10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

بلا كهرباء ولا ماء ولا وقود ولا معابر.. مع آفاق غامضة يصلون إلى طريق مسدود

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
TT

10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)

بعد تفكير طويل لم يتردد الشاب الغزي «محمد. ص» والذي يسكن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، بتناول كمية من السم لإنهاء حياته التي وصفها بالبائسة ومن دون مستقبل، قبل أن تتدخل مجموعة من المارة الذين شاهدوه وهو يسقط على الأرض مغشيا عليه، لينقلوه على عجل إلى مستشفى الشفاء ما ساهم في إنقاذ حياته.
محاولة محمد البالغ من العمر 29 عاما، والتي تمت في الثالث عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، لم تكن المحاولة الأولى بل سبقه آخرون ونجحوا في الانتحار ولحقه آخرون كذلك، في تعبير صارخ عن ضنك الحياة التي يعيشها الناس في القطاع الصغير المحاصر.
استمر الأطباء نحو 4 ساعات حتى استطاعوا إنقاذ حياته بعد تناوله للمادة السامة، واستمر نحو 6 ساعات إضافية قابعا في غرفة العناية المركزة وسط مراقبة شديدة من قبل الأطباء لحالته الصحية حتى استطاع استعادة وعيه، فمكث يومين آخرين تحت الرعاية الطبية، ومن ثم عاد إلى حياته.
يقول محمد لـ«الشرق الأوسط» في جلسة «مصارحة»، إنه لن يفعل ذلك ثانية، لكنه حين فعلها كانت الحياة ضغطت عليه بما يكفي. مضيفا: «لم أكن قادرا على تحمل أعبائها الكبيرة والمتراكمة».
وتوفي والد محمد قبل 13 عاما وترك في رقبته عائلة مكونة من 5 أشقاء من الذكور هو أكبرهم، و3 شقيقات أكبرهن تدرس في جامعة الأقصى بغزة، من دون ميراث أو مهنة محددة.
ووسط ظروف حياتية صعبة يعمل محمد في بيع «الملابس الداخلية» و«الأحذية» على مفترقات الطرق بمدينة غزة، حين يتسنى له ذلك، ويحاول الآن مضاعفة ساعات العمل في محاولة منه لسد رمق أسرته، وانضم إليه شقيقه الأصغر ياسر، (26 عاما) في محاولة لكسب المزيد من المال.
وتعيش عائلة محمد في منزل متهالك لا يكاد يصلح للعيش الآدمي، حيث يتكون المنزل من مساحة تقل عن 80 مترا، غير محمي بشكل كامل من الأمطار والهواء والغبار والزواحف.
يختصر الشاب حكايته بالقول: «هذا قدري في الحياة.. ما في مستقبل، ما عندي شيء ممكن أعمله لنفسي، مش ممكن أتزوج وأكون عائلة مثل كثير ناس، كل همي الآن إني أجيب لقمة الأكل لعائلتي مشان يقدروا يعيشوا بس ولو بالقليل وما يحتاجوا أحد».
لكن لم نفهم كيف أن المبلغ الذي يجمعه محمد يوميا يمكن أن يسد رمق أسرة. وقال محمد إنه بعد عمل 12 ساعة يجمع ما مقداره 25 شيقلاً أي 7 دولارات. مضيفًا: «هل عرفتم لماذا حاولت الانتحار.. ليس لأسباب شخصية بل بسبب عجزي عن توفير احتياجات عائلتي وتراجع حالتنا الاقتصادية المزرية في ظل تدهور الأوضاع العامة في قطاع غزة».
ويأمل «محمد» كما الآلاف من سكان قطاع غزة الذين يعيشون في ظروف حياتية قاسية في تحسن الأوضاع وفتح آفاق أمامهم للعمل وتحسين حياتهم أملا في بناء مستقبل واعد. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل الظروف السياسية التي تنعكس بشكل مباشر على الواقع الاقتصادي والحياتي بغزة، وهو الواقع الذي دفع آخرين إلى محاولة الانتحار.
وتشير إحصائيات حصلت عليها الشرق الأوسط من مراكز حقوقية، إلى أنه سجل منذ بداية العام الحالي 35 محاولة انتحار بطرق متعددة، منها استخدام السلاح الناري وأخرى باستخدام مواد سامة أو الانتحار شنقا.
الجهات الأمنية الفلسطينية في غزة كثيرا ما تقول: إن معدلات الجريمة وحتى محاولات الانتحار طبيعية وليست «ظاهرة» باعتبار أن الدول الأخرى تسجل حالات أكثر، لكن المراكز الحقوقية ترى أن ما يجري خطير للغاية ومؤشر على واقع صعب في القطاع.
وقال الناطق باسم الشرطة أيمن البطنيجي في حديث مع «الشرق الأوسط»: «ليست ظاهرة، في دول أخرى المعدلات مرتفعة للغاية».
وبحسب متابعات الشرطة، فإن غالبية من يقدمون على الانتحار أو المحاولة، يعانون من مشاكل عائلية وضغوط اقتصادية وظروف خاصة مختلفة.
وعلى الرغم من أن القانون يجرم محاولات الانتحار ويعاقب عليها، فإن الأجهزة الأمنية في غزة تعمل بروح القانون، وفق البطنيجي، بسبب ما وصفه بـ«ظروف الناس» مضيفا: «نفضل تقديم العلاج لهم ولقضاياهم بدلا من معاقبتهم قانونيا».
ويرى البطنيجي أن الصدى الذي تحدثه محاولات الانتحار بغزة: «نابع من أننا نعيش في مجتمع محافظ تزعجه مثل هذه القضايا ويتألم لما وقع به قاتل نفسه». مشيرا إلى أهمية تحرك المؤسسات غير الحكومية في ضرورة توفير العلاج النفسي وتنفيذ جلسات إرشادية لتوعية الناس، والاطلاع على ظروفهم ومحاولة علاجها بكافة الطرق الممكنة.
ولكن مع كل هذا الجهد المبذول، تبقى الأرقام مقلقة. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، سجلت حالتا انتحار إحداهما لفتاة، في حين سجل منذ بداية فبراير (شباط) 6 حالات انتحار منها واحدة لفتاة ألقت بنفسها من مكان مرتفع في مدينة غزة، ومن بينها 4 حالات وقعت في غضون 3 أيام، إحداها لشخص أحرق نفسه واثنان أقدما على شنق نفسيهما ورابع ألقى بنفسه من مكان مرتفع، والحالات الثلاث وقعت في أيام (10 - 11 - 12) من الشهر نفسه، في منطقة خانيونس، والرابعة في رفح جنوب قطاع غزة.
وقال المختص النفسي والاجتماعي الدكتور فضل أبو هين، لـ«الشرق الأوسط» «إن حالات الانتحار تنم عن حالة اكتئاب يُصاب بها الفرد نتيجة ظروف حياتية قاسية يمر بها تدفعه إلى إنهاء حياته بطريقة يحرمها الدين ويجرمها المجتمع والقانون فيما يرى المنتحر نفسه بأنه أقدم على الفعل للتخلص مما لا يتحمله من أعباء كبيرة».
وأشار أبو هين إلى أن معدلات الانتحار في الأراضي الفلسطينية ليست بجديدة ولا يمكن مقارنتها بما يحصل في المجتمعات العربية والغربية، لكنه يركز على الأسباب؛ «ومعظمها يعود لأسباب اقتصادية في ظل انغلاق الأفق السياسي وإغلاق المعابر وما خلفته الحروب من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على حياة الفلسطينيين في قطاع غزة».
ويرى أبو هين أن الحصار يولد حالات انتحار، مشيرا إلى حجم ظاهرة هجرة الشبان قبل أحكام إغلاق المنافذ، باعتبار ذلك بديلا محتملا للانتحار كإحدى المشاكل الاجتماعية التي يخلفها الواقع الحالي.
وقال أبو هين مجددا: «الأسباب هي المختلفة». وأضاف: «الانتحار هنا يأتي لأسباب مختلفة عنها في المجتمعات الأخرى، المعاناة والإحباط الشديد وغياب الأفق لمستقبل واضح، مع استمرار انغلاق الأفق السياسي الذي يؤثر على حالة المجتمع بشكل عام، أسباب رئيسية في حالات الانتحار في فلسطين».
ويفسر بالقول: «الأسرة الفلسطينية تنتظر من ابنها أن يبحث عن مستقبله ويبدأ بتأسيس عائلته الخاصة ويعمل على إعالة عائلته الجديدة وكذلك أسرته المكونة من والديه وأشقائه، ولكن كثيرا ما يصطدم الشبان بواقع اقتصادي وسياسي مأساوي يجعله عاجزا عن تقديم الحلول لأسرته فيصبح إرهاقا إضافيا لتلك الأسرة المرهقة بالأساس ويصبح مطالبا بالخروج للبحث عن عمل ويُنظر إليه في الكثير من الأحيان بنظرة التبخيس به وبقدرته والتقليل من شأنه وكل ذلك يؤدي إلى تراكم الوضع النفسي على الشاب ويغلق أمامه أفق الحياة فيفكر بالانتحار ويفعلها».
ويعيش المواطن في غزة إضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة، ظروفا حياتية صعبه كذلك.
ويمكن القول إن أهل غزة جربوا كل أشكال الحياة البدائية، تحت «الحصار»، بلا كهرباء ولا وقود ولا ماء.
وتغط غزة طيلة 18 ساعة في اليوم في ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما أدى إلى كوارث «ارتدادية»، مثل توقف المضخات عن ضخ كميات المياه اللازمة للسكان، والمعاناة التي تلاقيها غرف عمليات المستشفيات، ناهيك على انقطاعات متكررة في الغاز والوقود.
كما يعاني الغزيون من ضغط متعلق بالحريات العامة.
ووضعت الحركة الإسلامية في أوقات مختلفة قوانين صارمة تتعلق بالتنزه على شاطئ البحر والسماح للنساء بتعاطي النرجيلة في المطاعم العامة، وطريقة عرض البضائع في المحلات، وتدخلوا في أحيان مختلفة بطريقة قصة الشعر وارتداء الملابس، وهو ما أثار الجدل داخل حماس نفسها.
ويربط الكثير من المراقبين حالات الانتحار بالواقعين السياسي والحياتي، بما في ذلك القوانين الصارمة وتراجع الوضع الاقتصادي، وانتشار البطالة وارتفاع نسبة الفقر.
وشهدت نسب البطالة وحدها ارتفاعا كبيرا وصل إلى نحو 80 في المائة. وفق إحصائيات الهيئة الشعبية لمواجهة الحصار.
وقال المواطن أبو خميس نصر الدين، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، لـ«الشرق الأوسط»: «الحياة هنا صعبة».
ويملك نصر الدين، ورشة صغيرة لأعمال «النجارة» ولكن انقطاع الكهرباء لأكثر من 10 ساعات يوميا يضاعف من الأزمات له في عمله ومواعيده.
وقال نصر الدين «يكفيك أزمة الكهرباء، وهذه تترافق مع أزمات كثيرة بالأساس منها عدم توفر الخشب اللازم لتفصيل غرف النوم أو غيره من الأثاث إلا بأسعار عالية».
ولفت إلى أنه يضطر لشراء الوقود لتشغيل مولد الكهرباء بأسعار عالية كذلك. وقال: «نضطر لأن ندفع أكثر في الخشب، ونحو 30 شيقلا كل يومين، أي ما يعادل نحو (8 دولارات) ثمن وقود بدل كهرباء، ولا يبقى لنا إلا القليل».
وتابع: «نحن نعيش حياة مأساوية جدا، لا كهرباء جيدة ولا مياه صالحة، والحروب تلاحقنا والحصار والانقسام يدمران حياتنا الاجتماعية قبل الاقتصادية، السياسة تنخر في عظام كل منزل بغزة وتنهكه كثيرا».
وبفعل الحصار الموجود على غزة تعاني المصانع وورش العمل بسبب فرض إسرائيل رقابة عالية على البضائع التي تدخل إلى القطاع خشية أن يستفيد منها عناصر حماس المسلحون.
وبعض البضائع ممنوعة أصلا من الدخول كونها تدخل في صناعة السلاح أو بناء الأنفاق.
ولا يأمل الكثير من الغزيين في حل سريع لهذه الأزمات رغم الحديث عن حوارات جادة حصلت مؤخرا بالدوحة لإنهاء الانقسام. والتشاؤم هو السائد بين سكان القطاع، ما يعني بالنسبة لهم مزيدا من تدهور الأوضاع الحياتية.
والمصالحة التي يتطلع لها الغزيون تعني بالنسبة لهم فك الحصار وفتح المعابر (أي التغيير الجذري في الحياة) التي قالت إحصائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إنها تتسم بإضرابات نفسية واجتماعية.
وبحسب تقرير إحصائي لـ«الأونروا» فإن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في غزة، والبالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية. مشيرة إلى أن الحصار المفروض على القطاع، لا يؤثر فقط في النواحي البدنية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، لكن يعرضهم أيضا لمستويات عالية من الضغط النفسي والاجتماعي.
وفعلت «الأونروا» 21 مركزا تابعا للوكالة، لاستقبال اللاجئين الذين ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية في القطاع، وبدأت بتشغيل 31 مشروعا تجريبيا من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن خدمات الرعاية الصحية.
وحول تلك الحلول المبتكرة التي يمكن أن تسهم في التقليل من محاولات انتحار الشبان (وهم الفئة الأكبر من المقدمين على الانتحار بغزة)، يرى المختص النفسي والاجتماعي أبو هين أن المشاكل الحالية في قطاع غزة والتي تسهم بتفكير الشبان بالخلاص من الأعباء الملقاة عليهم بالانتحار أكبر بكثير من قدرة المؤسسات الدولية أو المحلية ومؤسسات الصحة النفسية لإيجاد حلول عامة لها. مضيفا: «قدرة المؤسسات تكمن في إيجاد حلول لمشاكل محددة وليس مشاكل عامة يتأثر بها غالبية الفلسطينيين في غزة».
ورأى أبو هين أن «الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأولى عن واقع الحال في الأراضي الفلسطينية وأنه يعمل منذ زمن طويل على خلخلة المجتمع، لكنه استدرك أهمية تحميل المسؤولية للساسة في فلسطين وأصحاب الانقسام. كما وصفهم. مشددا على أنهم هم من أوجدوا الحالة القائمة.
وأضاف: «لو أن الحياة سهلة كما قبل والمعابر مفتوحة وفرص العمل متوفرة، فلماذا ينتحر الشبان؟».
ويبقى هذا السؤل معلقا برسم إجابة الحكام في القطاع والضفة.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.