بالأقنعة والعباءات.. كرنفال البندقية ينعش المدينة العائمة

حفلات تنكرية داخل القصور على جانبي القناة الكبرى.. وحفلات موسيقية في الساحات

تتميز ساحة سان ماركو الشهيرة بوجود أهم مظاهر الإحتفالات خلال الكرنفال (رويترز)
تتميز ساحة سان ماركو الشهيرة بوجود أهم مظاهر الإحتفالات خلال الكرنفال (رويترز)
TT

بالأقنعة والعباءات.. كرنفال البندقية ينعش المدينة العائمة

تتميز ساحة سان ماركو الشهيرة بوجود أهم مظاهر الإحتفالات خلال الكرنفال (رويترز)
تتميز ساحة سان ماركو الشهيرة بوجود أهم مظاهر الإحتفالات خلال الكرنفال (رويترز)

تستمر في فينيسيا (البندقية) فعاليات الكرنفال السنوي الذي يملأ قنواتها وأزقتها التاريخية بالألوان والملابس المزركشة.. وبالطبع الأقنعة المختلفة الأشكال. لمن يطالع الصور المتتالية التي تظهر على الوكالات وعلى نشرات التلفزيون لا بد أن يشعر وكأن غلالة سحرية ألقيت على هذه المدينة الساحرة بطبعها، حيث امتلأت الطرقات بالرجال والنساء وهم يرتدون الملابس المزركشة والعباءات السوداء الفضفاضة والأقنعة الملونة التي تخفي شخصياتهم وتعيدهم للقرن الحادي عشر عندما بدأ تقليد الكرنفال.
المعروف أن الكرنفال الذي كان حسب الروايات التاريخية يتصف بالبذخ والإفراط في كل شيء، كان يعد بمثابة فرصة للارتواء من متع الحياة قبل بدء فترة الصوم التي تنتهي بعيد الفصح. وظلت البندقية تحتفل بكرنفالها ومباهجه لقرون حتى أوقفه المحتل الفرنسي في عام 1797، ولكن الاحتفال عاد مرة أخرى للمدينة العائمة في عام 1979 عندما قررت سلطات المدينة إعادته من أجل جذب السائحين في شهر الشتاء البارد والممطر. ويجب القول إن تلك الفكرة نجحت بشكل كبير، فهذا العام على سبيل المثال جذب الكرنفال الآلاف من السياح من جميع أنحاء العالم، وامتلأت الفنادق والمطاعم والساحات بالسياح حاملين كاميراتهم وهواتفهم الجوالة لتصوير كل مظاهر الاحتفال من مسيرات ومواكب بحرية وحفلات راقصة. وتنوعت الاحتفالات المتاحة للسائح، فهناك المسيرات والمواكب واستعراض الأزياء في الساحات، وهي كلها مفتوحة للجميع، ولكن لمن يستطيع الدفع هناك الحفلات الراقصة التي تحاكي أجواء البندقية في القرون الوسطى، حيث يرتدي الجميع أفخر الملابس التنكرية وأجمل الأقنعة.
ولكن الحياة الحديثة أحدثت تغييرات كثيرة على فعاليات وجماليات الكرنفال، فمعظم الأقنعة التي تباع في الساحات الكبرى مثل ساحة سان ماركو، وفي الأزقة الصغيرة التي تحيط به، كلها أو أغلبها يأتي من الصين، وإن كانت هناك بعض المحلات في البندقية تبيع الأقنعة المصنوعة محليا، إلا أن ذلك محدود وفي محال معينة وبأسعار مرتفعة. وبغض النظر عن الأسعار ففي نهاية المطاف ارتدى المحتفلون أقنعة مزركشة وعباءات فضفاضة (كان سكان المدينة قديما يستخدمونها للف أنفسهم في فصل الشتاء)، وإن كانت الإجراءات الأمنية هذا العام قد أطلت برأسها لتحرم المحتفلين من الأقنعة إذا حضر أفراد الشرطة في أماكن الاحتفالات وقاموا بتفتيش الحقائب وأقاموا نقاطا للتفتيش وطلبوا من السائحين رفع الأقنعة للتأكد من شخصياتهم. وكانت السلطات في فينيسيا قد كثفت من الإجراءات الأمنية بعد الأحداث الإرهابية في باريس وحوادث الاغتصاب ليلة رأس السنة في كولون بألمانيا. وتم إعداد خطة لفترة الكرنفال تتضمن انتشار عدد أكبر من رجال الشرطة من ضمنهم شرطة بملابس مدنية، غير أن السلطات رفضت اقتراحا بمنع ارتداء الأقنعة.
ويعد كرنفال البندقية («كارنافالي دي فينيزيا») من أقدم الكرنفالات في العالم حيث يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر، حيث يعد فترة من الإفراط في المتع استعداد للصوم لمدة أربعين يوما تنتهي بعيد الفصح. وكان السكان يشاركون في الاحتفالات بكل طبقاتهم، مستغلين وجود الأقنعة لإخفاء هويتهم، ويقال إن ذلك أيضًا كان وسيلة لتخفيف الضغوط التي يفرضها نظام المجتمع الطبقي وقتها.
وفي النسخ الحديثة من الكرنفال أصبحت الحفلات التنكرية تقام داخل القصور العريقة التي تصطف على جانبي القناة الكبرى، بينما تنظم الحفلات الموسيقية على أنغام الأوركسترا في الساحات «بيازا» إلى جانب أهم جوانب الكرنفال، وهو استعراض الغندولا، وخلال 17 يوما هي مدة الكرنفال تمتلئ طرقات المدينة الجميلة بالسياح الذين يفدون من إيطاليا ومن خارجها. من الفعاليات التي تميز الكرنفال مشهد «طيران الملك» وهي قفزة على حبال يقوم بها راقص أو لاعب سيرك محترف، هناك أيضًا موكب بعنوان «موكب اثنتي عشرة امرأة تدعى ماريا» الذي يحكي قصة إطلاق سراح 12 امرأة اختطفهن القراصنة.
وإلى جانب الحفلات والموسيقى تتميز أيام الكرنفال بطعم المخبوزات والحلوى التي تسمى «غالاني» وتصنع في فينيسيا فقط في هذه الفترة وتقدمها جميع محلات الحلوى في أنحاء المدينة. ويبرز من تلك المحلات «سالفا روزا»، وهو من أشهر محال الحلوى في فينيسيا منذ تأسيسه في عام 1870. وتصنع حلوى غالاني من طبقات من العجين التي تفرد ثم تكون كورا وتقلى في الزيت.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)