10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

بلا كهرباء ولا ماء ولا وقود ولا معابر.. مع آفاق غامضة يصلون إلى طريق مسدود

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
TT

10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)

بعد تفكير طويل لم يتردد الشاب الغزي «محمد. ص» والذي يسكن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، بتناول كمية من السم لإنهاء حياته التي وصفها بالبائسة ومن دون مستقبل، قبل أن تتدخل مجموعة من المارة الذين شاهدوه وهو يسقط على الأرض مغشيا عليه، لينقلوه على عجل إلى مستشفى الشفاء ما ساهم في إنقاذ حياته.
محاولة محمد البالغ من العمر 29 عاما، والتي تمت في الثالث عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، لم تكن المحاولة الأولى بل سبقه آخرون ونجحوا في الانتحار ولحقه آخرون كذلك، في تعبير صارخ عن ضنك الحياة التي يعيشها الناس في القطاع الصغير المحاصر.
استمر الأطباء نحو 4 ساعات حتى استطاعوا إنقاذ حياته بعد تناوله للمادة السامة، واستمر نحو 6 ساعات إضافية قابعا في غرفة العناية المركزة وسط مراقبة شديدة من قبل الأطباء لحالته الصحية حتى استطاع استعادة وعيه، فمكث يومين آخرين تحت الرعاية الطبية، ومن ثم عاد إلى حياته.
يقول محمد لـ«الشرق الأوسط» في جلسة «مصارحة»، إنه لن يفعل ذلك ثانية، لكنه حين فعلها كانت الحياة ضغطت عليه بما يكفي. مضيفا: «لم أكن قادرا على تحمل أعبائها الكبيرة والمتراكمة».
وتوفي والد محمد قبل 13 عاما وترك في رقبته عائلة مكونة من 5 أشقاء من الذكور هو أكبرهم، و3 شقيقات أكبرهن تدرس في جامعة الأقصى بغزة، من دون ميراث أو مهنة محددة.
ووسط ظروف حياتية صعبة يعمل محمد في بيع «الملابس الداخلية» و«الأحذية» على مفترقات الطرق بمدينة غزة، حين يتسنى له ذلك، ويحاول الآن مضاعفة ساعات العمل في محاولة منه لسد رمق أسرته، وانضم إليه شقيقه الأصغر ياسر، (26 عاما) في محاولة لكسب المزيد من المال.
وتعيش عائلة محمد في منزل متهالك لا يكاد يصلح للعيش الآدمي، حيث يتكون المنزل من مساحة تقل عن 80 مترا، غير محمي بشكل كامل من الأمطار والهواء والغبار والزواحف.
يختصر الشاب حكايته بالقول: «هذا قدري في الحياة.. ما في مستقبل، ما عندي شيء ممكن أعمله لنفسي، مش ممكن أتزوج وأكون عائلة مثل كثير ناس، كل همي الآن إني أجيب لقمة الأكل لعائلتي مشان يقدروا يعيشوا بس ولو بالقليل وما يحتاجوا أحد».
لكن لم نفهم كيف أن المبلغ الذي يجمعه محمد يوميا يمكن أن يسد رمق أسرة. وقال محمد إنه بعد عمل 12 ساعة يجمع ما مقداره 25 شيقلاً أي 7 دولارات. مضيفًا: «هل عرفتم لماذا حاولت الانتحار.. ليس لأسباب شخصية بل بسبب عجزي عن توفير احتياجات عائلتي وتراجع حالتنا الاقتصادية المزرية في ظل تدهور الأوضاع العامة في قطاع غزة».
ويأمل «محمد» كما الآلاف من سكان قطاع غزة الذين يعيشون في ظروف حياتية قاسية في تحسن الأوضاع وفتح آفاق أمامهم للعمل وتحسين حياتهم أملا في بناء مستقبل واعد. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل الظروف السياسية التي تنعكس بشكل مباشر على الواقع الاقتصادي والحياتي بغزة، وهو الواقع الذي دفع آخرين إلى محاولة الانتحار.
وتشير إحصائيات حصلت عليها الشرق الأوسط من مراكز حقوقية، إلى أنه سجل منذ بداية العام الحالي 35 محاولة انتحار بطرق متعددة، منها استخدام السلاح الناري وأخرى باستخدام مواد سامة أو الانتحار شنقا.
الجهات الأمنية الفلسطينية في غزة كثيرا ما تقول: إن معدلات الجريمة وحتى محاولات الانتحار طبيعية وليست «ظاهرة» باعتبار أن الدول الأخرى تسجل حالات أكثر، لكن المراكز الحقوقية ترى أن ما يجري خطير للغاية ومؤشر على واقع صعب في القطاع.
وقال الناطق باسم الشرطة أيمن البطنيجي في حديث مع «الشرق الأوسط»: «ليست ظاهرة، في دول أخرى المعدلات مرتفعة للغاية».
وبحسب متابعات الشرطة، فإن غالبية من يقدمون على الانتحار أو المحاولة، يعانون من مشاكل عائلية وضغوط اقتصادية وظروف خاصة مختلفة.
وعلى الرغم من أن القانون يجرم محاولات الانتحار ويعاقب عليها، فإن الأجهزة الأمنية في غزة تعمل بروح القانون، وفق البطنيجي، بسبب ما وصفه بـ«ظروف الناس» مضيفا: «نفضل تقديم العلاج لهم ولقضاياهم بدلا من معاقبتهم قانونيا».
ويرى البطنيجي أن الصدى الذي تحدثه محاولات الانتحار بغزة: «نابع من أننا نعيش في مجتمع محافظ تزعجه مثل هذه القضايا ويتألم لما وقع به قاتل نفسه». مشيرا إلى أهمية تحرك المؤسسات غير الحكومية في ضرورة توفير العلاج النفسي وتنفيذ جلسات إرشادية لتوعية الناس، والاطلاع على ظروفهم ومحاولة علاجها بكافة الطرق الممكنة.
ولكن مع كل هذا الجهد المبذول، تبقى الأرقام مقلقة. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، سجلت حالتا انتحار إحداهما لفتاة، في حين سجل منذ بداية فبراير (شباط) 6 حالات انتحار منها واحدة لفتاة ألقت بنفسها من مكان مرتفع في مدينة غزة، ومن بينها 4 حالات وقعت في غضون 3 أيام، إحداها لشخص أحرق نفسه واثنان أقدما على شنق نفسيهما ورابع ألقى بنفسه من مكان مرتفع، والحالات الثلاث وقعت في أيام (10 - 11 - 12) من الشهر نفسه، في منطقة خانيونس، والرابعة في رفح جنوب قطاع غزة.
وقال المختص النفسي والاجتماعي الدكتور فضل أبو هين، لـ«الشرق الأوسط» «إن حالات الانتحار تنم عن حالة اكتئاب يُصاب بها الفرد نتيجة ظروف حياتية قاسية يمر بها تدفعه إلى إنهاء حياته بطريقة يحرمها الدين ويجرمها المجتمع والقانون فيما يرى المنتحر نفسه بأنه أقدم على الفعل للتخلص مما لا يتحمله من أعباء كبيرة».
وأشار أبو هين إلى أن معدلات الانتحار في الأراضي الفلسطينية ليست بجديدة ولا يمكن مقارنتها بما يحصل في المجتمعات العربية والغربية، لكنه يركز على الأسباب؛ «ومعظمها يعود لأسباب اقتصادية في ظل انغلاق الأفق السياسي وإغلاق المعابر وما خلفته الحروب من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على حياة الفلسطينيين في قطاع غزة».
ويرى أبو هين أن الحصار يولد حالات انتحار، مشيرا إلى حجم ظاهرة هجرة الشبان قبل أحكام إغلاق المنافذ، باعتبار ذلك بديلا محتملا للانتحار كإحدى المشاكل الاجتماعية التي يخلفها الواقع الحالي.
وقال أبو هين مجددا: «الأسباب هي المختلفة». وأضاف: «الانتحار هنا يأتي لأسباب مختلفة عنها في المجتمعات الأخرى، المعاناة والإحباط الشديد وغياب الأفق لمستقبل واضح، مع استمرار انغلاق الأفق السياسي الذي يؤثر على حالة المجتمع بشكل عام، أسباب رئيسية في حالات الانتحار في فلسطين».
ويفسر بالقول: «الأسرة الفلسطينية تنتظر من ابنها أن يبحث عن مستقبله ويبدأ بتأسيس عائلته الخاصة ويعمل على إعالة عائلته الجديدة وكذلك أسرته المكونة من والديه وأشقائه، ولكن كثيرا ما يصطدم الشبان بواقع اقتصادي وسياسي مأساوي يجعله عاجزا عن تقديم الحلول لأسرته فيصبح إرهاقا إضافيا لتلك الأسرة المرهقة بالأساس ويصبح مطالبا بالخروج للبحث عن عمل ويُنظر إليه في الكثير من الأحيان بنظرة التبخيس به وبقدرته والتقليل من شأنه وكل ذلك يؤدي إلى تراكم الوضع النفسي على الشاب ويغلق أمامه أفق الحياة فيفكر بالانتحار ويفعلها».
ويعيش المواطن في غزة إضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة، ظروفا حياتية صعبه كذلك.
ويمكن القول إن أهل غزة جربوا كل أشكال الحياة البدائية، تحت «الحصار»، بلا كهرباء ولا وقود ولا ماء.
وتغط غزة طيلة 18 ساعة في اليوم في ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما أدى إلى كوارث «ارتدادية»، مثل توقف المضخات عن ضخ كميات المياه اللازمة للسكان، والمعاناة التي تلاقيها غرف عمليات المستشفيات، ناهيك على انقطاعات متكررة في الغاز والوقود.
كما يعاني الغزيون من ضغط متعلق بالحريات العامة.
ووضعت الحركة الإسلامية في أوقات مختلفة قوانين صارمة تتعلق بالتنزه على شاطئ البحر والسماح للنساء بتعاطي النرجيلة في المطاعم العامة، وطريقة عرض البضائع في المحلات، وتدخلوا في أحيان مختلفة بطريقة قصة الشعر وارتداء الملابس، وهو ما أثار الجدل داخل حماس نفسها.
ويربط الكثير من المراقبين حالات الانتحار بالواقعين السياسي والحياتي، بما في ذلك القوانين الصارمة وتراجع الوضع الاقتصادي، وانتشار البطالة وارتفاع نسبة الفقر.
وشهدت نسب البطالة وحدها ارتفاعا كبيرا وصل إلى نحو 80 في المائة. وفق إحصائيات الهيئة الشعبية لمواجهة الحصار.
وقال المواطن أبو خميس نصر الدين، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، لـ«الشرق الأوسط»: «الحياة هنا صعبة».
ويملك نصر الدين، ورشة صغيرة لأعمال «النجارة» ولكن انقطاع الكهرباء لأكثر من 10 ساعات يوميا يضاعف من الأزمات له في عمله ومواعيده.
وقال نصر الدين «يكفيك أزمة الكهرباء، وهذه تترافق مع أزمات كثيرة بالأساس منها عدم توفر الخشب اللازم لتفصيل غرف النوم أو غيره من الأثاث إلا بأسعار عالية».
ولفت إلى أنه يضطر لشراء الوقود لتشغيل مولد الكهرباء بأسعار عالية كذلك. وقال: «نضطر لأن ندفع أكثر في الخشب، ونحو 30 شيقلا كل يومين، أي ما يعادل نحو (8 دولارات) ثمن وقود بدل كهرباء، ولا يبقى لنا إلا القليل».
وتابع: «نحن نعيش حياة مأساوية جدا، لا كهرباء جيدة ولا مياه صالحة، والحروب تلاحقنا والحصار والانقسام يدمران حياتنا الاجتماعية قبل الاقتصادية، السياسة تنخر في عظام كل منزل بغزة وتنهكه كثيرا».
وبفعل الحصار الموجود على غزة تعاني المصانع وورش العمل بسبب فرض إسرائيل رقابة عالية على البضائع التي تدخل إلى القطاع خشية أن يستفيد منها عناصر حماس المسلحون.
وبعض البضائع ممنوعة أصلا من الدخول كونها تدخل في صناعة السلاح أو بناء الأنفاق.
ولا يأمل الكثير من الغزيين في حل سريع لهذه الأزمات رغم الحديث عن حوارات جادة حصلت مؤخرا بالدوحة لإنهاء الانقسام. والتشاؤم هو السائد بين سكان القطاع، ما يعني بالنسبة لهم مزيدا من تدهور الأوضاع الحياتية.
والمصالحة التي يتطلع لها الغزيون تعني بالنسبة لهم فك الحصار وفتح المعابر (أي التغيير الجذري في الحياة) التي قالت إحصائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إنها تتسم بإضرابات نفسية واجتماعية.
وبحسب تقرير إحصائي لـ«الأونروا» فإن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في غزة، والبالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية. مشيرة إلى أن الحصار المفروض على القطاع، لا يؤثر فقط في النواحي البدنية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، لكن يعرضهم أيضا لمستويات عالية من الضغط النفسي والاجتماعي.
وفعلت «الأونروا» 21 مركزا تابعا للوكالة، لاستقبال اللاجئين الذين ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية في القطاع، وبدأت بتشغيل 31 مشروعا تجريبيا من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن خدمات الرعاية الصحية.
وحول تلك الحلول المبتكرة التي يمكن أن تسهم في التقليل من محاولات انتحار الشبان (وهم الفئة الأكبر من المقدمين على الانتحار بغزة)، يرى المختص النفسي والاجتماعي أبو هين أن المشاكل الحالية في قطاع غزة والتي تسهم بتفكير الشبان بالخلاص من الأعباء الملقاة عليهم بالانتحار أكبر بكثير من قدرة المؤسسات الدولية أو المحلية ومؤسسات الصحة النفسية لإيجاد حلول عامة لها. مضيفا: «قدرة المؤسسات تكمن في إيجاد حلول لمشاكل محددة وليس مشاكل عامة يتأثر بها غالبية الفلسطينيين في غزة».
ورأى أبو هين أن «الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأولى عن واقع الحال في الأراضي الفلسطينية وأنه يعمل منذ زمن طويل على خلخلة المجتمع، لكنه استدرك أهمية تحميل المسؤولية للساسة في فلسطين وأصحاب الانقسام. كما وصفهم. مشددا على أنهم هم من أوجدوا الحالة القائمة.
وأضاف: «لو أن الحياة سهلة كما قبل والمعابر مفتوحة وفرص العمل متوفرة، فلماذا ينتحر الشبان؟».
ويبقى هذا السؤل معلقا برسم إجابة الحكام في القطاع والضفة.



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».