{ماكوكو} حي عشوائي أغرقته مياه نيجيريا

مجتمع عائم لجأ سكانه إلى صيد السمك

طفل من سكان الحي العائم يتنقل من بيت صفيح إلى آخر بواسطة سطل (غيتي)
طفل من سكان الحي العائم يتنقل من بيت صفيح إلى آخر بواسطة سطل (غيتي)
TT

{ماكوكو} حي عشوائي أغرقته مياه نيجيريا

طفل من سكان الحي العائم يتنقل من بيت صفيح إلى آخر بواسطة سطل (غيتي)
طفل من سكان الحي العائم يتنقل من بيت صفيح إلى آخر بواسطة سطل (غيتي)

يعد حي ماكوكو من أسوأ كوابيس الحكومة النيجيرية. ففي الوقت الذي تسعى فيه لاغوس، قلب الاقتصاد النيجيري يسكنها عشرون مليون نسمة، أن تصبح وجهة للحضارة والأبنية الحديثة، تشوهها مدينة الصفيح ماكوكو. إذ يعيش في هذا الحي الشعبي مئات آلاف السكان بلا مياه ولا كهرباء، والسلطات لا تتصور إعادة تخطيط مدينة لاغوس إلا بالتخلص من ماكوكو.
وأي شخص يسافر إلى لاغوس لمتابعة الأعمال التجارية في الجزر من المحتمل له أن يجد نفسه مارا فوق جسر البر الرئيسي الثالث. وبالنسبة للمدينة التي تتطلع لإعادة تعريف نفسها وتجديد خبراتها، تعد ماكوكو من الإعلانات الواقعية الحية ذات الأثر السيئ للغاية، وتدرك الحكومة ذلك تماما. ولذلك فهي حريصة من أي وقت مضى على مواصلة تنفيذ الحل الأسهل كما يبدو لمثل هذا الحرج العشوائي القائم.
ليست ماكوكو مثل غيرها من الأحياء الفقيرة الموجودة في أفريقيا، إذ تحولت إلى مدينة كبرى عائمة فوق المياه، يصفها البعض بأنها «فينيسيا أفريقيا». ولكن بناء تلك المدينة على المياه ليس من قبيل الرفاهية أو الفخر، لكن طبيعة التربة المليئة بالمياه الجوفية هي التي أجبرت المسؤولين على اللجوء إلى هذا الخيار.
ويكشف تحقيق مطول نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية، أمس، عن خفايا ومشكلات ذلك الحي العائم. وبحسب التحقيق، نشأ الحي العشوائي بوصفه قرية للصيد في أواخر القرن التاسع عشر، على يد المهاجرين من جماعة إيغون العرقية. ومع التضخم السكاني الذي ضرب المكان وتآكل الرقعة البرية، توجه السكان نحو المياه. واليوم، يعد حي ماكوكو هو مأوى الناس من مختلف المجتمعات النهرية المتنوعة على طول ساحل نيجيريا.
والمنطقة المعروفة للغرباء باسم ماكوكو هي في واقع الأمر ست قرى مختلفة ومنتشرة عبر مساحات من الأرض والمياه، وهي: أوكواغبون، وادوغبو، وميغبيوهي، ويانشيوهي، وسوغونرو، وأبوللو. وتعد القرى الأربع الأولى هي المجتمعات المائية، والمعروفة محليا باسم «ماكوكو العائمة»، في حين أن القريتين الأخريين تستقران على اليابسة.
والتسمية المستخدمة من قبل حكومة ولاية لاغوس والمنظمات غير الحكومية للمنطقة بأسرها هي «جبهة ماكوكو لوايا المائية». ويتحد الجانبان معًا من خلال المياه، التي يعتمد السكان عليها في حياتهم ومعيشتهم، بالإضافة إلى لغة يوروبا، التي تعد من قبيل اللغات المشتركة في المستوطنة التي يتحدث سكانها كثير من اللغات مثل: الفرنسية، والإنجليزية، ولغة يوروبا، ولغة إيغون.
ويستطرد التقرير بالتعمق بالذكر أنه تختلف تقديرات عدد السكان على نطاق كبير، من أربعين ألفا حتى ما يقترب من 300 ألف مواطن. ولا يعرف أحد الرقم الحقيقي على وجه الدقة، وليست هناك بيانات «موثوقة» ومتوافرة. ومن الأعاجيب كذلك بالنسبة للمجتمع المزدحم الذي يعيش على بحيرة غير نظيفة، فإن أكبر التحديات الصحية في ماكوكو ليست من الأمراض المعدية مثل الكوليرا، لكن من أمراض الجهاز التنفسي وسوء التغذية. كما أن الولادة تعد من التحديات الكبرى في ظل غياب رعاية ما قبل الولادة.
ومع ذلك يُشعرك السكان أنهم لديهم مناعة بقدر ما ضد تفشي الأوبئة بينهم. وفي أعقاب الوضع الحالي للحي الشعبي العائم، تتقدم ثلاثة خيارات ممكنة بالنسبة لمستقبل ماكوكو. أولها الانتقال نحو الشرق إلى منطقة باديا الشرقية التي تقع على المرتفعات العالية، أو إلى شاطئ بار، وهو موقع ضخم لاستصلاح الأراضي الذي يعمل على تحويل تسعة كيلومترات مربعة من المحيط الأطلسي إلى ما يسميه المطورون «مانهاتن غرب أفريقيا».

، وتعني المدينة السكنية والتجارية الصغيرة التي تسمى «إيكو أتلانتيك». تفتقر ولاية لاغوس إلى التوسع العمراني بسبب قلة الأراضي، لكن يوجد فيها كثير من المطورين العقاريين، فإذا ما غرق حي ماكوكو في مكانه أو (سحقه بطريقة ما)، فسوف تنشأ مكانه مبان سكنية وفيلات لا يقدر على ثمنها إلا حفنة صغيرة من الأثرياء في لاغوس. أما الخيار الثاني هو تخلي الحكومة المحلية عن هاجس التدمير والتركيز بدلا منه على توفير البنية التحتية التي ينتظرها المواطنون من الحكومة - وهي المستشفيات، والمدارس، والكهرباء - والسماح لماكوكو بالتطور بالطريقة التي تناسب السكان وبالوتيرة المناسبة كذلك، كما يوصي نويفيرت.
والخيار الثالث هو مفترق طرق من الخيارات: تنفيذ خطة التجديد، والحل الوسط التعاوني ما بين السكان ومنظمات المجتمع المدني والحكومة. تعد المدرسة العائمة من المحفزات القوية هنا: فلقد بنيت باستخدام العمالة المحلية، وبالدعم المالي المقدم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ولقد رشحت لنيل جائزة أفضل التصميمات في متحف التصاميم للعام الحالي، ولقد تحولت إلى أكبر وأشهر المباني في ماكوكو بأسرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)