن هذا الشهر استعدادا لمزاد الفن الاستشراقي السنوي في دار سوذبي يوم 19 أبريل (نيسان) الحالي، منها أعمال لأساطين هذا الفن، مثل ديفيد روبرتس، وجون فريدريك لويسو، وألبرتو باسيني، وجان ليون جيروم.
الحديث مع كلود بيننغ، رئيس قسم الفن الاستشراقي في سوذبي، يأخذنا إلى عوالم صورها الفنانون الغربيون في لوحاتهم، نتبادل الملاحظات حول تفاصيل اللوحات والأشخاص فيها، والحكايات التي توجد داخل كل مشهد. يبدأ الحوار والنقاش أمام لوحة للفنان النمساوي لودفيك دويتش، الذي زار القاهرة للمرة الأولى في عام 1880 ومعروف بدقته في إبراز التفاصيل الغنية. لوحة دويتش تحمل عنوان «صلاة الصباح»، وفيها رجل يرفع يديه استعدادا للصلاة، بينما يجلس آخر في عمق الصورة، مسبحا. يحرص الفنان على إظهار تفاصيل جلباب المصلي وعباءته التي ألقاها جانبا، أيضا نلحظ الدقة التي صور بها دويتش تفاصيل يد الرجل الظاهرة بكل عروقها والخطوط الطولية في جلبابه. التفاصيل الأخرى تشمل السجادة التي يقف عليها المصلي ونقوش خزانة خشبية وثريا متدلية، ولكن الصورة تبتعد عن تصوير المكان بكل أبعاده. أتساءل «إن كان المكان مسجدا أم حجرة في منزل؟» وربما يعود هذا التساؤل إلى عدم ظهور المحراب، أو بقية تفاصيل المكان، إضافة إلى أن السجادة التي يقف عليها الرجل طولية ولا تغطي الأرضية الحجرية. على أي حال، سواء كان اللوحة تصور مسجدا أم لا، فهي تبقى من اللوحات الجميلة في المزاد. وهنا يشير بيننغ إلى أن الفنان صور المشهد بـ«طبيعية» وحميمية، وكأن الناظر يقحم «لحظة خاصة». ويستكمل «لا نستطيع رؤية المحراب هنا، ولكن الفنان لا يهمه تصويره بقدر ما أهمه تصوير لحظة العبادة نفسها».
ننتقل إلى لوحة أخرى تصور هذه المرة سبيل مياه في القسطنطينية للفنان الإيطالي ألبرتو باسيني، رسمها عام 1882. القسطنطينية حملت سحرا جاذبا للفنانين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ونرى ذلك في الدقة التي صور بها الفنان مشهد الشارع والأشخاص الجالسين، وتفاصيل مبنى السبيل. المشهد يدور في يوم حار، كما يبدو من طريقة جلوس الأشخاص تحت المظلة، أو من رجل أوقف حماره تحت ظل شجرة وجلس بالقرب منه، بينما يقوم آخر بالشرب من السبيل. يشير بيننغ إلى أن النوافذ الخشبية المغلقة التي كانت توزع منها المشروبات. نعرف أن باسيني زار القسطنطينية في رحلته للمشرق عام 1855، وفي هذه اللوحة يورد ملاحظاته حول الحياة في تركيا عبر تصويره لنساء مختمرات وباعة متجولين يتفاوضون مع زبائنهم.
يقدم المزاد أيضا مجموعة من أعمال الرحالة والفنان البريطاني جون فريدريك لويس، منها لوحة بديعة بعنوان «ثرثرة خارجية» يبدو فيها ثلاثة رجال، أحدهما جالس في الخلفية واثنان واقفان في مدخل منزل يتبادلان الحديث. اللوحة رسمها لويس عام 1873، وعرضت لفترة طويلة إلى جانب لوحة أخرى للفنان مكملة لها بعنوان «ثرثرة في الداخل» في ويتورث غاليري في مانشستر تصور امرأتين تتبادلان الحديث. يشير بيننغ أيضا إلى أن الفنان قضى عشرة أعوام في القاهرة، حيث كان يعيش مثل المصريين مرتديا الملابس المحلية، وكان أحيانا يصور نفسه في اللوحات التي كان ينفذها. وخلال تلك الفترة، تجول لويس في أنحاء مصر، حيث زار سيناء ومر على السويس أيضا، ومنها استوحى لوحة «تاجر من السويس» التي يضمها المزاد أيضا، وركز فيها لويس على شخصية التاجر وملابسه، دون إيراد أي تفاصيل عن المكان المحيط به.
إلى جانب اللوحات، يقدم المزاد أيضا بعض المنحوتات، مثل تمثال حصان للفنان أنطوان لويس باري، ومجموعة من المنحوتات البرونزية الصغيرة (453 قطعة) من فيينا، كلها ملونة باليد، وتمثل شخصيات مختلفة من التجار والبائعين إلى راكبي الجمال.
قبل أن ألملم أوراقي وأغادر الدار، يشير بيننغ إلى لوحة للفنان التركي سيفكيت داغ بعنوان «البوابة الإمبراطورية- آيا صوفيا»، التي تصور المدخل الغربي للمبنى، «هذه اللوحة الوحيدة هنا من عمل فنان من الشرق». نقارن اللوحة مع أخرى «في الصلاة.. داخل آية صوفيا» أيضا تصور المسجد، ولكن من وسطه، وهي للفنان ستانيسلوس فون شليبوسكي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)