جبال جنوب غربي السعودية «ما بعد الصورة»

في معرض مشترك.. السعودي يحيى أمقاسم واللبناني زياد عنتر يستعيدان سيرة الضوء

جبال جنوب غربي السعودية «ما بعد الصورة»
TT

جبال جنوب غربي السعودية «ما بعد الصورة»

جبال جنوب غربي السعودية «ما بعد الصورة»

من تنظيم هانس أولريخ أوبريست والكاتبة اللبنانية منال خضر، يقوم مركز المعارض في بيروت، مساء غد، بافتتاح معرض «ما بعد الصورة» الذي يقدم في المصور اللبناني زياد عنتر رؤيته لأبعاد تلك الحكايات العميقة في التاريخ والحاضرة في الدراسات والبحوث، وأبرزها ما قدمه المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي، حول تاريخ الأنبياء ووجودهم على أرض جنوب شبه الجزيرة العربية، فيستعيد عنتر مع الروائي السعودي يحيى أمقاسم شيئًا من حمولة تلك الأزمنة على جبال السروات، أو مرتفعات «ساق الغراب» كما قدمها أمقاسم في جزء أول من مشروعه الروائي «ساق الغراب».
وكان عنتر قد بدأ مشروعه في مطلع 2010، مستلهمًا الذخيرة الزمانية لعدة أماكن تحتفظ بمكونات شبه صريحة وحاضرة في الذاكرة «الزمكانية»، وانطلق الفنان من تشعبات الكتاب المقدس ومن أسفاره المختلفة بداية بسفر التكوين ويتطوف بكاميراته في موجبات الجمال للمكان، ما دفعه الأمر لزيارة تلك المناطق من جنوب غربي السعودية، وهو يستنجد بالحكايات الشفوية وبما بالمحفوظ كتابيًا أو تم تناوله بالحث والدراسة، كما الحال في أعمال الاستقصاء التي قام به المؤرخ صليبي أو الباحث العراقي فاضل الربيعي.
وهذا المعرض لا يقوم بمحاولة التوثيق ولا السعي إلى إثبات صحة ما طرح من نظريات حول ذلك المكان، بل إنّ هذا العمل ينظر إلى طبيعة الأسطورة على أنها سردية تاريخية محتملة يؤخذ منها جمالها بقدر ما قبضت عليه الكاميرا واستحالته إلى صورة، أو ما أتى موازيًا للحكاية من كتابات أمقاسم.
وقد تمحور عمل عنتر من حيث التصوير، في الوسيط وضوابطه وحدوده. فكيف للكاميرا أن توثّق السرديات التاريخية؟ ما هي الحدود التي تواجهها آلة التصوير عند التقاط الآثار، سواء أكانت تاريخية أو خلافه؟ هل يمكن لهذه الآثار غير الموجودة أن تتجلى أمام العين المجرّدة أو عدسة الكاميرا؟
ولا شكّ في أنّ زياد يتيح للوسيلة أن تلتقط تجسيدًا فوريًا لأفكاره، وذلك على الرغم من تواضع الوسائل التي يستخدمها للتعاطي مع مواضيعه والضوابط التقنية التي يربط نفسه بها. وكما سبق له أن بادر في مجموعته السابقة، تحت عنوان «منتهي الصلاحية»، إلى استخدام 1976 فيلمًا بالأسود والبيض منتهية الصلاحية، وها هو اليوم من جديد يساءل مفهوم التوثيق ودور الأرشيف. وفي هذا المعرض يختار العمل مع كاميرا دون عدسة لاختبار التحوّل في النور، وأثمرت هذه التجربة مجموعة من الصور التي تتسم بألوان شاعرية ومزايا متنوّعة. صور لا يدري المرء أنّ التقطها في عسير أو في حقول الزيتون في صيدا حيث مسقط رأسه. ويتميّز التصوير بالتقاط النور وعلى نحو لا يمكن النفاذ إليها إلا من خلال التجربة الحسيّة، أي اللون، وهي أقل درجة يمكن فيها اختبار الضوء، مجردًا من أي شكل.
وتجتهد كل الأعمال المعروضة على مساءلة مفهوم الحقيقة الواحدة من خلال إبراز التباين ضمن الضوء، وهي ظاهرة مادية ملموسة، واللون بحد ذاته، بصفته إحساسا فرديًا شخصانيًا. وبهذا المعنى، تلتقط صورة عنتر استحالة النفاذ إلى ما كان.
وتضافرت تلك الصور مع قلم الروائي يحيى أمقاسم الذي قدم كتابات تتماهى مع تلك السرديات التي تقدم الممثليات الكبرى «اليهودية، المسيحية، الإسلام» في حكايات متوافقة الشخصيات حينًا ومتجانسة التخيل في أحيان كثيرة، إذ اعتمدت تلك الكتابات على الإشراقات من خلال نصوص الكتب السماوية، بصفتها المورد الأول للسجل المكتوب، مع تواتر الحكايات الشعبية والأساطير الممتدة بعمر تلك الأمكنة الزاخرة بالشواهد والعلامات التي أنتجت تاريخًا جادًا في الحضور واستقلال ملامحه وتأكيد إشاراته حول حقب النبوات والمعجزات والحراك البشري في بداياته. وتسعى كتابات أمقاسم إلى التقاط الطبيعة المتنامية للسرديات التي يمكن أن تلتقط التفاصيل أو تفقدها من خلال الزمان والمكان، وهو عبر نسخته «صورة في العرش» الملتصق بصور عنتر، يقدّم أمقاسم منظورًا خاصًا وليس دليلاً، على الإطلاق.
وعن المساهمين في هذا المعرض يذكر أن زياد عنتر، من مواليد صيدا، بلبنان، فنان لبناني في مجال التصوير الفوتوغرافي والفيديو، درس الهندسة الزراعية في الجامعة الأميركية في بيروت، وأقام معارض في قصر طوكيو في باريس وحاصل على شهادة من المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس. وقد تمّ عرض أعمال عنتر في كثير من المجموعات العامة مثل مركز جورج بومبيدو في فرنسا، والمتحف البريطاني في المملكة المتحدة، أم الكاتب يحيى أمقاسم، مواليد الحسيني جنوب غربي السعودي، صاحب رواية «ساق الغراب»، وتم اختياره من قبل مشروع بيروت 39 كواحد من أفضل المؤلفين الشباب من العالم العربي 2009م، وعمل لسنوات تسع في السلك الدبلوماسي في كل من باريس وبيروت، أما هانس أولريخ أوبريست هو المدير الشريك في معرض سربانتاين في لندن، وقد شغل منصب القيّم على متحف الفن المعاصر في مدينة باريس. وتولّى مسؤولية أكثر من 250 عرضًا منذ عرضه الأول «حساء العالم» (معرض المطبخ) «World Soup» «The Kitchen Show» في عام 1991. وتتضمّن منشورات أوبريست الأخيرة: حياة الفنانين، حياة المهندسين، طرق القيّمية على المعارض الفنية، تاريخ مختصر لقيّمية المتاحف، خذوا المبادرة: المختصر المفيد، وعصر الزلازل بالاشتراك مع دوغلاس كوبلاند وشومون باسار. ومنال خضر هي كاتبة ومحرّرة وممثّلة مستقرة في بيروت. وهي واحدة من مؤسسي نشرة «كلمن» الفصلية الثقافية، وكانت تساهم في تحريرها منذ عام 2010 وحتى عام 2015. وفي العام 2015 أسهمت كتابةً وتمثيلاً مع ربيع مروة في مسرحية تحت عنوان «تحية إلى الفرح» «Ode to Joy». فيما ياسمينا جريصاتي تحمل دكتوراه في الفلسفة والعلوم الإدراكيّة، وتستلهم أبحاثها من العلاقة بين الثقافة والإدراكيّات مع التركيز على الإدراك. وهي متخصّصة تحديدًا في تصنيف الألوان على واجهة اللغة والإدراك، وتشغل منصب محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)