(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

أسس غرفة عمليات في «عين زارة» لتنفيذ عمليات في دول الجوار واستقبل قيادات أفغانية وباكستانية وموريتانية

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

كان اليوم كله ينذر بأن الأمور ربما لن تكون على ما يرام. تحت السحب السوداء الكثيفة في العاصمة الليبية طرابلس، خرجت سيارة زرقاء اللون. وعند جامع عُقبة أطلق منها مسلحون وابلا من الرصاص على سيارة «دبل كابينة» تابعة للمجلس العسكري المعروف باسم «أبو سليم». إنه واحد من عشرات التجمعات التي تديرها ميليشيات في العاصمة الملغمة بقادة التطرف. هذه هي الأيام الأخيرة من شهر يناير (كانون الثاني)، حيث يتخوف العالم من مصير هذه الدولة التي تحولت سريعا إلى وجهة للتنظيمات المتشددة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
كان في سيارة الدورية عدد من أعضاء ميليشيا «أبو سليم»، منهم جلال زميط، وسامي المسلاتي، وخالد المحجوب. وأصيب هذا الأخير برصاصة في كتفه، بينما تمكنت السيارة من الهرب. كانت سرعتها مثل سرعة طائرة، وانطلقت في اتجاه منطقة الهضبة التي يقع فيها سجن كبير يضم العشرات من المساجين الذين كانوا حتى صيف عام 2011 من القيادات التي تدير نظام الحكم بقيادة معمر القذافي.
وفي اليوم الثاني، وفي الجانب الآخر من طرابلس، وصل قيادي أفغاني من القيادات القديمة في تنظيم القاعدة، ويدعى علام الدين زاهر الإسلام، قادما من سوريا. وبدأ يتواصل مع باقي عناصر المتطرفين لكي يبدأ العمل انطلاقا من مقرات تابعة لكل من الجماعة الليبية المقاتلة (تابعة للقاعدة) وأخرى تخص تنظيم داعش في ما يسمى «ولاية طرابلس». كان علام موجودا في ليبيا من قبل، ولديه خبرة مسبقة في العمل مع «ثوار 17 فبراير» ضد قوات القذافي. وهو معروف لدى الكثير من الجماعات المتشددة في عموم البلاد. لقد استمر في العمل في ليبيا أعوام 2011 و2012 وسافر في 2013 للقتال في سوريا، والآن عاد إلى ليبيا، ويتخذ من بلدة صبراتة في غرب طرابلس مقرا له، ويتردد أيضًا على العاصمة.
المشكلة أن الميليشيات، وهي تحاول أن تخلق جبهة موحدة للعمل ضد السلطات الشرعية في البلاد، ولمواجهة أي احتمال لتدخل دولي في ليبيا، يوجد بينها تنافس على النفوذ وعلى القيادة، يؤدي بين وقت وآخر إلى صدام بين عناصر مسلحة من هنا ومن هناك، ويؤدي أيضًا إلى عمليات انتقامية كما حدث من المجهولين الذين كانوا في السيارة الزرقاء.
لقد تحدث قادة غربيون خاصة من الولايات المتحدة الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية عن تنامي خطر المتطرفين في ليبيا خاصة تنظيم داعش، وتحدثوا أيضًا عن وصول مقاتلين وقادة من هذا النوع من الجنوب. واطلعت «الشرق الأوسط» على معلومات تفصيلية عن بعض من الوجوه الجديدة التي عبرت بالفعل من الجنوب حتى وصل بعضها أخيرا إلى طرابلس. ومن بين هؤلاء قيادي آخر في تنظيم القاعدة وهو باكستاني الجنسية ويدعى عامر الحق نصير. ودخل عامر الحق من صحراء جنوب غرب ليبيا، أي عبر الحدود مع الجزائر.
لم تكن رحلة دخوله والمجموعة التي معه سهلة. ومن المعروف أن دول الجوار الليبي مثل الجزائر ومصر وتونس، والبلدان الأفريقية الأخرى، تتخذ إجراءات مشددة لمنع عبور المتطرفين والأسلحة. ويقول الباكستاني عامر الحق، وهو جالس بين مستقبليه من المتطرفين في طرابلس، ويروي تفاصيل رحلته، إن الجزائريين هاجموا القافلة التي كان قادما على رأسها. وهو لم يذكر في تلك الجلسة كيف دخل هو ومن معه من باكستانيين إلى الجزائر. لكنه يواصل موضحا أنه قبل أن يجتاز الحدود بسيارات الدفع الرباعي، إلى داخل ليبيا، أطلق الجزائريون النار عليهم، وردوا عليهم بالمثل، في اشتباك على الحدود استمر لعدة ساعات، فسقط عدد ممن كانوا معه، وجرى دفنهم بعد ذلك في الرمال الليبية.
وتوعد عامر الحق، بتنفيذ عمليات ضد السلطات الأمنية الجزائرية بعد أن يلتقط أنفاسه في ليبيا للانتقام لمن قُتلوا من مجموعته، قائلا: «قُتل لنا أخوة نحسبهم (شهداء) في الجنوب، والآن صار الثأر عندنا بحجم الرمال التي دفنوا فيها. سنعود ونقتص».
وعلى كل حال يمكن أن تقول إن ليبيا لم يعد يوجد فيها فروق تذكر بين المسميات التي يحملها قادة المتطرفين. فالرجل الباكستاني عامر الحق، ورغم أنه من تنظيم القاعدة، فإن له قنوات اتصال مع قيادي باكستاني أيضًا، لكنه من «داعش» اسمه معاوية ذاكر الله، ووصل هو الآخر إلى ليبيا أخيرًا.
لا بد من الإشارة إلى أن بعض القيادات الليبية المتشددة ما زال لديها حساسية من تولي هؤلاء الأجانب القيادة في بعض الضواحي. وهنا يبرز الدور الذي يقوم به زعيم داعش في غرب ليبيا، محمد المدهوني، حيث إنه يبدو عليه القدرة على توزيع الأدوار في العاصمة والأدوار العابرة للحدود، خاصة في تونس والجزائر. ومن خلال وثائق اطلعت عليها «الشرق الأوسط» ومقابلات أجرتها مع عدد ممن لهم صلة بقادة المتطرفين في ليبيا، تبين أن هناك نشاطًا أيضًا لزعماء من المتشددين الموريتانيين داخل العاصمة، ويقوم عدد منهم بتسيير دوريات أمنية في طرابلس، تحت إشراف المدهوني نفسه.
ومن بين هؤلاء الموريتانيين رجل يدعى عمارة ولد أحمد، وآخر اسمه علي ولد أحمد، وهما قياديان في داعش، ولكل منهما مجموعة تتواصل مع مجموعة الباكستاني ذاكر الله. وزار الثلاثة المدهوني في مقره في منطقة عين زارة. وأعطى زعيم داعش لـ«علي ولد أحمد» مسؤولية الإشراف على دوريات في عدة شوارع تقع في القسم الغربي من العاصمة. وأصابت مثل هذه التحركات بعض قادة الصف الثاني من المتطرفين الليبيين بالاستفزاز، رغم أن عمليات نقل الأسلحة والبيع والشراء وتنسيق العمليات ضد الجيش الوطني الليبي، وضد حكومات دول الجوار، تسير بين القادة الكبار على قدم وساق.
في مثل هذه الأجواء التي تشبه حالة الحرب يخيم الخوف والذعر على سكان العاصمة، بينما يطلب بعض السياسيين سواء من المقيمين في الخارج أو في المدن الهادئة في الداخل، من سكان طرابلس الثورة ضد الميليشيات المتطرفة في العاصمة. بيد أن الواقع يقول عكس ذلك.. لا يمكن أن تمر من زقاق أو شارع دون أن ترى سيارتين أو ثلاثة تحمل ملثمين مدججين بالأسلحة، ولديهم القدرة على القتل بلا حساب. يقول أحد وجهاء العائلات في جنوب المدينة إن العالم الخارجي، سواء من الليبيين أو الأجانب، ليس لديهم تصور حقيقي عن الأزمة التي تعيشها طرابلس. دعك من نقص الخدمات وانقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب. المشكلة في الحفاظ على نفسك وعلى أهل بيتك من خطر الميليشيات.
في الليل، وبينما تسمع تكتكة الرصاص عبر الشوارع، كانت السماء مظلمة وسيارات الدفع الرباعي تمرق عبر الميادين. وصافرات الإسعاف تدوي من بعيد ثم تنطلق كالريح. يبدو أنه توجد حالة من الغضب بين أحد القيادات الليبية الكبيرة مع قائد من قادة الصف الثاني. هذا يحدث عادة. وهذا يعني «حالة طوارئ مصغرة»؛ ولا حركة. ماذا حدث؟ لقد تصرف مسؤول في كتيبة الأبرار، يدعى خثالة، وتابع لجماعة أنصار الشريعة، دون تنسيق مع المستوى الأعلى منه، وهو رجل يلقب باسم «الشريف»، في الجماعة الليبية المقاتلة.
الشريف كان غاضبًا. قال له: «ما هذا اللعب الذي تقومون به؟ ألم نتفاهم على أن كل عملياتنا يجب أن نتشاور فيها. كيف هذا؟ ماذا تفعلون؟ ويبدو أن العملية المختلف عليها كانت تخص تمرير مجموعة من المتطرفين إلى الحدود لكي يدخلوا إلى الجزائر».
حاول خثالة في خضم الجدل أن يدافع عن نفسه، وقال إن عملية التحرك قامت بها جماعة تابعة لقيادي جزائري يعمل بالقرب من طرابلس اسمه بوجرة. جماعة بوجرة كانت متمركزة قرب منطقة تاورغاء الواقعة إلى الشرق قليلا من العاصمة الليبية. وتقول مصادر المتطرفين إن القيادات الكبيرة في الجماعة المقاتلة أصبحت مضطرة للتنسيق في مسألة العمليات الداخلية والخارجية مع جماعة الإخوان وداعش، وأن تحرك مجموعة بوجرة من تاورغاء دون تنسيق أعطى مؤشرات بأن البعض من الكبار في الجماعة المقاتلة، ربما كانوا يعملون في الخفاء ضد خطط الإخوان وداعش.. «وهذا غير مسموح به لأن الجميع يقف فوق صفيح ساخن»، وفقا لأحد هذه المصادر.
تحرُّك المتطرفين إلى الجزائر يبدو أنه أصبح انطلاقا من مدينة غدامس المجاورة للحدود بين البلدين. طلب الشريف من خثالة أن يأمر مجموعة الجزائري بالتوجه إلى مقره في طرابلس فورا، وهو مقر موجود قرب منطقة الهضبة، وفي المقابل، أمر أيضًا بأن تتحرك مجموعات أخرى من المتطرفين إلى بلدة غدامس، هما «مجموعة العوامي»، و«مجموعة البرعصي». ويظهر من الكلام بين الرجلين أن المطلوب في هذا التوقيت تجهيز عمليات لوجستية للمتطرفين في غدامس، قبل التحرك إلى داخل الجزائر. وتقرر أن يشرف على استقبال مجموعتي «العوامي»، و«البرعصي» قيادي يدعى «العوضي»، في غدامس.
يظل أخطر مقر في الوقت الراهن للمتطرفين في ليبيا هو مقر المدهوني زعيم داعش، والذي أصبح يلقبه الكثير من القيادات الكبيرة في باقي التنظيمات باسم الشيخ. هذا الرجل يتميز بإمكانيات مالية غير محدودة، وهو لا يتردد في شراء أي صفقة أسلحة بأي مبلغ يطلب منه. ولا يفاصل ولا يطلب إنقاص السعر. وآخر صفقة عقدها كانت تضم صواريخ حرارية لديها القدرة على تحويل الدبابة إلى رماد. كما تبين أنه اشترى مرسى بحريًا في مدينة الزاوية الليبية الواقعة على بعد نحو مائة كيلومتر من الحدود مع تونس. وحين جاء القادة من الأفغان والباكستانيين والموريتانيين والجزائريين إلى طرابلس، ذهبوا إلى مقره مباشرة.
مقر المدهوني الواقع في معسكر في منطقة عين زارة، يضم غرفة خاصة لإدارة عمليات إرهابية في تونس وأخرى خاصة بالجزائر. ووفقا لمحاضر تحقيقات أمنية اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، فقد جرى التخطيط لتجنيد دواعش في جبل الشعانبي في تونس لتنفيذ تفجيرات في هذه الدولة. وسبق أن شهدت تونس عمليات دامية على يد التنظيم المتطرف نفسه. ومن بين من جرى التنسيق معهم في غرفة عمليات عين زارة، من التونسيين، اثنان الأول يدعى زياد، والثاني جميل.
كما جرت «مباحثات» أخرى في غرفة العمليات الخاصة بتونس، بين المدهوني وتونسي يدعى أبو جريد، وهو قيادي في داعش تونس. وجرى تكليفه بتنفيذ أعمال تخريبية في شارع الحبيب بورقيبة، وفي وسط ميادين العاصمة وفي المدن المهمة.. و«في سوسة والمانستير وصفاقص». وقال له بالنص وفقا لما ورد في تحقيقات تقوم بها أجهزة أمنية مختصة بنشاط المتطرفين في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط: «لا تبقِ صيدا سهلا في مناطق ضيقة.. اضربوا مصالح الأمن.. فرغوا الشوارع كما تريد الحكومة، فرغوها حتى يسهل اقتناص الأمن، ويسهل الاشتباك.. الحكومة تعلن فرض حظر تجوال، وهذا سيزيد حنق المواطنين عليها».
ومثلما تظهر الخلافات بين قيادات الصفوف الأدنى في التنظيمات المتطرفة في داخل ليبيا، ظهرت أيضًا في تونس التي يبدو من خلال التحقيقات أن أطرافا في حركة النهضة التابعة لجماعة الإخوان، تقوم هي الأخرى بالتعاون مع دواعش تونس.
وقال المدهوني للداعشي التونسي أبو جريد بحسب نص التحقيقات إنه «يوجد خلاف حاد الآن بين إخوان تونس وقصر قرطاج (يقصد السلطات التونسية).. وسوف تنهار حالة التماسك بينهما، وهي منهارة أصلا. جندوا قيادات في الجيش وفي الأمن، كما تفعل حركة النهضة، ولا تثقوا فيها». وفي المقابل اشتكى أبو جريد من «مشكلات تموين وصرف». فأجابه المدهوني: «سيصلك ما تريد بعد أن نرى عمليات نوعية.. أرسلت لكم مليوني دولار، وسلاح، وأخوة من عندي، وهذا يكفي لإثبات أن المحال لكم يستعمل فيما نريده.. تحركوا بكل نظام وبشكل سريع، واهتموا، بالإضافة للمدن التي ذكرتها لك، بالقرى الفقيرة في الجنوب.. نريد شغلا مميزا لسرعة إحداث خلخلة وانهيار كامل قبل أي تدخل فرنسي».
يبدو من القراءة الأولى لنتيجة الجولة التي قامت بها «الشرق الأوسط» أن قيادات داعش تستحوذ على التنسيق على الجبهة التونسية، وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة مختصة بتهيئة الجبهة الجزائرية، والقيادات الإخوانية بالجبهة المصرية، لكن كل هؤلاء يعملون بشكل يبدو أنه يزداد تناغما يوميا بعد يوم، رغم الشكوك والضغوط الدولية.
وبينما يظهر أنه توجد صعوبة في إحداث اختراق كبير على الجبهتين المصرية والجزائرية، يبدو أن نشاط المتطرفين في تونس أكبر وأسهل، لعدة أسباب من بينها وجود أعداد كبيرة من التونسيين في ليبيا، وسهولة العبور بين حدود البلدين. توجد أيضًا جماعة متطرفة في تونس جرى ذكرها على لسان أبو جريد أثناء حديثه مع المدهوني، تسمى «جماعة الجيلاني»، لها صلات بداعش ليبيا.
من محطات سوء التفاهم بين داعش تونس وغرفة عمليات المتطرفين في عين زارة، رفض الدوعش التونسيين دخول جماعة الجيلاني إلى العاصمة التونسية، بأوامر من أبو جريد. وهذا أغضب قيادات داعش ليبيا. وقدم أبو جريد الأسباب على أساس أنه يخشى من اعتقال عناصر من مجموعة الجيلاني، وقال وفقا للتحقيقات: «السبب في المنع أن عوان الأمن (الشرطة) منتشرون في العاصمة بشكل كثيف، ويغلقون الطرق، وأن الشعب عامل لجان أمنية ويتعاون مع عوان الأمن، كما أن جماعة النهضة طلبوا تأخير ذلك، لأن الأمور صعبة».
أما المرسى البحري الذي لديه القدرة على استقبال المراكب الصغيرة وأصبح تحت يد داعش في مدينة الزاوية، فقد كان يديره في السابق رجل يكني بأبو عبيدة، وهو من قادة ميليشيات المتطرفين في ليبيا، وكان يشغل منصب رئيس غرفة عمليات الثوار في البلاد. ويحمل المرسى البحري اسم «مرسى جرف الزاوية»، واستقبل في الأيام القليلة الماضية جرافات (مراكب) محملة بالأسلحة. كما استقبل مقاتلين قادمين من تونس. وأثار هذا الأمر حفيظة عدد من القيادات الصغيرة في الجماعة الليبية المقاتلة بسبب انتشار العناصر التونسية في مدينة الزاوية. ويقول أحد المصادر القريبة من أنشطة المتطرفين هنا، إن المرسى يستخدم أيضًا في نقل العناصر وإعادتهم إلى تونس بعد تدريبهم.
ومن قيادات المتطرفين الجزائريين ممن وصلوا إلى ليبيا، رجل يلقبونه هنا بـ«عصيد»، وآخر يسمونه رشوان، ومعروف في تنظيم «جند المقدس». ومن الأسماء الجزائرية التي ظهرت في غرفة عمليات داعش في معسكر عين زارة، رجل يدعى عزيز، وآخر اسمه جلول، وثالث يلقب بالمشغول، ورابع يعرف باسم عبد المهيمن.
ووفقا للمصادر فإن المدهوني يعد هؤلاء من أجل العودة مع آخرين إلى الجزائر عن طريق بلدة غدامس.. وفي آخر حديث بينهما، بحسب نص التحقيقات، قال زعيم داعش الليبي للجزائري عبد المهمين: «اتصل بي أخونا هاني حسن (غير معروف من هو، لكنه يبدو من قيادات المتطرفين الذين يعملون على الجبهة الجزائرية).. يريدكم الالتحاق به غدا صباحا. طلب مني الإذن، وأنا وافقت، فالإخوة هناك (أي في الجزائر) وضعهم ضنك ويحتاجون لنا. غادر الفجر إلى غدامس ومنها لن تغلب في الدخول للجزائر أنت خبير في ذلك».
وبمرور الأيام يبدو التناغم في التنسيق المباشر موجود ما بين الجماعة الليبية المقاتلة والتابعين لها، وبين تنظيم داعش، رغم أن قيادات من جماعة الإخوان، تحاول أن تكون في الصورة، رغم أن الكثير من تصرفاتها غير مطمئنة للتنظيمات الأخرى. فالمدهوني على سبيل المثال قال لدواعش تونس صراحة أنه لا ينبغي الالتفات إلى التنسيق معهم. وحذر منهم. بينما في ليبيا توجد للجماعة علاقات قوية خاصة في مسألة التعاون في تمرير صفقات الأسلحة والمقاتلين، لصالحها ولصالح الآخرين، سواء داخليا أو خارجيا.
رجل محسوب على الجماعة المقاتلة يدعى عبد الغني، وهو قيادي في المجلس العسكري لأبو سليم، يرتبط بعلاقة جيدة مع قادة الإخوان الذين يتركز غالبيتهم في بنغازي في الوقت الراهن. وحين تعرضت الدورية التابعة له في طرابلس لإطلاق النار من السيارة الزرقاء، حامت الشبهات حول تعاون إخواني مع عناصر أميركية يقول المتطرفون أنها عناصر موجودة في طرابلس.
ومع ذلك أصبح عبد الغني يرتبط بعلاقة وثيقة مع المدهوني. وتعاون معه في جلب شحنة أسلحة كانت متجهة من مدينة الزاوية إلى مدينة مصراتة، تتكون من ألغام مضادة للمشاة وقواذف، و18 من الصواريخ الحرارية فرنسية الصنع. كان السمسار، ويدعى «الشوشي» يريد أن يبيع الشحنة لمصراتة بستة ملايين دولار، لكن داعش زاد نصف مليون للحصول على الصفقة عن طريق عبد الغني. وتبلغ قيمة الصواريخ وحدها خمسة ملايين دولار. وجرى نقل الشحنة إلى معسكر عين زارة.
رغم كل شيء، ومع تبادل صفقات السلاح وصفقات المقاتلين، والترتيبات الخطرة، فإن الشكوك في الشارع الميليشياوي الليبي لا تتوقف. وكلما خرجت تقارير من الغرب ضد استمرار حالة الفوضى التي يثيرها المتطرفون في ليبيا، كلما زاد حراك العناصر على الأرض وارتفع صوت إطلاق الرصاص من زوايا الشوارع، وبين يوم وآخر تتقاطع مواقع النفوذ ويشتبك مسلحون من هنا ومن هناك. ويأتي الرد بعد ساعات من خلال عمليات انتقامية مباغتة. وفي الليل، في الجانب الشرقي من العاصمة، وصل أحد قيادات الجماعة الليبية المقاتلة إلى مقر إقامة مسؤول كبير في المؤتمر الوطني، وأبلغه أن يأخذ حذره من جماعة الإخوان.
وقال له إن بعض قيادات الإخوان وهم ينسقون مع الجماعة المقاتلة، يسعون، في الوقت نفسه، لإحياء قنوات التواصل مع الجانب الأميركي تحسبا لما سيأتي في المستقبل.. «الإخوان يريدون حمل تركة طرابلس في حال حدث تدخل أميركي فيها، وهم يخفون عنا ذلك». نفس التحذيرات أبلغها قيادي آخر في الجماعة المقاتلة، لمسؤول المؤتمر الوطني نفسه. قال له إن الإخوان لديهم أيضًا اتصالات مع الإيطاليين. وبعد عملية السيارة الزرقاء نصحه أن يغادر مكتبه ويبقى بين أهله.
وحين جاء الصباح، بدأت نفس القيادات في ترتيب عملية إرسال ثلاثة زوارق محملة بالأسلحة إلى القوات المعارضة لقائد الجيش الوطني الليبي الفريق أول خليفة حفتر. شارك في هذه الترتيبات اثنان من الإخوان أحدهما زعيم للجماعة في بنغازي والثاني يترأس ذراعا سياسية للجماعة في طرابلس. كما شارك في التوجيه بإتمام العملية قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، ورجل غير معروف يلقبونه بـ«الكوافي»، بالإضافة إلى أحد أصحاب الزوارق متخصص في «الهجرة غير الشرعية»، في منطقة قرقارش في طرابلس، اسمه «تيبار». ورغم ما أبداه تيبار من مخاوف من قصفه من الطيران الليبي أو من الطيران الفرنسي، إلا أنه رضخ للأمر.
مع المساء جاء اتصال من المشفى الذي يعالج فيه المحجوب. لقد نزف الكثير من الدم من إصابته في حادث إطلاق النار من السيارة الزرقاء. والمشكلة أنه لم يعد يوجد دم في أي من مستشفيات العاصمة. وجاء الرد من أحد قيادات الميليشيا، قائلا: «ابعث طبيب للسجن ليبحث بين الموقوفين عن فصيلة الدم المطلوبة، ولا يهمك».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.