التردد على حقل تبستي النفطي، في جنوب شرقي صحراء سرت ليس سهلا. العمال والمهندسون يعتمدون على طائرات صغيرة لتجاوز النقاط التي يسيطر عليها تنظيم داعش في ليبيا. في يوم من الأيام جاء صوت من الحقل النفطي المجاور بعد أن سيطر عليه التنظيم المتطرف، عبر جهاز اللاسلكي إلى حقل تبستي الذي يبعد عنه نحو مائة كيلومتر: «الدولة الإسلامية سيطرت على الحقل. نحن في الطريق إليكم أيها المرتدّون».
حين بدأت خطة للإجلاء والهروب، كانت اثنتان من الطائرات الأربع، معطلتين وتحتاجان إلى صيانة. لا توجد سيارات. وانتشرت حالة من الهلع. واستغرق الأمر نصف نهار لكي يصلح المختصون مروحة في موتور الطائرة الأولى وترميم خرطوم البنزين في الطائرة الثانية.
رغم محاولات المجتمع الدولي وعدة أطراف ليبية وضع حد للفوضى التي تعاني منها البلاد، فإن التحديات تبدو أكبر من مجرد اللقاءات والحوارات والحلول السياسية. توجد قوات على الأرض تديرها جماعات مختلفة، يقدر عددها بمئات الجماعات. لكن الأمر الخطير الذي يمكن أن يدفع بالبلاد إلى مزيد من دوامة الحرب الأهلية يكمن في نحو خمسة تجمعات شبه عسكرية كبرى، تنتشر في مناطق جغرافية محددة في عموم البلاد، وتتميز بالدعم المالي والتسليح الجيد مع وجود أجهزة لدى كل منها مماثلة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية المعروفة في الدول. يمكن أن تقول إن كل مجموعة تشكل دويلة صغيرة لها قيادات وجنود وأهداف ليست محلية فقط، ولكنها عابرة للحدود أيضا.
وفي هذه الحلقات تسلط «الشرق الأوسط» الضوء على الفوضى التي ساعد على ظهورها واستمرارها أمراء حرب ولصوص وميليشيات وكتائب ظهرت من مختلف التوجهات، عقب رحيل نظام معمر القذافي، سواء في طرابلس أو مصراتة أو درنة أو سرت وبنغازي، إلى جانب الوضع البائس للجيش الوطني الليبي الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، إذ إنه يعاني من نقص في التسليح وفي العتاد وفي الجنود، خصوصا أمام جحافل المتطرفين المتحصنين في ثلاث ضواحٍ رئيسية في بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، وأمام قوى الميليشيات المسيطرة على العاصمة وعدة مدن أخرى.
هل سمعت عن «داعش» في سرت؟ نعم. لقد تمدد التنظيم في هذه المدينة، مسقط رأس القذافي، والمكان الذي قتل فيه أيضًا في خريف عام 2011. ظهر التنظيم الدموي هنا العام الماضي، وانطلق من هذه المدينة للسيطرة على الهلال النفطي. المشكلة لا تتعلق بتمركز «داعش» في سرت فقط، ولكن في العلاقات الخفية التي ظهرت في الشهور الثلاثة الماضية بين عناصر التنظيم وقوة شبه عسكرية تسيطر على مناطق في إجدابيا، وهي أول مدينة كبيرة تقع على بعد 400 كيلومتر شرق سرت.
هل تتذكر الاجتماعات التي كانت تعقد في إجدابيا للمطالبة بالحكم الفيدرالي في ليبيا، ومنح برقة، الإقليم الشرقي من البلاد، ما يشبه الحكم الذاتي؟ لقد ظهرت تلك الدعاوى بعد أن انشق آمر المنشآت النفطية بقواته في تلك المنطقة، ويدعى إبراهيم، عن الحكومة التي كانت ما زالت مركزية في العاصمة طرابلس برئاسة الدكتور علي زيدان. يزعم آمر هذه المنشآت أن لديه عشرين ألف مقاتل. وأغلق غالبية موانئ تصدير النفط بزعم أن جماعة الإخوان التي كانت تهيمن على حكومة زيدان تقوم بسرقة النفط لصالحها. وبعد أن صوت الناخبون الليبيون في صيف عام 2014 للبرلمان الجديد الخالي من الأغلبية الإخوانية، ورغم منح هذا البرلمان الثقة لحكومة عبد الله الثني غير الإخوانية أيضا، فإن معظم موانئ التصدير هناك ما زالت مغلقة.
الهجمات الخاطفة على حقل الغاني التي بدأت مطلع العام الماضي وما تلاها من هجمات على حقول نفطية أخرى صغيرة منتشرة في الهلال النفطي، حتى الآن، كانت تنذر بأن «داعش» ينتفخ ويدور ويكبر مثل العاصفة الرملية. قتل من قتل من مهندسين وموظفين ليبيين وعرب وأجانب، واستولى على سيارات ومعدات وأجهزة حواسب عليها معلومات مهمة، وسرق أجهزة الاتصالات (موجات البث بالراديو) التي يصل مدى الواحد منها إلى نحو ألف كيلومتر مربع. وكل من يجده من حراس المنشآت النفطية (الفرع التابع للجيش) يذبحه ثم يعلقه على الصواري، ويشعل النيران في الحقل ويمضي. وبعد ذلك وصل، كما شاهد العالم أخيرا، إلى ميناء رأس لانوف نفسه.
السؤال الذي ظهر بين المهندسين الليبيين المذعورين، عقب الهجوم الذي شنه «داعش» سرت على المنشآت النفطية وعلى ميناء رأس لانوف وحرق خزانات النفط فيه قبل أسبوعين، هو كالآتي: لماذا لم تقاوم القوات التي يزعم آمر المنشآت النفطية أنه يملكها في غرب إجدابيا الهجوم الداعشي؟ وأين قوات الجيش الوطني؟ الواقع على الأرض في تلك المنطقة، أي في مدينة إجدابيا وما حولها، يلخص كل شيء تقريبا. تنقسم المدينة إلى منطقتين للنفوذ. منطقة الشرق وتهيمن عليها قوات موالية للجيش الوطني. وغالبية المنخرطين في هذه القوات من قبيلة زوية. أما القسم الغربي من المدينة فتهيمن عليه قوات تابعة لآمر المنشآت النفطية الذي يبدو أنه مستمر في العمل لحسابه الخاص، وله تصريحات هجومية ضد الفريق أول حفتر. ويوجد نشاط في القسم الغربي أيضًا لتنظيم داعش، من خلال القيادي الداعشي المدعو أسامة، وهو شقيق إبراهيم، آمر المنشآت نفسه. وأكثر المنخرطين في القسم الغربي من المدينة ينتمون إلى قبيلة المغاربة. أما عميد بلدية إجدابيا فيدعى سالم، وهو الشقيق الثالث للأخوين الفيدرالي إبراهيم والداعشي أسامة.
ويقول أحد ضباط الأمن الليبيين إن القسم الغربي من إجدابيا يبدو تحت سيطرة خليط مبهم يضم دواعش وفيدراليين وأمراء نفط ولصوص ينهبون المعدات الحكومية والخاصة، أو من يطلق عليهم بعض المهندسين الذين فروا بأعجوبة من حقلي الغاني وتبستي «أشباح إجدابيا». وبعد هروب العمال من تبستي، كرر «داعش» الهجوم على مواقع أخرى. قام بتفجير الخط الطويل الذي ينقل الزيت النفطي الخام من حقلي البيضاء وتبستي، إلى الخزانات العملاقة في ميناءي الهروج والسدرة. وأخذت الفوضى تضرب المنطقة النفطية الشاسعة الممتدة من البريقة إلى سرت.
يوجد في ليبيا جهاز لحراسة المنشآت النفطية تابع للجيش، لكن توجد مخلفات تركتها أيام هيمنة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة على حكم ليبيا منذ رحيل القذافي وحتى منتصف عام 2014. ومن هذه المخلفات، الميليشيات الخاصة التي تقوم بحراسة المنشآت، مثل الميليشيا التي يترأسها إبراهيم في إجدابيا وكان يسعى من خلالها لفرض الحكم الفيدرالي في شرق البلاد. وهو موضوع يرفضه على ما يبدو غالبية الليبيين في الشرق، وبالتالي اختفت دعاوى الفيدرالية بينما أصبحت هذه الميليشيا تضغط للحصول على مكاسب، وتقيم علاقات غامضة مع باقي القوى بما في ذلك تنظيم داعش، كما يقول أحد ضباط الجيش الليبي في شرق إجدابيا.
ويضيف: «قوات إبراهيم موجودة في غرب إجدابيا، فلماذا لم تقف ضد (داعش)؟»، مشيرا إلى أن قوات «داعش» لم تهدأ طوال الأيام الماضية، وهي دائبة التحرك نهارا جهارا قرب المناطق النفطية في زلة ومرادة وحقل 103 وحقل المبروك وحقل تبستي وحقل الناقة وغيرها. وبينما كان «داعش» يشن هجماته على حقول النفط، كان القيادي الداعشي أسامة يأمر بإخلاء مستشفيات تقع في القسم الغربي من إجدابيا لعلاج جرحى التنظيم المتطرف سقطوا في ضربات بالطيران نفذها الجيش الليبي. وكان من بين الجرحى عناصر داعشية، ثلاثة تونسيين ومصريان وجزائري واحد.
ومن صفات الداعشي أسامة أنه صغير السن (أصغر من إبراهيم)، في العقد الثالث من العمر. وكان يعمل في الحرس الثوري، وهو من الأجهزة الأمنية التي كان يعتمد عليها القذافي في حكمه. ويقول أحد المقربين من هذا الشاب إنه أصبح قائدا ميدانيا لدواعش سرت وله لحية طويلة، ويقوم بين حين وآخر بزيارات لشقيقيه سواء آمر المنشآت المنشق، أو عميد بلدية إجدابيا. ويضيف أن علاقة الأشقاء بـ«داعش» أغضبت القبيلة التي ينتمون إليها، ولهذا عقدت اجتماعا لهذا الغرض، وأن أسامة وأخويه قالوا في الاجتماع إنهم لا علاقة لهم بـ«داعش» وأن أسامة لن يذهب إلى سرت مرة أخرى.
ويضيف قائد عسكري في شرق إجدابيا إن المدينة الآن منقسمة بين الدواعش والجيش. الجيش تحرك بعد أسبوعين من الاغتيالات التي قام بها المتطرفون ضد جنوده هناك، أما في الجهة الغربية حيث اتجاه سرت واتجاه الحقول النفطية فهذه المنطقة يسيطر عليها الدواعش. ولا توجد خطوط فاصلة بين جانبي المدينة. ولهذا تقع اشتباكات واغتيالات بين وقت وآخر. ويقول إن الآمر إبراهيم، حتى الآن، لا يظهر في الواجهة من هذا الصراع، بينما شقيقه أسامة ما زال يتردد على دواعش سرت.
حراسة المنشآت النفطية مثلها مثل بلدة إجدابيا، منقسمة بين موالاة الآمر إبراهيم وموالاة الجيش. وكل منهما يحصل على أجور من خزينة الدولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ويقول أحد المسؤولين المحليين: «رغم مشكلة (داعش) ورغم إصرار إبراهيم على إغلاق قواته لمرافئ التصدير المهمة التي تقع تحت يديه، فإن القضية الأساسية التي تؤخر حسم هذه المشكلة تكمن في انتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة لإبراهيم لقبيلة المغاربة، وانتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة للجيش لقبيلة زوية».
ويضيف: «تقيم هاتان القبيلتان في نطاق جغرافي متقارب، من أول إجدابيا ومنطقة شخرة، إلى جالوا وأوجلة وحتى الكفرة جنوبا.. وأي محاولة لحسم الانقسام بين حراسة المنشآت ربما سيؤدي إلى اقتتال قبلي، وهذا ما لا يريده الجيش.. منذ سنوات وهم يفاوضون إبراهيم من أجل فتح الحقول، سلميا ودون قتال، لكنه يرفض، وأخيرا بدأ يتحدى قيادة الجيش نفسه».
وحاولت «الشرق الأوسط» التواصل مع آمر المنشآت إلا أن الرد من مكتبه كان في كل مرة يقول إنه مسافر خارج البلاد. وتقول المصادر الأمنية في إجدابيا إن إبراهيم كان موجودا في تركيا أثناء هجوم «داعش» على ميناء السدرة وعلى الحقول النفطية في الأيام الأخيرة.
وبرز في منطقة الهلال النفطي قادة يقيمون في إجدابيا، ولديهم علاقات مع دول مختلفة، ويقوم بعضهم بزيارات بالطائرات إلى بلدان في المنطقة. وكان أحد هؤلاء القادة يدير قبل سقوط نظام القذافي محلا لألعاب الفيديو للصغار في إجدابيا. وأصبح اليوم يدير شركات وأموالا بملايين الدولارات، مع ممتلكات في لبنان واليونان، تتنوع ما بين مزارع التفاح والفيلات وشركات النفط.
ورصدت الجهات الأمنية الليبية قيام أحد القيادات المحلية التي تدير ميليشيا في إجدابيا، ولها علاقات مشبوهة مع دواعش سرت، بالشروع في بناء قصر ضخم يقع في القسم الغربي من المدينة.. «موجود في المدخل الغربي من إجدابيا، وفي نفس الوقت يطل على الطريق الصحراوي الجنوبي المتجه إلى طبرق.. مساحة القصر على أرض تزيد مساحتها على ألفي متر مربع، وتبلغ كلفة المنشآت المبدئية للقصر نحو مليوني دولار».
منذ أواخر عام 2014 ومرورا بعام 2015 لم تكن عشرات الحقول النفطية تعمل بكامل طاقتها، بسبب الخلافات السياسية وحروب الميليشيات، بل إن بعضها كان متوقفا عن الإنتاج، وظل يقيم فيه، مع ذلك، بعض الحراس وبعض المهندسين. لقد غادرها الغالبية العظمى من المختصين الأجانب خوفا من الفوضى، خصوصا بعد تمدد «داعش» في المنطقة. من بعيد، في الصحراء الواقعة جنوب خليج سرت، وبعد منطقة مرادة بقليل، توجد آثار سيارات الدفع الرباعي لمقاتلي «داعش» القادمين من دول عربية وأفريقية.
للوصول إلى قلب الهلال النفطي، من الشرق، وعن طريق البر، لا بد أن تخرج من إجدابيا وصولا إلى منطقة البريقة.. من هناك يوجد شارع يهبط جنوبا ويصل إلى واحة الكفرة، اسمه طريق 110. هذا الطريق لم يكن في الإمكان أن يسير فيه أحد إلا إذا كان معه تصريح، لأنه طريق خاص بحقول النفط. كان في أيام حكم القذافي مغلقا بالأسلاك الشائكة، وفيه حواجز للجيش. وبعد انتشار «داعش» في تلك المناطق جرى منع التردد على الحقول بالسيارات، والاكتفاء بالتنقل بالطائرات الصغيرة التي تحمل من ثمانية إلى عشرة أفراد.
الميليشيات والدواعش سرقوا غالبية المعدات من حقول الهلال النفطي. ويقول ضابط في الجيش: «السرقة جرت تحت حماية الميليشيات والمتطرفين.. ومن قام بها إما عناصر تابعة لهم وإما عناصر تعمل لصالحهم.. وعلى هذا تم نهب الحقول القريبة من مناطق مرادة ومزدة وزلة، سرقوا أجهزة الاتصالات والمكاتب والمكيفات وما خف وزنه، أما السيارات فقد تعرضت للسرقة منذ البداية».
وكان مسؤولو حقل تبستي، حين شعروا بالخطر من سرقة ما لديهم، قد نقلوا السيارات الكبيرة وسيارات الإسعاف وغيرها إلى حقل الآمال الواقع جنوب إجدابيا. ويقول أحد المهندسين الذين عملوا في تبستي: «أمام هذا الخطر أبقينا فقط على المعدات الخفيفة والضرورية للعمل. كان عددنا في الحقل 49 موظفا من بيننا أربعة فلبينيين كانوا قد غادروا منذ وقت مبكر للأحداث.. وكان معنا من العرب سبعة مصريين بينهم ثلاثة يعملون كـ(هاوس بوي) وواحد مشرف للعمال. كان هناك مهندسون تونسيون لكنهم كانوا قد رحلوا مع بداية أحداث العنف».
ومع ذلك استمر الفنيون الليبيون في العمل حتى وقت قريب رغم المخاطر. وفي أحد الأيام هبطت الطائرة في الحقل. كان الوقت مساء. سرعة الطائرة لم تكن تتجاوز 130 كيلومترا في الساعة، مع أن سرعتها القصوى تزيد على مائتي كيلومتر في الساعة. إنها تشبه السيارة، لكن صوتها مرتفع. يوجد في الحقل نحو 25 بيتا مبنيا بالحجارة، وعدة كرفانات للمبيت أيضا. ومكاتب مجاورة تضم إدارات فنية وقسما للسلامة وآخر للاتصالات. من النافذة ترى أشجارا مبعثرة هنا وهناك وتعطي روحا للمكان الذي تحيطه رمال الصحراء من كل مكان. وبالقرب من مدخل الحقل يوجد مركز لصيانة الطائرات الأربع التي تتردد على الموقع.
داخل مكتب قسم الاتصالات فرغ المهندس، ويدعى عبد الله، من إبلاغ محطة رأس لانوف بتقارير الضخ الخاصة بالحقل. ومن رأس لانوف كان يجري الضخ في بعض الأحيان في البواخر الراسية في الميناء. ويحمل المهندس نفسه جهاز لاسلكي اسمه «لونج راديو» يغطي مساحة ألف كيلومتر مربع، وهو جهاز باهظ الثمن تصل قيمته إلى أكثر من عشرين ألف دولار، ويربط حقل تبستي بباقي حقول الهلال النفطي. في الصباح جاءت مكالمة من حقل الجفرة الذي يبعد بنحو 400 أو 350 كيلومترا. وقال المتحدث: «سمعنا عن مشكلة. ماذا حدث؟ هل لديكم أي معلومات عن اقتراب (داعش)؟».
وبدأ عبد الله في الاتصال بباقي الحقول، لمعرفة ماذا يجري، لكن لم يرد عليه أحد. وقفز إلى ذهنه ما قام به «داعش» في حقل الغاني.. لقد استولى التنظيم المتطرف على الحقل هناك وذبح عددا من العمال والمهندسين. وجاء صوت أحد الدواعش عبر اللاسلكي: «دولة الإسلام قادمة.»..
ويقول عبد الله إنه لم يكن يصدق ما يسمع. وارتدى حذاءه قبل أن يرتدي بنطاله من شدة الهلع. وخرج وهو ينادي على زملائه بأن «داعش» يقترب من الحقل، وأن عناصر التنظيم في الطريق إلى حقل مسلة، ثم إلى حقل القطرون، «وبعد ذلك يصلون إلينا في تبستي». ويضيف: «حين سمعت في اللاسلكي أن حقلنا موجود في خطتهم للسيطرة على الحقول النفطية، سلام يا صديقي.. بلّغت مراقب الحقل، فقال: إخلاء فوري».
ويضيف: «كان لدينا طائرتان متوقفتان عن العمل، إلى جانب طائرتين تعملان. وجرى على الفور عمل صيانة للطائرتين المتوقفتين، وبدأت الطائرات الأربع في عمل الإجلاء الفوري للعاملين في الحقل»، مشيرا إلى أن «المفروض الذي يحمينا هو حرس المنشآت التابع للحكومة في شرق البلاد. الدواعش حين يصلون إلى حقل من الحقول لا يبحثون عن الموظفين أو عن المهندسين ولكن يبحثون عن حرس المنشآت التابعين للجيش. يذبحون أي شخص يرتدي ملابس حرس المنشآت الموالية للقوات المسلحة بقيادة حفتر، أو أي شخص يعرفون أنه يعمل تبع القوات الحكومية الشرعية».
في حقل الغاني ثم في حقل آخر مجاور، ألقى «داعش» القبض على مجموعة كبيرة تتكون من نحو 21 شخصا من العمال والمهندسين. حققوا مع مراقب الحقول وكان اسمه المهندس الزلاوي. وتركوه. وحققوا مع مهندس ثانٍ بعد أن ربطوا يديه وعصبوا عينيه، فمات بالسكتة القلبية من الخوف في مكانه. ماذا يعني أن يربط «داعش» يديك ويعصب عينيك غير أنه يريد أن يذبحك؟ كان هذا الرجل مديرا عاما للحقل، وهو ليبي الجنسية. حققوا مع الباقين وتركوهم. مراقب الحقول قالوا له تعالَ اعمل معنا واغنم معنا، وغنائم الكفار حلال لكم. لكنه رفض. رجل آخر من بلدة زلة ممن جرى التحقيق معه وعيناه معصوبان أصيب بحالة نفسية مثل الهستريا وأصبح يتحدث مع نفسه، ولم ينفع معه علاج رغم أن أسرته نقلته للعلاج في الخارج.
وما زال يوجد في حقل تبستي عدد من الموظفين لكن ليس فيه عمل. العمل متوقف. والطعام يأتي عن طريق طائرة. تأتي بتموين يكفي أسبوعا أو أسبوعين وترجع. وهي تنطلق إلى هناك من حقل الآمال. والشركة التي تدير العمل هي شركة الهروج للنفط. كان اسمها من قبل شركة فيبا. وهي كانت أصلا شركة كندية حتى أواخر الثمانينات، ثم أخذتها الشركة الوطنية للنفط وسمتها شركة الهروج.
كانت ليبيا قبل مقتل القذافي تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميا، بينما أصبح متوسط الإنتاج اليوم يدور بين 200 ألف و300 ألف برميل يوميا. وإذا وضعت في الاعتبار الانخفاض الكبير لأسعار النفط في الأسواق العالمية، فعليك أن تتصور مدى الخسائر الاقتصادية التي يتعرض لها هذا البلد. فالرواتب متأخرة مع معاناة في وصول السلع، وارتفاع في أسعار غاز الطهي وانقطاع متكرر للكهرباء. وذعر في التنقل بالسيارات عبر الطرق السريعة بسبب الانفلات الأمني.
الحقول الصغيرة التي تحت يد شركة الهروج في الهلال النفطي تنتج 80 ألف برميل في اليوم تقريبا. وهناك شركات أخرى كانت تعمل في المنطقة حتى وقت قريب. وحقل تبستي يعد من أصغر هذه الحقول، إذ ينتج في اليوم ما بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف برميل. لكن غالبية هذه الحقول متوقفة الآن.
وتقول المصادر الأمنية إن «داعش» يريد السيطرة على الهلال النفطي. والتنظيم في الوقت الحالي يسيطر على المنطقة من سرت إلى بن جواد. ويضيف ضابط في الجيش الليبي: «سرت فيها شركة لتصنيع الغاز، والدواعش يسيطرون عليها الآن. هم يريدون السيطرة على ميناء السدرة الذي يضربونه منذ عدة أيام. ضربوا خزانين للنفط. حمولة الخزان نحو 100 ألف برميل. الخزان الواحد وملحقاته تبلغ كلفة بنائه ملايين الدولارات. كل هذا تم تدميره. نصف مليار دولار جرى حرقه في ساعات».
ووجه «داعش» ضربات إلى ميناء السدرة لأول مرة، ثم تراجع حتى البوابة الغربية، تحت مقاومة حرس المنشآت التابع للجيش الوطني. وهم، أي الدواعش، وفقا لشهود عيان «يتمركزون على بعد 10 كيلومترات، ومعهم أسلحة للقنص، وهي بنادق يصل مداها إلى 7 كيلومترات. من أين أتوا بهذا النوع من الأسلحة؟ لا نعرف. وأي أحد يظهر على البوابة يتم ضربه».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات