يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

النصيب الأكبر يذهب لـ«داعش» * فرقة أميركية تعثر على عبوات سلاح كيماوي بمنطقة جامع بورقيبة وداخل مجارير مجمع النخلات

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
TT

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

عامل النظافة الليبي، جبريل، البالغ من العمر 52 عاما، هو أول من وقعت عيناه على هذه السيارات الثلاث الغريبة.. غريبة لأن الرجال الخمسة الذين نزلوا منها في غبش الظلام، مثيرون للريبة. يرتدون على رؤوسهم أقنعة واقية من الغازات السامة، ويبدو أن لديهم جرأة كبيرة ولا يخشون أحدا في طرابلس المكدسة بالميليشيات المسلحة.
ومن وراء الضباب، في ساعات الفجر الأولى، قرب مجمع تحت الأرض مخصص لمجارير الصرف الصحي، ويعرف باسم مجمع النخلات، بمنطقة باب الحرية، بدأ جبريل يشير لزملائه الذين كانوا ينقلون أكياس القمامة إلى شاحنة البلدية في الزقاق الخلفي، وأمرهم بإشارات من يديه أن يتوقفوا وأن يلتزموا الصمت، بينما أخذ يتراجع خطوات إلى الوراء حتى اختبأ وراء الزاوية وأخذ يراقب ما يجري.
يبدو على السيارات الثلاث أنها مصفحة ومزودة بإمكانيات تقنية كبيرة. السيارة التي في الوسط لها باب خلفي مفتوح وتبدو من هناك أجهزة وأسلاك مربوطة بلوحة إلكترونية مضيئة. واتضح أن السيارتين الأخريين مخصصتان للحراسة، أو هذا ما فهمه جبريل، وهو يروي ما حدث للمحققين.
أحد الرجال الذين يرتدون الأقنعة الواقية، أتى بعتلة وبدأ مع اثنين آخرين في نزع الباب الإسمنتي الذي يغطي فوهة مجمع المجارير. واتصل عمال النظافة بنقطة أمنية تابعة لمنطقة النخلات، وبعد ساعات استيقظ قادة الميليشيات التي تحكم طرابلس على بلاغات من رجالهم بأن الأميركيين يفتشون في العاصمة عن غاز السارين القاتل.
ومنذ رحيل نظام معمر القذافي في خريف عام 2011، استولت كثير من الميليشيات المتطرفة على مخزون الدولة من غاز السارين الذي يستخدم في الحروب وهو غاز فتاك، مدمر وقاتل، ومحرم دوليا.
ورغم قول الأمم المتحدة في عام 2012 إنها أنهت مشكلة بقايا مخزون الغازات السامة، التي كانت موجودة في منطقة الجفرة في وسط البلاد، بالتعاون مع الحكومة الليبية في ذلك الوقت، إلا أن قادة من النظام الليبي السابق، كشفوا في الأعوام التالية عن وصول المتطرفين إلى بقايا أخرى كانت مخزنة في عدة مناطق متفرقة من البلاد.
وفي جولة أخيرة لـ«الشرق الأوسط» في عدة مناطق في ليبيا، أدلت مصادر أمنية وأخرى مقربة من قادة المتطرفين، بمعلومات عن الأماكن المحتملة لوجود غاز السارين في هذا البلد الصحراوي شاسع المساحة، وقدمت أيضًا تفاصيل عن بعض القيادات التي تمتلك بالفعل براميل تحتوي على غاز السارين في طرابلس، بمن فيهم قيادات في تنظيم داعش، وصفقات بيع وشراء لهذا الغاز، مشيرة إلى أنه، منذ الأيام الأخيرة من الشهر الماضي والأيام الأولى من هذا الشهر، أصبح هناك تنافس محموم بين الجانب الأميركي والجانب الروسي للوصول إلى أماكن غاز السارين في ليبيا.
واقعة عامل النظافة جبريل جرت في منتصف الشهر الحالي. وبعد نحو عشرين دقيقة من إبلاغه عن الرجال المقنعين، وصلت دورية تابعة للبلدية وجاء اثنان من رجال الأمن من نقطة النخلات، ثم جاءت سيارات تابعة لجهاز المخابرات الليبي الذي يدير الأمور في طرابلس، وهو جهاز ضعيف الإمكانيات أمام سطوة قوات الميليشيات في العاصمة. ارتفعت الأصوات، وبدأ الزعيق باللغة الإنجليزية واللغة العربية، بينما كان الباب الإسمنتي الكبير لمجمع المجارير مفتوحًا في الأرض.
وتبين وجود دليلين ليبيين مع العناصر الأميركية، ولكي يثبت هؤلاء صدق ما يتحدثون عنه بشأن مهمتهم والجهات التي تنسق معهم في طرابلس حول موضوع الغاز، قام أحدهم بالاتصال بقيادي ليبي في العاصمة. أيقظه من النوم وتحدث بدوره مع رجال المخابرات. وبعد ساعة ساد الهدوء والتفت عناصر من جهاز المخابرات الليبية، حول الأميركيين وأجهزة رصد غاز السارين التي معهم. نزل اثنان من الأميركيين المقنعين داخل فوهة المجارير، وخرج بأول عبوة من غاز السارين.
ووفقًا لأوراق تحقيقات حول هذا الموضوع ومصادر أمنية في طرابلس، فقد ذكر الأميركيون، وهم يشربون الشاي مع أحد قيادات المخابرات في العاصمة، أن كمية الغاز في العبوات التي عثروا عليها في مجمع مجارير الصرف في منطقة النخلات، كانت كفيلة بالقضاء على المنطقة كلها بمن فيها من سكان. وتبين أيضًا أن جهاز مخابرات طرابلس لم يكن على علم بقصة وجود الفرقة الأميركية المختصة بالبحث عن الغاز السام.
وأمضى الأميركيون نصف ما تبقى من النهار في شرح أهمية ما يقومون به، وأنه لا علاقة لهم بأي ترتيبات أمنية أو سياسية في العاصمة، وليس من مهامهم ملاحقة الشخصيات التي تحوم حولها شبهات التورط في أعمال إرهابية. وقبل أن يغادر مع زملائه لمواصلة البحث عن «أي آثار لأسلحة كيماوية»، قال أحد العناصر الأميركية وهو يضع القناع تحت إبطه: اطمئنوا لكن ابتعدوا عن الموضوع، لأنه خطير، ويحتاج إلى الهدوء في التعامل معه.
وعلى خلاف المعاملات الوحشية التي تقوم بها عناصر الميليشيات ضد الخصوم، تحظى الفرق الأميركية الصغيرة التي وصلت إلى طرابلس خلال الأسابيع الأخيرة، بمعاملة خاصة «واحترام كبير» وهي تنتشر ويزيد عددها بمرور الأيام في عدة مواقع، انطلاقًا من منطقة جنزور ومجمع الفروسية ومنطقة بدر. ويقول أحد القيادات الليبية معلقًا في تهكم «البلد بلدهم».
ويقول قيادي آخر مطلوب القبض عليه من عدة دول أوروبية لاتهامات تخص ضلوعه في منظمة لتهريب المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر المتوسط: «أنام وكأني في واشنطن. كلما سمعت حركة أقول ستأتي القوات وتقبض علي. أقصد طبعًا قوات أميركية». بيد أن الفرقة الأميركية التي عثرت على عبوات السارين قرب منطقة النخلات، تتحرك وهي ملتزمة بما تفعل، على ما يبدو، أي البحث عن الغاز لا أكثر. أو كما أفاد مصدر أمني ليبي: «قالوا لا علاقة لنا بالأشخاص».
بعد ليلتين من الحديث عن الأميركيين، ونياتهم، رن جرس الهاتف تحت الوسادة. ماذا؟ لقد توقفت الفرقة الأميركية أمام جامع بورقيبة الذي يقع في وسط العاصمة. الأجهزة رصدت شيئا ما هناك. وبحسب ما توفر من تفاصيل عن هذه العملية، فقد اكتشفت الفرقة كمية ثانية من غاز السارين من خلال آثار لتسرب للغاز في محطة جامع بورقيبة، لكنهم لم يعثروا على الكمية كلها. عثروا على بعض العبوات، إلا أن المكان يبدو أنه كان يحتوي على عبوات أكثر، وللأسف لم تعد موجودة.
في أحد المعاقل المؤمنة التي يلتقي فيها زعماء الميليشيات في الضاحية الجنوبية من العاصمة، قرب طريق المطار الطويل، أي مطار طرابلس المحترق، دار نقاش بين قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة وزميل له من زعماء جماعة الإخوان المسلمين في المدينة، حول موضوع الأميركيين. الأول يلقب بـ«أبو حازم»، والإخواني الذي يعمل تحت ستار مجموعة سياسية يسمونه «سي الحاج محمد». جرى اللقاء منذ نحو عشرة أيام، أي عقب واقعة الغاز في باب الحرية وجامع بورقيبة.
قال أبو حازم: «توجد تحركات غير طيبة تقوم بها فرقة أميركية في طرابلس، وقيل إن هذه الفرقة اكتشفت غاز السارين وسط طرابلس، وإنها تستهدف قيادات من المؤتمر الوطني (أي البرلمان المنتهية ولايته) والثوار». فرد «سي الحاج»: «سمعت شيئًا مثل هذا، وتواصلت مع علي (شخص غير معروف لكن يبدو أن له اتصالات مع الجانب الأميركي)، وقال إن الأميركيين لديهم معلومات مؤكدة عن أسلحة كيماوية في طرابلس».
وتابع أبو حازم وكأنه يريد أن يدخل الطمأنينة على صاحبه في ليالي طرابلس المشحونة بالتربص والمؤامرات والخوف من المستقبل: «يا حاج لا تقلق.. الفرقة فرقة فنية لاكتشاف الأسلحة، وليس لها أي عمليات موجهة ضد أشخاص بعينهم، كما أن علي (الشخص المجهول المشار إليه) تواصل مع وزارة الدفاع الأميركية، وأكدوا له أن الغاية السلاح الكيماوي وليس الأشخاص. وقالوا له أيضًا إن الروس يريدون التدخل فسبقوهم، فقط ليس إلا».
ومن بين المقابلات التي جرت على عجل في العاصمة الليبية، فإنه توجد مؤشرات على أن بعض قيادات طرابلس تعمل مع الجانب الأميركي في مسألة تعقب غاز السارين وأي غازات حربية كيماوية أخرى، بينما توجد قيادات في منطقة الزنتان، تتواصل مع الجانب الروسي حول نفس الموضوع. الأجواء مشحونة بالغضب فيما يخص من يتواصل مع من في قضية الغاز، ومن يقدم تقارير عن من، ولأي جهة. الأميركان أم الروس. وتتهم قيادات في طرابلس أطرافا في الزنتان بأنها تقدم معلومات للروس تقول فيها إن فلانًا (قائد ميليشيا في طرابلس) جرب إطلاق قذائف من غاز السارين في منطقة صحراوية في الشهور الماضية.
ومع ذلك لم يظهر الروس في طرابلس. وعلى العكس.. زاد عدد الأميركيين. وفي الأسبوع الماضي حطت طائرة أميركية خاصة في مطار امعيتيقة الواقع قرب البحر من الناحية الشرقية من العاصمة، وعلى متنها 18 عنصرا أميركيا. ويقول مصدر أمني ليبي: «نعم.. نزلت بهم طائرة خاصة. أبلغنا بذلك مكتبنا في المطار. الطائرة قادمة بمعدات ومعها غرفة فنية متكاملة وأجهزة كشف متفجرات وإشعاعات. ودخلت هذه المعدات والتي كان معها صناديق خشبية، في مبنى بعيد عن مهبط الطائرات.. (صناديق خشبية بنية اللون مربوطة بشرائط معدنية)».
وفي المقابل يعمل قادة في الميليشيات على نقل الغاز الذي يبدو أنه تحت أيديهم من مكان إلى آخر. وبعض هذه الكميات تعرضت للسرقة، وأخرى للبيع لتنظيم داعش. والمشكلة تكمن في أن الكثير من العبوات بدأت تتآكل بسبب الصدأ، وتشكل خطورة خاصة في عمليات النقل. ومن أبرز الأسماء التي ارتبطت بغاز السارين في منطقتي طرابلس وغريان (غرب العاصمة)، وفقًا للتحقيقات التي تقوم بها أجهزة أمنية تعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، رجل يدعى رشد، من تنظيم «جند الحق» المتشدد، الذي يعرف أيضًا باسم تنظيم «جيل التوحيد».
ويعتقد أنه كان تحت يد رشيد كميات من الغاز الذي يطلق عليه أحيانا، في حديثه مع أعضاء التنظيم اسم «بضاعة الرابطة»، ويقول أحد المحققين إنه قام بنقل كمية بالفعل من غاز السارين الذي يسميه «بضاعة الرابطة» وأرسله إلى تنظيم داعش في سرت، بينما تعرضت كمية أخرى من الغاز، يطلق عليها «بضاعة قطيسة»، للسرقة من مخزن اسمه «الخزان»، ويقع في سوق الخميس بالعاصمة. وجلب رشيد الكمية الأخيرة التي اختفت، من مخزن في منطقة قطيسة التي تقع شمال غريان.
وعلى خلفية إرسال «بضاعة الرابطة» لدواعش سرت، وسرقة «بضاعة قطيسة» في طرابلس، نشبت خلافات بين قيادات من جماعة جند الحق وبعضهم بعضا، وخلافات أخرى بين هذه الجماعة وأطراف في الجماعة الليبية المقاتلة يعتقد أنها هي من سرقت «بضاعة قطيسة» وأعادت بيعها لزعيم «داعش» في غرب ليبيا المعروف باسم المدهوني.
وفي أحد الاجتماعات بدا قيادي في جند الحق يدعى السوكني، ساخطًا على تصرفات رشيد، وبالإضافة إلى توبيخه لتصرفه من رأسه في موضوع غاز السارين، ذكر أيضًا أنه، أي رشيد، أصبح في الشهور الأخيرة متهورا ونفذ أحكاما بالقصاص (الإعدام) بحق «أخوة لنا اتضح فيما بعد أنهم أبرياء».
ويبدو أن السوكني كان قد اتفق مع المدهوني على استخدام غاز السارين (بضاعة الرابطة) لتأمين منطقة تحمل الاسم نفسه (الرابطة) وتقع في الجنوب الأوسط من طرابلس. أما بضاعة قطيسة فقد جرت وقائع عملية سرقتها من مخزن سوق الخميس بطريقة مشبوهة وفيها قدر كبير من التآمر كما اتضح من المناقشات التي حدثت بين أبو حازم ورشد فيما بعد. ويشتبه أبو حازم في أن الحراس الذين كانوا على المخزن هم الذين سرقوه. فالاثنان على أية حال لم يصدقا رواية الحراس، خصوصا أن رشيد كشف لأول مرة لمحدثه أنه كان يخبئ أيضًا، مع عبوات غاز السارين، صندوقا يحوي سبائك ذهبية.
وتقول رواية حراس مخزن سوق الخميس إن لصوصًا في سيارات هجموا عليهم في المخزن وقاموا بتوثيقهم بالحبال، وسرقوا أسلحتهم، ثم أخذوا كل ما هو موجود في المخزن، ومضوا. ووفقًا للتحقيقات المبدئية التي أجرتها قيادات في الجماعة المقاتلة وعناصر من تنظيم جند الحق، في الواقعة، فإن أيا من حراس المخزن لم يصب بأذى «ولا خدش». ثم كيف تركهم اللصوص بهواتفهم المحمولة، دون أن يأخذوها منهم.
وبعد واقعة سرقة الغاز، ظهرت في الأسبوع الماضي صفقة أسلحة جديدة تتضمن غاز السارين موجهة للمدهوني زعيم «داعش»، من قيادي في ميليشيا أبو سليم، يدعى عبد الغني. وكانت كمية الغاز ضمن صفقة جديدة للسلاح يقوم عبد الغني ببيعها للمدهوني. وتقول التحقيقات إن هذه الصفقة التي تعد واحدة من صفقات كثيرة بين الرجلين، تتضمن عشرين صاروخا حراريا وعربتين محملتين بصواريخ غراد وذخيرة و«بضاعة ممتازة»، بالإضافة إلى غاز السارين. ورد عليه القيادي الداعشي قائلا: «نشتريها اليوم، قبل الغد».
تحركات عبوات غاز السارين في طرابلس أثارت حفيظة اثنين من قيادات الإخوان المسلمين في ليبيا، وهما يستعرضان تطورات المراقبة التي تقوم بها طائرات أجنبية في سماء طرابلس ومناطق أخرى من البلاد، خاصة سرت.
وتقول مصادر قريبة من المتطرفين إن القياديين الإخوانيين المشار إليهما، تحدثا في لقاء جرى بينهما منذ نحو أسبوع، عن رصد عمليات نقل للغاز إلى مناطق في غرب طرابلس أيضًا، وأن «الأوضاع ليست طيبة» وأن «هناك أطرافا روسية تجري تحقيقات عن تسرب شحنة من عبوات غاز السارين، إلى سوريا، عبر إحدى دول البحر المتوسط، وأنه جرى أيضًا رصد طائرات أميركية وفرنسية وهي تراقب مواقع لأسلحة للميليشيات في العاصمة. كما تحدثا عن قلق الأمم المتحدة من قضية غاز السارين نفسها.
واعترض محققون مختصون في طرابلس تقارير مرسلة لأحد أطراف جماعة الإخوان في مصراتة، من رجل يعمل في الغرفة الأمنية في العاصمة، قال فيها إن الجهات التي بدأت في تتبع أماكن غاز السارين في طرابلس، تجد صعوبة في تحديد مواقعها، بسبب السرعة في تغيير مخازنها من يوم إلى يوم.
ويبدو أن هذا الرجل كان ضمن فريق نجح في العام الماضي في تحديد أماكن كثير من مواقع تخزين عبوات غاز السارين، لكن لم يلتفت إليها أحد، بحسب قوله، وأضاف موضحًا في التقرير: «جف ريقنا ونحن نحذر، لكن كانوا (في سلطات طرابلس غير المعترف بها دوليا) حين يسمعون اسم غاز السارين لا يتحرك أحد. والآن تغيرت أماكنها ولا نعرف أين هي».
وتضمن التقرير الذي جرى اعتراضه بواسطة الأجهزة الأمنية، قول هذا الرجل للقيادي الإخواني في مصراتة: «تفاصيل قصة غاز السارين موجودة لدى فلان وفلان. وعدد أسماء لقادة ميليشيات تعمل في طرابلس وسرت ومدن أخرى، وهم: رشد، وأبو حازم، والمدهوني، وعبد الغني، ورجل اسمه الميرغني، وقيادي ليبي آخر يلقبونه بـ(أفغاني ترهونة)، وأبو عبيدة». وأضاف: هؤلاء هم رؤوس الغاز، وهم الذين وزعوه في طرابلس والزاوية. وعندهم في مخازنهم.
لكن ومع تنامي الضغوط الدولية للتدخل وكسر شوكة المتطرفين في ليبيا، دبت خلافات بين عدد من الأسماء التي يشتبه بأنها على علم بأماكن تخزين غاز السارين، ووصل الأمر إلى قيام البعض بسرقة ما لدى الآخر من عبوات فتاكة، والتسابق على حيازتها. وفي واقعة من هذه الوقائع، تبين من مصادر أمنية وأخرى على علاقة بنشاط المتطرفين، أنها جرت بالتنسيق بين المدعو عبد الغني، القيادي الميليشياوي المشار إليه، وآخر يسمى كريدان، القيادي فيما يعرف بسرايا ثوار سوق الخميس.
الاتفاق يتلخص في أن يتوجه كريدان، على وجه السرعة، لجلب كمية من غاز السارين مخبأة في منطقة «أرض الخرابة» قريبة من منزل عقيد سابق اسمه الفيتوري. ويبدو أن هذا العقيد لا علاقة له بالأمر. كان عبد الغني يريد الوصول إلى هذه الكمية قبل أن يصل إليها القيادي أبو حازم، حيث إن هذا الأخير كان قد تحرك بقوات للوصول إلى المكان نفسه لأخذ الكمية، لكن المسافة التي سيقطعها أطول من المسافة التي تفصل كريدان عن «أرض الخرابة». أبو حازم ما زال في منطقة الهضبة البعيدة، بينما كريدان كان في منطقة الفرناج القريبة من موقع الغاز.
لا توجد خريطة يمكن أن تصل عن طريقها إلى «أرض الخرابة». لا بد أن يصف لك أحد أبناء المنطقة كيفية الانتقال إلى هنا. عليك أولا أن تسلك الشارع (غير مرصوف ودون اسم) في اتجاه مبنى سجن الجديدة بحيث يكون المبنى على يمينك. ثم تواصل السير حتى تعثر على بداية الطريق المرصوف بالإسفلت، وهو موجود بعد السجن بمسافة قصيرة. وتظل تتقدم حتى تجد مجموعة من المنازل المتجاورة على اليمين.
ومن هنا تدخل أول زنقة على اليمين أيضًا، وبعد المنزل الثاني، وهو منزل العقيد الفيتوري، تجد قطعة «أرض الخرابة»، حيث يوجد وسط النفايات مجموعة من «البراميل الجرماني»، من بينها برميل لونه أزرق وعليه جمجمة بيضاء، فيه عبوات الغاز، وهو المطلوب. ووفقا لنص التحقيقات فقد طلب عبد الغني من كريدان أن يأخذ حذره مع مجموعته وهم ينقلون العبوات، لأنها متآكلة من الصدأ.
تشير التحقيقات أيضًا إلى أن كميات السارين التي تعرضت للسرقة من سوق الخميس ومن «أرض الخرابة»، وصل أغلبها في نهاية المطاف إلى معسكرات المدهوني الداعشية المنتشرة في طرابلس وحتى بلدة صبراتة غرب العاصمة، وذلك بالتزامن مع ازدياد قدرات التنظيم المتطرف وانتشاره واستقباله لعشرات القيادات من دول مختلفة، وتعامله بشكل مباشر مع الخليفة المزعوم في العراق والشام، أبو بكر البغدادي.
آخر الزيارات النادرة التي قام بها المدهوني، وهو ممتلئ بالثقة، كانت لقيادي داعشي مصري يلقب بـ«خضير» في طرابلس، وهو وفقا للمصادر من بين المتهمين بالضلوع في الهجوم على السفارة الإماراتية في ليبيا في يوليو (تموز) 2013. وكان سبب الزيارة مرض خضير بالكلي. وأثنى الرجل المريض على عمليات «داعش» التي أدت قبل ثلاثة أسابيع لحرق منشآت نفطية في رأس لانوف، في شرق ليبيا، فرد عليه المدهوني، بحسب وثائق أمنية: «إخوتنا قاموا بأعمال جليلة، سال لها دمع الخليفة فرحا وبشرى. نجح الأخوة في حرق أرزاق الخوارج (يقصد السلطات الشرعية في البلاد) ومصادر تموينهم».
ويتنقل المدهوني بين مقراته في عين زارة ومنطقة امعيتيقة (معسكرات تضم سجنًا أيضًا في الجانب الشرقي من العاصمة) ويقيم أحيانا في دار الحسبة التي تقع على شاطئ القرابولي على بحر طرابلس، ويتردد كذلك على معسكرات ومراكز تدريب داعشية أخرى أصبحت منتشرة في غرب المدينة وفي نقاط تمتد حتى قرب الحدود مع تونس.
وفي اليومين الماضيين رد المدهوني على عدد من قيادات الميليشيات التي انتقدته لشعورها بالقلق من تنامي نفوذه بشكل كبير وفي وقت قياسي، بقوله: «هذا ليس وقت المعارك الجانبية. نحن نعد لمعركة طرابلس الكبرى. وطلب من أنصاره شراء المزيد من الأسلحة والغاز، اليوم قبل بكرة».
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.