نانسي ريغان.. حمت زوجها من السياسيين والصحافيين ووقفت إلى جانبه عند المرض

عاشا كزوجين 50 عامًا تقريبًا.. وعاشت هي كأرملة أكثر من 10 سنوات

الرئيس ريغان والسيدة نانسي يرحبان بالأميرة ديانا وزوجها الأمير تشارلز في البيت الأبيض عام 1985 (أ.ف.ب) وفي الاطار صورة تجمع بين نانسي ريغان والرئيس الأسبق رونالد ريغان عام 1952 (إ.ب.أ)
الرئيس ريغان والسيدة نانسي يرحبان بالأميرة ديانا وزوجها الأمير تشارلز في البيت الأبيض عام 1985 (أ.ف.ب) وفي الاطار صورة تجمع بين نانسي ريغان والرئيس الأسبق رونالد ريغان عام 1952 (إ.ب.أ)
TT

نانسي ريغان.. حمت زوجها من السياسيين والصحافيين ووقفت إلى جانبه عند المرض

الرئيس ريغان والسيدة نانسي يرحبان بالأميرة ديانا وزوجها الأمير تشارلز في البيت الأبيض عام 1985 (أ.ف.ب) وفي الاطار صورة تجمع بين نانسي ريغان والرئيس الأسبق رونالد ريغان عام 1952 (إ.ب.أ)
الرئيس ريغان والسيدة نانسي يرحبان بالأميرة ديانا وزوجها الأمير تشارلز في البيت الأبيض عام 1985 (أ.ف.ب) وفي الاطار صورة تجمع بين نانسي ريغان والرئيس الأسبق رونالد ريغان عام 1952 (إ.ب.أ)

نانسي ريغان، الممثلة السينمائية التي تزوجها الممثل رونالد ريغان قبل أن يتحول من ممثل إلى سياسي، ومن حاكم ولاية كاليفورنيا إلى رئيس الولايات المتحدة وزعيم العالم الحر، والتي لم تتدخل في السياسة أبدا، لكنها حمت زوجها من السياسيين والصحافيين، توفيت يوم الأحد، وعمرها 94 عاما، بعد 12 عاما من وفاة زوجها.
نقلت وكالة الصحافة الفرنسية على لسان جوان دريك، المتحدثة باسم مكتبة ريغان في سيمي فالي (ولاية كاليفورنيا)، أنها ستدفن اليوم الثلاثاء إلى جانب زوجها قرب المكتبة.
وكتبت صحيفة «واشنطن بوست»: «أثناء حياة زوجها، تعرضت نانسي ريغان لانتقادات صحافية كثيرة بسبب تأثيرها الكبير على زوجها. وبعد وفاته، دافعت عنه كثيرا، ونالت الإعجاب لذلك».
وأشارت الصحيفة إلى أنهما عاشا كزوجين خمسين عاما تقريبا، وعاشت هي كأرملة أكثر من عشرة أعوام، و«بدت وكأنه لا يزال حيا». ومثلما وقفت إلى جانبه لحمايته من السياسيين والصحافيين، وقفت إلى جانبه عندما أصابه مرض ألزهايمر (الخرف) في آخر حياته.
في العام الماضي، كشف كتاب جديد أصدره واحد من مساعدي ريغان في البيت الأبيض بان ريغان أصيب ببدايات ألزهايمر عندما كان في البيت الأبيض (كان ذلك سرا، ودليلا على حماية زوجته له).
طبعا، لم تكتب عن ذلك في كتاب مذكراتها. وكتبت الجملة الآتية: «بدأت حياتي فعليا عندما تزوجت رونالد». كتبت ذلك رغم أنها كانت تزوجت قبله. ورغم أنه كان تزوج قبلها.
قبل وبعد البيت الأبيض، تحاشت السياسة والسياسيين، والصحافة والصحافيين. وصارت أقل زوجات الرؤساء حديثا للصحافيين. ربما فقط لتغطية نشاطاتها الاجتماعية. مثل: مساعدة الجنود المتقاعدين، وكبار السن، والمعوقين. ومثل محاربة المخدرات والكحول، خصوصا وسط الشباب والشابات.
في عام 1994، بعد خمس سنوات من تركهما البيت الأبيض، كشفت هي إصابة زوجها بمرض ألزهايمر. وقالت إنها نذرت نفسها «للدفاع عن كرامته»، بعد أن دخل سنوات الخرف. ومنعت الصحافيين حتى من الاقتراب منه (ناهيك بإجراء مقابلات معه). ومنعت، أيضا، حتى اقرب أصدقائه ومؤيديه.
مرة، قبل عصر الهاتف الذكي، نشرت صحيفة صورة من بعد لريغان وهو يتجول تائها في حديقة قريبة، ويتحدث مع أطفال. وثارت أرملته، واشتكت الصحيفة للشرطة «قالت إنها لا تريد رفع قضية، ولا تريد المطالبة بتعويض. لكنها تريد المحافظة على كرامة زوجي في سنوات خرفه».
وفي خبر وفاة نانسي ريغان، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»: «كانت من أكثر الصحف انتقادا لها عندما كانت في البيت الأبيض): «إذا ليس لأي سبب آخر، تكفي الإشادة بنانسي ريغان لأنها تحملت زوجها لعشر سنوات وقد أصابه الخرف وهو في التسعينات من العمر، وهي في الثمانينات من العمر». قبل وبعد وفاة زوجها، فضلت نانسي ريغان أن يركز الصحافيون على مشروع اجتماعي جديد: أبحاث الخلايا الجذعية (التي تستعين بالأجنة البشرية) لاكتشاف علاج لأمراض قاتلة، مثل ألزهايمر والسرطان.
في عام 2001، خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، أرسلت رسالة إليه لزيادة المساعدات الاتحادية لهذه الأبحاث. في ذلك الوقت، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» أجزاء من الرسالة. وجاء فيها: «نعتقد، زوجي وأنا، من واقع تجربتنا، أنه يجب ألا تعاني أي عائلة أخرى ما تعانيه عائلتنا». لكن، انحاز بوش إلى جانب الجمهوريين المحافظين والمسيحيين المتطرفين الذين يقولون إن أبحاث الخلايا الجذعية (التي تستعين بالأجنة البشرية) تخالف الدين والأخلاق الفاضلة.
في ذلك الوقت، نشرت الصحيفة تعليقات بأنه من المفارقات أن رئيسا جمهوريا عارض طلب رئيس جمهوري سابق (باسم زوجته). وأن ريغان، رغم أنه كان ينتمي إلى الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، صار «يبدو جمهوريا معتدلا».
في تعليق لصحيفة «يو إس إيه توداي» على وفاة نانسي ريغان، نشرت الجملة الآتية: «لأعوام كثيرة، ظل الرئيس السابق ريغان مثال للجمهوريين المحافظين، وهو، حقيقة، وضع أسس الحزب الجمهوري المحافظة. لكن، اليوم، مع تصريحات رونالد ترامب العنصرية، والمذعورة، والقذرة، صار ريغان معتدلا». وأضافت: «نقدم نجمة تقدير أخرى لريغان: رغم آرائه المحافظة، سيطر على لسانه».
لكن، بمناسبة وفاة نانسي ريغان، أعادت كثير من الصحف والقنوات التلفزيونية ومواقع الإنترنت نشر بعض الانتقادات التي واجهتها عندما كانت في البيت الأبيض. ومنها الأتي:
أولا: في أول يوم في البيت الأبيض، عندما غادره الرئيس السابق جيمي كارتر (وزوجته روزلين). كالعادة، كان الرئيس الجديد ريغان (وزوجته) في بيت الضيافة الرسمي المواجه للبيت الأبيض («بلير هاوس»). لكن، غضبت نانسي لتأخير خروج كارتر وروزلين.. وقالت ما معناه: «هؤلاء الجنوبيين متأخرون في كل شيء» (إشارة إلى أن كارتر وزوجته من ولاية جورجيا، من ولايات الجنوب، وهي وزوجها من كاليفورنيا).
ثانيا: في أول أسبوع في البيت الأبيض، أمرت بشراء طاقم عشاء جديد عملاق من الصيني الفاخر. وغمزت بأن روزلين «الجنوبية» ليست «متحضرة كثيرا».
ثالثا: في كتاب مذكراته، كشف دونالد ريغان (اسم آخر)، الذي كان كبيرا لموظفي البيت الأبيض، بأن نانسي كانت تستعين بالسحر والشعوذة وهي في البيت الأبيض. واستأجرت «ساحرة» كانت تزورها في البيت الأبيض لمساعدتها في وضع برنامج رحلات زوجها، اعتمادا على الأبراج والكواكب. مثل أن تقول الساحرة: «تتطابق النجوم والأبراج يوم الخميس. هذا يوم مناسب لزيارة الرئيس إلى..»..
قال كارل أنتوني، مؤرخ في متحف السيدات الأوائل، في واشنطن: «أرادت نانسي ريغان أن تكون ذكراها هي حماية ذكرى رونالد ريغان». وقال فردريك رايان، رئيس مؤسسة ريغان الخيرية: «وضعت نانسي ريغان مثالا للسيدات الأوليات بعدها».
لكن، انتشرت في مواقع الإنترنت انتقادات لنانسي ريغان، خصوصا في مواقع ليبرالية، وأنثوية. قالت هذه إن نانسي ريغان لم تكن مثل «الزوجة الحديثة» (التي تشترك وتتساوى مع زوجها، وليس فقط تحميه). وأنها كانت تطيع زوجها «طاعة عمياء».
من المفارقات أن هيلاري كلينتون، في نفس يوم وفاة نانسي ريغان، تحدثت عن الخيانات الجنسية لزوجها بيل كلينتون (إجابة على سؤال محرج خلال ندوة سياسية). هذه أول مرة تفعل فيها هيلاري ذلك. لم تدافع عن الخيانات. لكنها قالت إن زوجها أخطأ، وإنها غفرت له.
وقت الخيانات، قبل عشرين عاما تقريبا، رفعت هيلاري كلينتون شعار: «ستاند باي يور مان» (لتساند كل زوجة زوجها). اليوم، يبدو أنه لا يوجد فرق كبير بين هيلاري كلينتون اللبرالية ونانسي ريغان المحافظة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)