فنانة كردية تروي واقعها من خلال لوحات

نوروز: اخترت نمطا يجمع بين كل المدارس التشكيلية

الفنانة التشكيلية نوروز شهاب تتوسط لوحاتها («الشرق الأوسط»)
الفنانة التشكيلية نوروز شهاب تتوسط لوحاتها («الشرق الأوسط»)
TT

فنانة كردية تروي واقعها من خلال لوحات

الفنانة التشكيلية نوروز شهاب تتوسط لوحاتها («الشرق الأوسط»)
الفنانة التشكيلية نوروز شهاب تتوسط لوحاتها («الشرق الأوسط»)

رغم طغيان الطابع الواقعي على أعمالها الفنية، فإن الفنانة الكردية نوروز شهاب لم تلتزم بمدرسة تشكيلية واحدة في غالبية لوحاتها، ولعل هذا الذي منح قسما منها طابعا خاصا بها يميزها عن باقي اللوحات الأخرى. إذ انطلقت نوروز بألوانها المتعددة التي لا تستطيع الاستغناء عن أي واحدة منها باتجاه القمة في طريق طويل من العمل الدءوب. إذ تقضي الفنانة التشكيلية ساعات من يومها في مرسمها لترسم لوحة من لوحاتها التي اختارت لكل واحدة منها قصة تروي ما واجهه الأكراد من مآسٍ خلال العقود الماضية. بينما تنظر إلى مستقبل مفعم بالنجاحات الكبيرة، وتخطط لمشاريع فنية، وتصر على مواصلة العمل وتنظيم الوقت، بحيث تبقى على اتصال مع الفن. وترى نوروز أن الانفصال عن الفن أمر غير ممكن. ونظمت حتى الآن ستة معارض شخصية، وشاركت في تسعة معارض مشتركة مع فناني الإقليم. وتستعد في الوقت الحالي لتنظيم معرضها الشخصي السابع بعد الانتهاء من مشاريعها الفنية الحالية.
«الشرق الأوسط» التقت الفنانة الكردية الشابة، التي تحدثت بدورها عن بداياتها في عالم الفن التشكيلي. قالت: «بدأت الرسم منذ اللحظة التي شعرت فيها أن هناك وجودا آخر في داخلي، عندها وجدت الألوان وحياتي». وأضافت موضحة أن «الفن هو الذي اختارني، لأن الفن الطبيعي تربى في داخلي ونما معي، لذا أرى أن الانفصال عن الفن سيكون صعبا عندما يختارك هو، حتى وإن لم تستطع أن تعمل، فروح الفن ستعيش معك دائما». واستطردت نوروز بقولها إن «الفن التشكيلي كان مرافقا لي باعتباره هواية طبيعية منذ طفولتي، وكان هذا الفن دائمًا العامل الرئيسي الذي أُعبر من خلاله عن أفكاري وأحاسيسي».
طبيعة كردستان والحياة اليومية للإنسان الكردي منذ القدم وحتى الآن وما واجهه الشعب الكردي من كوارث ومأساة خلال القرن المنصرم وكارثة سنجار هي أكثر المواضيع التي ترويها الفنانة نوروز من خلال لوحاتها، التي تكاد تكون سجلا زاخرا لكل هذه الأحداث. إلى ذلك، قالت نوروز: «أعمالي الفنية هي في إطار المدرسة الواقعية الأكاديمية، لكن في الغالب تربط الفانتازيا نفسها بالواقعية، لأن الواقعية لا تستطيع بمفردها أن تعبر عن كل أحاسيس الروح». وأضافت: «في قسم من لوحاتي أخلط وبشكل علمي بين المدارس التشكيلية، لكي تخرج اللوحة بشكل خاص، ويكون لها وجودها الخاص بها، مكونة بذلك طابعًا تستطيع من خلاله أن تحاور المُشاهد وتُحرك أحاسيسه». وترى نوروز أن الألوان وسيلة من وسائل التقارب بين الروح والإحساس، وهي مرتبطة بالموسيقى، وتبين بالقول إن «الألوان عندي تعني التفاهم وتقارب الأحاسيس، فهي جزء من الإحساس، والإحساس هو المعبر عن الوجود ولغته القوية المبنية على أساس المصداقية والتفاهم واللون، لذا كل الألوان قريبة مني، فعند نقص لون ما لديّ أشعر أن الألوان الأخرى ناقصة أيضًا، لأن فن الرسم الواقعي الأكاديمي يحتاج إلى تحليل الألوان وانعكاس الألوان ذاتها على بعضها». وأردفت: «لكل لون أهميته الخاصة، فالوجود والإحساس يضمان كل الألوان، وكل لون من الألوان يعد حركة موسيقية، أو بالعكس الموسيقى هي اللغة المعبرة عن كل لون من الألوان، لأن درجات الألوان والموسيقى مرتبطة مع بعض في إطار واحد».
وتشير الفنانة التشكيلية إلى استخدام أدوات متنوعة في لوحاتها، مبينة: «أستخدم كل الأدوات الفنية في لوحاتي من الألوان المختلفة والأدوات الأخرى من أقمشة وفرشاة، لكن الآن أستخدم الألوان الزيتية على قماش (الكانفاس) بشكل أكبر، أما في حالة رسم الجداريات والأعمال الفنية الأخرى فأستخدم كل أنواع الألوان والوسائل الخاصة بها من فرش وغيرها».
وحول مشاريعها المستقبلية، قالت نوروز إنها «بصدد تنفيذ مشروعين فنيين كبيرين، وأنتظر الإجابة من الأطراف المعنية للبدء فيهما، أولهما عبارة عن مشروع يعد الأول من نوعه في إقليم كردستان وسأهديه بعد إنجازه إلى قوات البيشمركة». وكشفت أنها ستنجز المشروعين على نفقتها الخاصة، وسيكون الثاني إهداء لأمهات الشهداء. وقالت: «وبعد الانتهاء من هذين المشروعين سأبدأ بالإعداد لتنظيم معرضي الشخصي السابع في جميع مدن إقليم كردستان».
وأخيرًا تنفي الفنانة نوروز وجود مشكلات عامة أمام المرأة الفنانة في إقليم كردستان، وتشدد بالقول: «مع التطور الحاصل في الإقليم لم تبق هناك مشكلة في الفن التشكيلي تدعى مشكلة المرأة، حتى إن وجدت فلن تكون بالشكل الكبير، لكن هناك مشكلات خاصة مثل عدم امتلاك الفنانات المكان المناسب والإمكانيات للرسم وإنتاج اللوحات الفنية، أو عدم امتلاكهن برنامجا أو تخطيطا مسبقا لتوزيع أوقاتهن وتخصيص وقت للفن»، وتختم حديثها بتأكيد أن هذه المشكلات موجودة لدى الفنانين الرجال أيضًا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)