المتسوقون يستبدلون النظارات الشمسية بالمظلات في شوارع لندن

في أكثر شتاء اعتدالاً منذ عام 1960

شخص يقدم عرضًا للفقاعات الهوائية في ميدان بيكاديلي وسط لندن (تصوير: جيمس حنا)
شخص يقدم عرضًا للفقاعات الهوائية في ميدان بيكاديلي وسط لندن (تصوير: جيمس حنا)
TT

المتسوقون يستبدلون النظارات الشمسية بالمظلات في شوارع لندن

شخص يقدم عرضًا للفقاعات الهوائية في ميدان بيكاديلي وسط لندن (تصوير: جيمس حنا)
شخص يقدم عرضًا للفقاعات الهوائية في ميدان بيكاديلي وسط لندن (تصوير: جيمس حنا)

امتلأت حقائب سفر سياح العالم المتوجهين إلى لندن بالمعاطف والقبعات الشتوية والقفازات استعدادا لمواجهة موجة البرد المعتادة التي تنهال على العاصمة البريطانية في هذا الوقت من السنة، وتزيد من سحر زينات الشوارع والواجهات الفنية. إلا أن معظم هؤلاء أغفلوا إحضار نظاراتهم الشمسية، مستبعدين إمكانية تفوّق أشعة الشمس الدافئة على غيوم لندن الرمادية الكثيفة، وفوجئ الكثير من المتسوقين بدرجات الحرارة المعتدلة، بل والمرتفعة أحيانا بالمقارنة مع معدل درجات الحرارة في الشتاء، التي لا يشهدها اللندنيون إلا في فصل الخريف بالعادة.
وفي حين يقلق المراقبون وخبراء البيئة من تداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري التي تجلّت مظاهرها في الفيضانات الكارثية شمال بريطانيا، وتسجيل شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي لأعلى درجات حرارة في الجنوب الشرقي منذ عام 1960 حسب هيئة الأرصاد، استغلّ المتسوقون والسيّاح اعتدال الأجواء لتنظيم نزهات في حدائق لندن الشهيرة. فترى عائلات عربية «حطّت رحالها» تحت شجرة متفرعة في «هايد بارك» إلى جانب أكياس التسوق الكثيرة، أو زوجين إيطاليين يستمتعان بالبوظة على مشارف «سانت جيمس بارك»، أو حتى مجموعة تلاميذ صينيين يلتقطون صورا إلى جانب نافورة «ليدي ديانا» الأيقونية محتمين وراء قبعات كبيرة تحميهم من أشعة الشمس ومن قطرات المطر الباردة التي تبلّل الشوارع بين الفينة والأخرى.
وفيما يصعب الإدلاء بأرقام ثابتة ومقارنات بشأن عدد المتسوقين وحجم المشتريات في فصل التخفيضات بلندن هذه السنة، يؤكد مختصّون أن «حجم الإقبال على التسوق، من طرف البريطانيين والسياح، سيتفوّق على التوقعات بانخفاض العائدات، بعد اعتداءات باريس الدامية، بسبب العامل الأمني. ولعل أهمّ مؤشّر على ذلك هي الأرقام المرتفعة التي حقّقتها تخفيضات (الجمعة الأسود) وموسم التنزيلات الذي يبدأ عقب احتفالات أعياد الميلاد». تقول ماري آن، مسؤولة أحد متاجر الملابس في محل «هارودز» التجاري، إنها شهدت «إقبالا كثيفا، شبيها بالأعوام الماضية أو قد يفوقه بقليل، مشيرة إلى أن اعتدال الطقس كان عاملا مهما».
من جهتها، قالت فاطمة، شابة كويتية كانت على وشك دخول متجر تخفيضات بشارع «ريجنتس ستريت» الشهير: «فوجئت بصفاء السماء هذه السنة، اعتدت أن أزور لندن وعائلتي في هذا الوقت من العام للاستمتاع بزينات الشوارع واستغلال الفرصة لتجديد خزانة ملابسي الشتوية، إلا أن إحدى أولى مشترياتي هذه السنة كانت نظارة شمسية اخترتها بنفس لون معطفي وحذائي الشتوي».
وتوقعت مصادر اقتصادية تتابع حركة البيع في وسط لندن أن تصل مبيعات المتسوقين في لندن أيام «البوكسينغ داي»، التي تعرف في الثقافة الغربية بفتح صناديق هدايا أعياد الميلاد، بأكثر من 3 مليارات جنيه إسترليني (4.44 مليار دولار أميركي).
وفي مدخل حديقة «وينتر واندر لاند» للملاهي الشتوية، انضم جون بريتل بائع «الآيس كريم»، إلى عشرات العربات التي تعرض مأكولات الأعياد والمشروبات الساخنة والوجبات الخفيفة، وقال: «إنها أول مرة منذ سنوات أشارك في سوق طعام شتوية، فرغم انخفاض درجات الحرارة فإنها تبقى معتدلة للغاية بالنسبة لفصل الشتاء، ما يشجع الزوار على أكل البوظة وهم يلبسون قفازاتهم وأوشحتهم الساخنة». في المقابل، اضطر القائمون على إجراءات السلامة إلى إقفال مزلجة الجليد في الحديقة بشكل مؤقّت الأسبوع الماضي، حيث تسببت درجات الحرارة في ذوبان جزء من السطح الجليدي ما يهدد سلامة المتزلجين.
في المقابل، تسببت فيضانات، وصفها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بـ«غير المسبوقة»، في غرق آلاف البيوت وإلحاق أضرار جسيمة بمدن وبلدات في الشمال البريطاني خلال عطلة عيد الميلاد ونهاية السنة. وفيما فشلت تدابير الوقاية من الفيضانات في تفادي غرق مدن وبلدات، مثل يورك وليدز ومانشستر، أرسلت لجنة الطوارئ الحكومية٬ المعروفة بـ«كوبرا»٬ تعزيزات عسكرية إلى المناطق المنكوبة للمساعدة في إجلاء مئات الأشخاص.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)