«ضوء أخضر».. معرض في فيينا لفنان آيسلندي يحكي واقع تجربته كلاجئ

يعكس اهتمامًا بالغًا بعالم الفضاء والبيئة والضوء والماء والشمس

اعتمد أولافور حجرات وصالات وحتى درج القصر وأسقفه المرسومة والمنقوشة كخلفية تاريخية وحقبة معمارية ({الشرق الأوسط})
اعتمد أولافور حجرات وصالات وحتى درج القصر وأسقفه المرسومة والمنقوشة كخلفية تاريخية وحقبة معمارية ({الشرق الأوسط})
TT

«ضوء أخضر».. معرض في فيينا لفنان آيسلندي يحكي واقع تجربته كلاجئ

اعتمد أولافور حجرات وصالات وحتى درج القصر وأسقفه المرسومة والمنقوشة كخلفية تاريخية وحقبة معمارية ({الشرق الأوسط})
اعتمد أولافور حجرات وصالات وحتى درج القصر وأسقفه المرسومة والمنقوشة كخلفية تاريخية وحقبة معمارية ({الشرق الأوسط})

بعد شلالاته التي تتدفق تحت جسر بروكلين في نيويورك، وقرص الشمس البرتقالية في برلين، والنهر الذي لونه أخضر في استوكهولم وغيرها، والقباب الفولاذية التي تبرز وكأنها تنبت من الأرض بالدنمارك، ودعت العاصمة النمساوية فيينا، أخيرا، فعاليات معرض للفنان أولافور الياسون الذي قام بعمل معرض جديد بالمدينة افتتح يوم 12 مارس (آذار) الحالي ويستمر حتى 6 يونيو (حزيران) المقبل بعنوان «ضوء أخضر» يقدمه من واقع تجربته كلاجئ انتقل والداه من أيسلندا إلى الدنمارك بحثا عن حياة أفضل، فعمل أبوه طباخا وأمه خياطة بينما تنقل هو من وظيفة إلى أخرى، إلى أن ساعدته منحة حكومية على دراسة الفن فأبدع ولا يزال.
يعود أصل أولافور الياسون المولود في عام 1967 إلى دولة أيسلندا بينما يحمل الجنسية الدنماركية ويعمل أستاذا في جامعة الفنون ببرلين، وأستاذا مساعدا بكلية الفنون الجميلة بجامعة أديس أبابا حيث تبنى وزوجته طفلين إثيوبيين.
وإن كان أولافور يفضل لمعارضه العالمية الفضاءات الخارجية الواسعة مستفيدا من خبرات هندسية وإلمام بعلم الجبر مما يساعده في تجسيم تصميماته من زوايا دقيقة تعكس اهتماما بالغا بعالم الفضاء والبيئة والضوء والماء والشمس، إلا أنه في فيينا اختار قصرا بالغ الفخامة تحول حديثا إلى متحف وأرض معارض.
بـ«قصر المدينة» وتحت عنوان «باروك» نجح أولافور الذي يشتهر باسمه الأول، في إضافة إبداع جديد زاوج فيه بين فنون معمار الباروك كما شيد القصر وبين مجسماته وأفكاره كفنان معاصر يصف نفسه بأنه «آلة لإنتاج واقع يبحث عن المدينة الفاضلة في عالم صناعي».
يقع «قصر المدينة» في شارع جانبي داخل حدود فيينا القديمة، ويرجع تاريخ إنشائه إلى حقبتين، الأولى من 1695 إلى 1700 بقيادة المهندس المعماري جوان فيشر، والثانية من 1702 إلى 1724 بقيادة لوكاس فون هيلدبراندت.
تعود الملكية الأصلية للقصر إلى الأمير الجنرال وقائد الجيش يوغن أوف سافوي الذي سكنه شتاء بينما سكن صيفا في قصر البلفدير، وذلك إلى أن باعه في مزاد رسا على الإمبراطورة مريا تريزا.
خلال الفترة من 1848 - 1918 كان القصر المقر الرسمي لوزارة مالية إمبراطورية الهابسبرغ، وقبل عامين فقط تم تجديده وإعادة افتتاحه كمتحف.
اعتمد أولافور حجرات وصالات وحتى درج القصر الفخم وأسقفه المرسومة والمنقوشة والملونة، بما في ذلك بلون الذهب كخلفية تاريخية تقليدية وحقبة معمارية مكنته باستخدام تقنية وأضواء حديثة من خلق علاقة بين الفن الحديث والتاريخ وأحاسيس زائر المعرض.
أقيم معرض باروك خلال الفترة من 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 إلى 6 مارس 2016 وشهد صفوفا بالغة الطول من الزوار وسط تكهنات بتمديده لإتاحة الفرصة لمزيد من الراغبين في الاستمتاع بما عكسه من قدرات أولافور التنسيقية الهائلة وخبراته ومهارته كفنان ومصور ونحات، بجانب اعتماده على فريق متكامل يضم أكثر من متخصص، مما مكنه من سحر فيينا بمعرض أجاد التلاعب بالزمن ما بين حقبة معمارية تعود إلى قرون مضت وفن حديث يعتمد أساسا على التحكم في الضوء وإسقاطاته وظلاله وألوانه وتفتيته بهدف إمتاع الزائر وجذب اهتمامه للتفكير في التغيرات البيئية وفقر الطاقة ودعوته للتأمل لدرجة أن يصبح جزءا من المعرض وليس مجرد متفرج سلبي. وفي هذا السياق لم يغفل أولافور طرح مصابيحه الشمسية الشكل التي يسوقها عالميا كمساهمة يعود ريعها لدعم الجهود المبذولة للقضاء على فقر الطاقة، لا سيما أن المصابيح تعمل بالطاقة الشمسية، وهي صغيرة «جيبية» تكسر عتمة الظلام كفكرة تساعد طلاب المجتمعات الفقيرة على الاستذكار والمطالعة.
وضمن تركيز أولافور على استغلال الضوء كمادة خام زخر المعرض بعدد من المرايا الضخمة والمجسمات الهندسية ذات الأشكال المكعبة والدائرية، التي لونها بمختلف الألوان والأحجام والترددات وتغيير الأبعاد مما شكل تجربة ثرة للمزاوجة بين بذخ معمار الباروك بأعمدته الشاهقة، وتماثيله الضخمة، وغرفه مختلفة الأحجام والزوايا الحادة والبارزة والأسقف العالية، وبين فن عصري حديث يعتمد على الإضاءة ومجسمات هندسية ومرايا، مما وصفه أولافور بأنه «تحد للتصنيفات التقليدية يفتح مجالات للأحاسيس والخيال».
من جانب آخر أوشكت الاستعدادات الجارية لافتتاح معرض «ضوء أخضر» على الاكتمال، وتم اختيار الاسم كضوء فني مجازي يعكس قدرة الفن المعاصر على التأثير في التحولات المدنية في إشارة إلى الآثار المترتبة على الهجرات وطلبات اللجوء التي غمرت النمسا وغيرها من دول أوروبية.
وكما حمل منشور صحافي تلقته «الشرق الأوسط» فإن المعرض ينتظم كورشة لعمل فني ومنصة يدعو عبرها الفنان أولافور كل الراغبين -بما في ذلك اللاجئون- للمشاركة، وكما يقول: «يحدوني الأمل أن ينعكس الضوء الأخضر على بعض التحديات والمسؤوليات الناجمة عن أزمة اللجوء الحالية بأوروبا»، داعيا كل من وصلوا للمشاركة في بناء شيء له قيمة، مشيرا إلى أن الضوء الأخضر دعوة لتشكيل المشاعر والهوية والتضامن، مؤكدا أنه استجابة لحالة من عدم اليقين سواء للاجئين ممن يجدون أنفسهم في مآزق سياسية واجتماعية وللمجتمعات التي قد لا ترحب بهم، داعيا لفتح ما وصفه بـ«التضاريس» المتنازع عليها والتفاوض حول الاختلافات والتشابه.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)