أوكرانيا.. من يدفع الثمن؟

خيارات أميركا وأوروبا في التعامل مع طموحات {الدب} الروسي

أوكرانيا.. من يدفع الثمن؟
TT

أوكرانيا.. من يدفع الثمن؟

أوكرانيا.. من يدفع الثمن؟

لا أحد يعرف كيف يمكن أن تتطور الأزمة الأوكرانية، المتفائلون يعزفون على وتر الحلول الدبلوماسية والضغوط الأميركية والأوروبية ومجموعة العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تكون رادعا قويا لرد طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتجبره على التراجع عن مزيد من التحركات العسكرية وإشاعة الإضرابات في أوكرانيا.
والمتشائمون يرون أن الأزمة التي تعد الأسوأ أوروبيا، منذ حرب البوسنة والهرسك، يمكن أن تعيد مرة أخرى أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، بل يمكن أن تشعل لهيب حرب بين البلدين قد تتصاعد لحرب نووية حيث يملك كل من الولايات المتحدة وروسيا نحو 16.700 سلاح نووي.
وفي نظر المتشائمين يمكن أن تؤدي حرب نووية بين البلدين إلى نهاية العالم وانقراض الجنس البشري. لكن من غير المرجح أن ينتهي الأمر بحرب نووية أو تقليدية كما يقول أصحاب الرأي الوسط، لكن بزيادة جرعة التعاون بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة لتحقيق السلام في المنطقة.
ووسط هذه الأجواء تشتعل حرب التصريحات المتبادلة بين الجانبين والتهديدات والتأهب العسكري واستعراض القوة العسكرية، والتلويح بإجراءات رادعة، وكلها أمور تفتح الباب أمام سيناريوهات سيئة.
الأمر المؤكد حاليا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجيد اللعب بأوراق التاريخ والجغرافيا والسياسة بطرق تضمن له تحقيق أطماعه التوسعية وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. فهو يتحكم إلى حد كبير في قواعد اللعبة، فالتصويت المقرر في السادس عشر من مارس (آذار) الجاري من المرجح أن يأتي لصالح ضم القرم لروسيا حيث يسيطر نواب من أصول روسية على نسبة كبيرة من البرلمان في شبه جزيرة القرم.
ومن المرجح أيضا أن يتلاعب بوتين في النتيجة لصالح ضم القرم إلى روسيا، والتي كانت جزءا من روسيا حتى نقل رئيس الوزراء السوفياتي (الأوكراني الأصل) نيكيتا خروتشوف تبعيتها لأوكرانيا عام 1954.
وتتوقع واشنطن هذه التطورات واستبقتها بعدة تصريحات عن مسؤولين أميركيين بأن التصويت لن يكون شرعيا بموجب القانون الدولي. وهدد الرئيس أوباما بأن أي تصويت بانفصال القرم من أوكرانيا والانضمام إلى روسيا سيكون خرقا للقانون الدولي.
والسؤال ماذا ستفعل واشنطن إذا صوت برلمان القرم لصالح الانضمام لروسيا، هل سيكون لواشنطن خيارات عسكرية تدرسها، وكيف تقنع بها الرأي العام والكونغرس. من جانب آخر فإن القيام بخطوة عسكرية أميركية من شأنه تعزيز ادعاءات بوتين - الذي يحظى بشعبية كبيرة بين القوميات الروسية في أوكرانيا - أنه يدافع عنهم ضد التدخل الغربي.
* المخاوف الأميركية الأوروبية
من المهم تحديد الهدف في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، كما يرى خبراء السياسة، لأن استفزازات بوتين يمكن أن تؤدي إلى تقسيم أوكرانيا كحل لإنهاء الصراع حيث تخضع الأجزاء الشرقية لأوكرانيا (الموالية لروسيا) لسيطرة روسيا وتخضع الأجزاء الغربية (الموالية لأوروبا) للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لكن مخاطر هذا السيناريو كارثية حيث يعيد مشهد مواجهة بين القوات الأميركية والروسية عند حدود تم تقسيمها بفرض الأمر الواقع.
يبدو أن بوتين يختبر تحركات واشنطن في رقعة شطرنج يملك فيها اليد العليا، وإذا نجحت خطته في السيطرة على شبه جزيرة القرم فإنه من المرجح أن يتحرك نحو أجزاء أخرى من أوكرانيا. وقد سبق لروسيا القيام بنفس التصرفات في جورجيا عام 2008 ووقتها قامت إدارة الرئيس بوش بإرسال البوارج الأميركية إلى البحر الأسود ومنعت موسكو من تحقيق أهدافها بالإحاطة بالحكومة المنتخبة في جورجيا.
مهلا.. يشير المحللون في واشنطن إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي يملكون الكثير من أوراق اللعب لكن عليهم أولا الاتفاق على استراتيجية للتعامل مع هذه الأوراق. أولى تلك الأوراق هي الترسانة الأميركية المتنامية في إمدادات الطاقة والتي من المتوقع أن تجعل الولايات المتحدة أكبر مصدر للطاقة بحلول عام 2020. وبالاتفاق على خطة لتخفيض اعتماد الدول الأوروبية وبصفة خاصة أوكرانيا على الغاز الروسي فإن النفوذ الروسي سيتلاشى كما سيتأثر الاقتصاد الروسي بانخفاضات أسعار النفط والغاز إذا تبدل اعتماد أوروبا على استيراد الطاقة من الولايات المتحدة.
ويصف المحللون ورقة الطاقة بأنها ستقلب المائدة على بوتين الذي يستخدم ورقة الطاقة كسلاح للضغط على الدول الأوروبية وبصفة خاصة ألمانيا.
ويشير الخبراء إلى أوراق ضغط أخرى مثل فرض عزلة دبلوماسية على روسيا وتجميد الأصول وفرض قيود على منح تأشيرات سفر لطبقة رجال الأعمال الروس الذين يملكون مشاريع واستثمارات ضخمة في أوروبا
ويشير بعض المحللين إلى ضرورة أن تتماشى خطط العقوبات مع خطط لمساعدة أوكرانيا اقتصاديا، وخطط لإجراء مناورات عسكرية تعزيز الدفاع الجوي مع دول البلطيق.
وفي مقابلة تلفزيونية ببرنامج «واجه الصحافة» شدد ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي السابق على ضرورة قيام إدارة أوباما بالإبقاء على الخيارات العسكرية على الطاولة ردا على غزو روسيا لشبه جزيرة القرم. وقال «أشعر بالقلق عندما نبدأ في التعامل مع الأزمات وأول شيء نقوم به هو إسقاط خيارات من على الطاولة». وأضاف «عندما يقول (أوباما) لا خيار عسكريا في أوكرانيا فإن هناك خيارات عسكرية لا تنطوي على وضع قوات على الأرض في شبه جزيرة القرم».
واقترح تشيني استئناف العمل على أنظمة دفاع صاروخية في بولندا وجمهورية التشيك التي بدأتها إدارة الرئيس السابق جورج بوش، وأوقفتها إدارة أوباما منذ بضع سنوات، والقيام بمناورات عسكرية مشتركة في المنطقة وتوفير التدريب والمعدات للقوات الأوكرانية.
وأشار تشيني إلى قدرة الولايات المتحدة على مد أنابيب الغاز «كيستون اكي إل» دون تكلفة كبيرة مما يدعم صادرات الغاز الأميركي إلى أوروبا ويخفض من اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي.
وحذر نائب الرئيس الأميركي السابق من أن تردد إدارة أوباما في التعامل مع الأزمة السورية جعل الحلفاء أكثر تشككا في القدرة على الاعتماد على الولايات المتحدة والمشاركة معها في جهود دولية، وقال تشيني «لقد خلقنا صورة من الضعف والتردد (لأميركا) في جميع أنحاء العالم وليس فقط أمام الروس».
يقول الأستاذ بجامعة ميتشغان ملفين ليفيتسكي الدبلوماسي الأميركي السابق والخبير في العلاقات الأميركية الروسية إن روسيا انتهكت التزاماتها وفقا لميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر توجيه ضربات عسكرية من جانب واحد، وانتهكت اتفاق عام 1994 مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الذي يحظر استخدام القوة في أوكرانيا مقابل تخلي أوكرانيا عن الأسلحة النووية السوفياتية.
وحول السياسة التي يمكن للولايات المتحدة اتباعها يقول ليفيتسكي «أعتقد أن الروس لديهم موقف أفضل من أوروبا الغربية والولايات المتحدة خاصة وهم ينظرون إلى الولايات المتحدة بعد أن خاضت حربين في العراق وأفغانستان ولا تريد خوض حر أخرى وقد بدا ذلك واضحا في الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس أوباما بشأن سوريا. ويعتقد الروس أنهم يمكنهم الإفلات».
ويضيف «تستند الإجراءات التي اتخذها بوتين إلى إحساس خاطئ بالفخر والانتصار واستعادة أمجاد روسيا ويجب أن تأخذ واشنطن ذلك في حسبانها خاصة أن تطورات الأحداث تعرض حلفاء مثل جورجيا ومولدوفا والحكومة الأوكرانية الجديدة لمزيد من المخاطر ويجب أن تكون تلك الدول على استعداد للمواجهة، وتعتمد الحكومة الروسية على استراتيجية استفزاز لزيادة وتيرة التوتر العرقي في أوكرانيا، وإذا صعدت الولايات المتحدة الموقف بإرسال سفن حربية إلى البحر الأسود، أو وضعت خطا أحمر فإن تورطها في هذا الصراع سيصبح واجبا وليس مجرد خطوات استراتيجية».
وتشير الباحثة بالشؤون الأوروبية جودي ديمبسي بمعهد كارنيجي إلى أن قادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عاجزون عن وقف روسيا ودفعها للتفاوض مع الحكومة المؤقتة في كييف خاصة بعد أن تجاهلت روسيا كافة الجهود الدبلوماسية الأوروبية.
وتقول «إن بوتين يسعى لكسب مزيد من الوقت لترسيخ قبضته على شبه جزيرة القرم والتمادي إلى ما هو أكثر من ذلك؛ إلى بولندا ودول البلطيق والسويد، ويمكن للاتحاد الأوروبي مقاطعة قمة دول الثماني وفرض قيود على تأشيرات السفر للمسؤولين الروس، وهي في أحسن الأحوال تدابير رمزية لكنها لن تغير الحقائق على أرض الواقع، والأفضل هو تجميد الأصول الروسية في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة».
وتؤكد الباحثة على ضرورة النظر بجدية لمثل هذه العقوبات وتحرك القادة الأوروبيين لتطبيقها بسرعة قبل أن تضيع شبه جزيرة القرم.
وفي مقال بصحيفة «واشنطن بوست» قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر (1973 - 1977) «كل المناقشات حول أزمة أوكرانيا تركز على المواجهة، لكننا لا نعرف أين نحن ذاهبون، وقد رأيت في حياتي أربع حروب بدأت بحماسة كبيرة وتأييد شعبي وجميعها لم نكن نعرف كيف ننهيها، وثلاث حروب منها انسحبنا من جانب واحد، والاختبار الحقيقي للسياسة هو الخاتمة وليس البداية».
يقول كيسنجر إن النقاش ليس هل تنضم أوكرانيا إلى الشرق أم إلى الغرب وإنما كيف يمكن بقاء أوكرانيا على قيد الحياة وأن تكون جسرا بين الشرق والغرب، مشيرا إلى أن أوكرانيا كانت جزءا من روسيا لعدة قرون وتملك تاريخا معقدا وتركيبة سكانية متعددة اللغات وأي محاولة من جناح واحد من أوكرانيا السيطرة على الآخرين من شأنها أن تؤدي إلى حرب أهلية وتعرقل أي احتمال لجلب روسيا والغرب إلى نظام دولي تعاوني.
ويضيف كيسنجر «على بوتين أن يدرك أن سياسة الإملاءات العسكرية من شأنها أن تنتج الحرب الباردة مرة أخرى وعلى واشنطن التعامل بصبر لفرض القواعد».
واقترح كيسنجر خطة يكون لأوكرانيا فيها حق الانضمام بحرية إلى التجمعات الاقتصادية والسياسية وحرية تشكيل حكومة يتوافق عليها الشعب الأوكراني تحقق سياسة المصالحة بين مختلف أجزاء البلاد، والضغط على روسيا للاعتراف بسيادة أوكرانيا على شبه جزيرة القرم، وإزالة أي غموض حول أسطولها في البحر الأسود. ورفض كيسنجر انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.
ويرى زيباغو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق (1977 - 1981) أن مصير الأزمة الأوكرانية يعتمد على ما سيفعله فلاديمير بوتين في الأيام المقبلة، وتقديراته لما سيقوم به حلف الناتو والولايات المتحدة، وحساباته لرد فعل الشعب الأوكراني ضد تكرار أي عدوان روسي، وأيضا مدى ثقة الأوكرانيين في الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
ويقول بريجنسكي إن نجاح بوتين في ضم شبه جزيرة القرم قد يغريه بالتقدم أكثر في أوكرانيا واستغلال الاضطرابات السياسية في تحقيق مزيد من التقدم للقوات الروسية لقلب نظام الحكم في كييف، وستكون نتيجة مماثلة لما قام به هتلر في ميونيخ عام 1938 واحتلال براغ وتشيكوسلوفاكيا أوائل عام 1939.
ويؤكد مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق أن الأمر يتوقع على قدرة الغرب في إقناع «ديكتاتور الكرملين» أن حلف الناتو لا يمكن أن يقف صامتا إذا اندلعت حرب في أوروبا، لكن هذا لا يعني أن الغرب أو الولايات المتحدة ينبغي أن تهدد بالحرب لكن ينبغي الضغط على روسيا لكي تعترف بالحكومة الحالية لأوكرانيا وعلى الغرب مساعدة الجيش الأوكراني بما يعزز قدراته الدفاعية وألا يكون هناك مجال للشك أن أي هجوم روسي ضد أوكرانيا سيؤدي إلى اشتباك طويل ومكلف.
ويطالب بريجنسكي حلف شمال الأطلسي بالاستعداد بخطط طوارئ، ورفع حالة التأهب وإقامة جسور جوية لوحدات أميركية لأوروبا مما سيكون له مغزى سياسيا وعسكريا، وألا يكون هناك أي غموض لدى الكرملين أن أي تحرك سيكون مغامرة باستخدام القوة في وسط أوروبا، على أن يتوازى ذلك بجهود لتفادي أي حسابات خاطئة يمكن أن تؤدي إلى حرب والتأكيد على رغبة الغرب في إقامة علاقات هادئة مع روسيا ومساعدة أوكرانيا على التعافي اقتصاديا واستعادة الاستقرار سياسيا وطمأنة روسيا أن الغرب لا يسعى لضم أوكرانيا إلى الناتو أو تحويلها ضد روسيا.
وأعلن الناتو أول من أمس، إرسال طائرات استطلاع من نوع «أواكس» للقيام بمهمات استكشافية في أجواء بولندا ورومانيا، في إطار «مراقبة» الأزمة في أوكرانيا.
ويقول مسؤول في الحلف في بروكسل إن مجلس الحلف الأطلسي الذي يضم سفراء الدول الـ28 الأعضاء «قرر القيام بطلعات استطلاعية لطائرات (أواكس) فوق بولندا ورومانيا.. ستعزز قدرة الحلف على مراقبة الوضع» في أوكرانيا. و«ستجري فقط فوق أراضي» الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، وبالتالي لن تحلق فوق أوكرانيا.
ويشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق إزاء التطورات المتسارعة للأزمة في أوكرانيا، وما تقوم به روسيا وخاصة فيما يحدث حاليا في شبه جزيرة القرم.
وهناك أسباب كثيرة لهذا القلق، منها ما يتعلق بعوامل اقتصادية أو أمنية أو سياسية أو اجتماعية، ولكن في الوقت نفسه لا يزال يراهن التكتل الأوروبي الموحد على إمكانية إيجاد حل دبلوماسي للأزمة من خلال عملية تفاوضية سواء عبر التفاوض الثنائي بين روسيا وأوكرانيا أو من خلال آلية متعددة الأطراف.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» تقول مايا كوسيانتيش المتحدثة باسم منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «نحن لا نزال نشعر بالقلق وسط تزايد التصعيد على الأرض، وتزايد الحشود الروسية العسكرية في شبه جزيرة القرم».
وتضيف «هناك تقارير تشير إلى عمليات ضرب واعتقالات وخطف لصحافيين وناشطين مدنيين وأيضا قطع قنوات التلفزة الأوكرانية من البث المباشر، إلى جانب عرقلة وصول مراقبين عسكريين غير مسلحين إلى شبه جزيرة القرم». وحول التعامل الأوروبي مع تلك التطورات تقول المتحدثة باسم كاثرين أشتون، إن هناك إصرارا على الحاجة إلى دخول روسيا في حوار مع أوكرانيا من أجل التفاوض بشأن حلول للخروج من الأزمة في ظل الاحترام الكامل للقانون الدولي وسلامة الأراضي الأوكرانية سواء كانت تلك المفاوضات في إطار ثنائي أو في إطار متعدد الأطراف. و«نحن في أوروبا مستعدون للمشاركة في هذه الآليات من أجل تحقيق نتائج ملموسة وتهدئة الوضع».
وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس حذر بفرض عقوبات جديدة على روسيا قد تبدأ خلال الأسبوع الحالي، في حال عدم تجاوب القيادة الروسية مع الاقتراحات الغربية لوقف التصعيد الأوكراني، ومن أبرزها إلغاء الاستفتاء على انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا والمقرر له يوم الأحد المقبل.
فابيوس قال متحدثا لإذاعة «فرانس إنتر» «أرسلنا عبر (وزير الخارجية الأميركي) جون كيري اقتراحا للروس من أجل (وقف التصعيد) في أوكرانيا»، دون أن يوضح تفاصيل هذا المقترح. وتابع أن الروس «لم يردوا بعد وإن ردوا إيجابا، فسوف يتوجه جون كيري إلى موسكو، وعندها لن تكون العقوبات فورية. وإذا لم تحدث استجابة أو كان الرد سلبيا، فستكون هناك مجموعة عقوبات قد يجري فرضها اعتبارا من هذا الأسبوع».
وقال إن هذه العقوبات «ستتضمن تجميد أموال شخصية بحق روس وأوكرانيين وعقوبات تستهدف التنقلات على صعيد تأشيرات الدخول».
من جهتها تقول روسيا إن السلطات الأوكرانية الجديدة وصلت إلى الحكم بانقلاب على السلطة الشرعية، وإن واشنطن لم تبد الاستعداد للانضمام إلى المساعي الدبلوماسية التي من شأنها فتح قنوات حوار مباشر بين كييف وموسكو.
وتقول ألمانيا إن عدم استعداد الحكومة الروسية لتقديم تنازلات بخصوص الأزمة الأوكرانية سيؤدي إلى فرض مزيد من العقوبات ضد موسكو.
وذكر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير في تصريح صحافي أن «روسيا إذا لم تكن مستعدة لتقديم تنازلات في الأزمة الأوكرانية فإن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى الوصول إلى مرحلة العقوبات». وأشار شتاينماير إلى أن العقوبات ستشمل قرارات بحظر السفر على شخصيات سياسية متورطة في الأزمة الأوكرانية بالإضافة إلى تجميد حسابات بنكية لهؤلاء الأشخاص.
ويرى الكثير من المراقبين والمحللين في بروكسل أن أوروبا تريد أن تظهر بصورة المراقب للموقف من بعيد وأنها لم تلعب أي دور في الأحداث فيما عدا دور الوساطة.
في غضون ذلك تواصل القوات الموالية لروسيا تعزيز سيطرتها على شبه جزيرة القرم الأوكرانية دون أي مقاومة، ويواصل الغرب والولايات المتحدة تحقيق التقارب مع حكام أوكرانيا الجدد، من خلال لقاء مرتقب لرئيس الوزراء الأوكراني الجديد أرسيني ياتسينيوك اليوم الأربعاء مع الرئيس باراك أوباما تلبية لدعوة من البيت الأبيض، دعوة تقول واشنطن إنها اعتراف بالدور المسؤول الذي لعبته الحكومة الجديدة في أوكرانيا.
وما زال الرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور يانوكوفيتش يؤكد أنه الرئيس الشرعي لأوكرانيا والقائد الأعلى للقوات المسلحة، قائلا إنه يعتقد أنه سيتمكن من العودة قريبا إلى كييف.
ولا تبدي بعض المصادر الأوروبية الكثير من التفاؤل بإمكانية تراجع موسكو عن مواقفها، «هناك من يعتقد في أوروبا أن موسكو ستبذل كل جهدها لمنع أي تقارب مستقبلي لأوكرانيا سواء مع الاتحاد الأوروبي أو مع حلف شمال الأطلسي»، وعبرت عن قناعتها بأن الروس قد يلجأون إلى كافة الوسائل لتحقيق غرضهم، ولو كان ذلك على حساب وحدة أراضي أوكرانيا.

* احتجاجات أوكرانيا
* اندلعت المظاهرات في نوفمبر (تشرين الثاني) بدءا من كييف، بعدما رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش اتفاقية تؤمن المزيد من التقارب الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي لصالح التقارب مع روسيا. لكن للأزمة جذورها، فأوكرانيا بلد متعدد الإثنيات والأعراق والأديان واللغات. وهو منقسم بين شرق يتكلم سكانه الروسية ويرون في روسيا بلدهم الأم، ويانوكوفيتش واحد من هؤلاء، وبين غرب يتكلم اللغة الأوكرانية ويدعو إلى الانضمام لأوروبا.
الانقسام إذن سياسي ثقافي اقتصادي ويجد عمقه في أزمة الهوية التي يعيشها البلد الذي نال استقلاله في عام 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.
ماذا لو اجتاحت روسيا أوكرانيا؟
من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور.. ولكن الحقائق على الأرض تقول الآتي:
* تَمد روسيا بـ31 في المائة من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز، 27 في المائة من واردات البترول الخام، 24 في المائة من واردات الفحم، و30 في المائة من واردات اليورانيوم. كما أن روسيا ثالث أهم مزود كهرباء للاتحاد الأوروبي.
* لكن هذه المعطيات لا تدل على تبعية اقتصادية أوروبية بحتة، حيث إن الاتحاد الأوروبي ليس فقط أكبر شريك اقتصادي لروسيا، بل يمثل كذلك سوقا استهلاكية لـ88 في المائة من الصادرات الروسية للبترول ولـ70 في المائة من صادراتها الغازية ولـ50 في المائة من صادرات الفحم.
* فضلا عن ذلك فإن صادرات الطاقة للاتحاد الأوروبي تشكل ما يجاوز 40 في المائة من ميزانية روسيا.
* نظرا للترابط الاقتصادي القوي بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، فمن الأرجح أن يعاني كلا الطرفين من خسائر اقتصادية جسيمة في حال ما تهورت روسيا وكثفت من وجودها العسكري في أوكرانيا، أو أسوأ من ذلك، إن قررت اجتياحها.
* لكن روسيا، عكس نظيراتها من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ستعاني، بالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية، من عزلة في المجتمع الدولي، بدأت علاماتها تظهر من خلال تعليق تحضيرات قمة مجموعة الثماني التي كان من المرتقب أن تنعقد بسوتشي في حزيران (يونيو) المقبل.
* وجدير بالذكر أن بورصة موسكو هبطت بما يعادل 10 في المائة خلال أول يوم مداولات بعد تحركاتها العسكرية التي حدثت في الحدود مع أوكرانيا الأسبوع الماضي.
* ستُعد أي محاولة لاجتياح الأراضي الأوكرانية بمثابة اعتداء إمبريالي بحت سيؤدي إلى عزل روسيا من طرف المجتمع الدولي.
* عواقب اجتياح أوكرانيا قد تنعكس سوءا على المصالح الروسية بالداخل كذلك؛ حيث إن انتهاكها لسيادة أوكرانيا الجغرافية قد يشجع أقلياتها العرقية في مناطق مثل سيبيريا الشرقية، الغنية بمواردها المعدنية وأراضيها الزراعية الخصبة، على المطالبة باستقلالها.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.