الممثلة جين فوندا تفتح قلبها بعد حياة زاخرة بالتجارب

عمري الآن 78 سنة ولأول مرة أعرف من أنا

مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
TT

الممثلة جين فوندا تفتح قلبها بعد حياة زاخرة بالتجارب

مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا

في عام 1978 نالت الممثلة جين فوندا أوسكارها الأول (من اثنين)، وذلك عن دورها الأول في «العودة للوطن» Coming Home. هو واحد من أفضل أفلامها والسيناريو الذي كتبه والدو سولت وروبرت س. جونز عن رواية لنانسي داود كان من بين أفضل السيناريوهات التي آلت إليها لتمثيلها. ذلك الفيلم كان أيضًا أكثر من إنجاز فني جيد.
كان تعبيرًا عن السياسة السائدة في هوليوود، كما في واشنطن. كانت السينما شهدت عدّة أفلام تناولت الحرب الفيتنامية، كحال هذا الفيلم. جين فوندا بدورها كانت أحد أكثر المنتقدين للسياسة الأميركية. مخرج الفيلم هال أشبي كان يساريًا. مدير تصويره أكسل وكسلر كان مثله. الوحيد الذي يبدو اليوم تحت علامة تعجّب هو الممثل جون فويت الذي لعب هناك دور المجنّد الذي عاد من الحرب مقعدًا تقع فوندا في حبّه. فويت لاحقًا من أكثر ممثلي هوليوود تطرّفًا صوب اليمين. هل كان عكس ذلك آنذاك؟
في كل الأحوال، كان «العودة للوطن» أحد أفضل وأهم أفلامها كممثلة. قبله نالت أوسكار واحدًا عن دورها في فيلم يبحث في خفايا الصلة بين أصحاب السُلطة وبين بائعات الهوى عنوانه «كلوت» (لالان ج باكولا) ورشحت عن دورها في «جوليا» سنة 1977 لكن الثائرة السياسية الأخرى، فانيسا ردغراف، هي من فازت عنه بأوسكار أفضل ممثلة مساندة.
كل هذا يقبع في ماضي ممثلة تقول إنها احترفت التمثيل لسببين: كانت تبحث عن عمل، ووالدها (هنري فوندا) كان ممثلاً بدوره. لاحقًا، ميّزت بحضورها الفني والسياسي مندمجين، الحقبة الفنية والسياسية ذاتها.
انطلقت في الستينات وتبوأت الشهرة سريعًا وأصبحت نجمة أولى حتى الثمانينات. في أواخرها توقفت عن العمل وتحوّلت إلى ربة بيت ومؤلفة كتب. عادت إلى ما تيسر لها من أدوار في مطلع هذا القرن وحاليًا نراها في «شباب»، الفيلم الذي تم افتتاحه في مهرجان «كان» ويُعرض حاليًا في الصالات الأميركية.

* دورها الوحيد
- ما المختلف بين أداءاتك بالأمس و أداءاتك اليوم؟ أو هل هي مسألة فترات زمانية؟
- هناك الكثير مما هو مختلف، وربما ليس في الطريقة التي أمثل بها، بل في الخبرة التي تكوّنت لدي وجعلتني، ربما، أكثر تركيزًا في عملي على الجوهر وليس على الشكل. طبعًا أنا أكبر سنّا وقد يبدو هذا الكلام تحصيلاً، لكن المسألة ليست كلها مسألة فترات زمنية، كما ذكرت، بل هي أيضًا ما تستطيع الخروج به من تجاربك.
- وما هذه الخبرات تحديدًا؟
- كل الخبرات التي تتأتى عن طريق التعامل مع ممثلين آخرين ومخرجين مختلفين. تجلس وتستمتع وتراقب وتمثل. هذا مهم. لكني سأصارحك. لم أكن في بداية مهنتي مكترثة جدًا بما أقوم به. لجأت إلى التمثيل لأني طردت من وظيفتي الأولى كسكرتيرة (تضحك).
- هل استفدت من حقيقة أن والدك كان الممثل هنري فوندا؟
- ربما من حيث لا أعلم. ما أعرفه هو أنه عندما تكون ابنًا لممثل كبير، تجد نفسك منجذبًا إلى المهنة التي يقوم بها. وهذا ما وجدت نفسي عليه.
- انطلقت في الستينات. وأحد أفلامك الأولى كان «سر في الطرف المتهور» (Walk on the Wild Side) وملصق الفيلم حمل صورتك في تقليد لبعض نجمات هوليوود في الخمسينات. هل تأثرت بأحد منهن؟
- غريب أنك تذكر الملصق.
- نظرت إليه هذا الصباح.
- (تضحك) كنت أحب وما زلت كاثرين هيبورن، لكن الملصق لا يوحي بذلك.. أعلم. لا أدري كيف أجيب عن سؤالك. كان علي أن أنظر إليه أيضًا.
- مثلتِ مع كاثرين هيبورن لاحقًا في مهنتك.. سنة 1980 أو 1981.
- نعم. كنا في فيلم «على البحيرة الذهبية».
- هو الدور الوحيد بينكما والدور الوحيد بينك وبين والدك أيضًا. أليس كذلك؟
- نعم، في الحالتين. الوحيد بيني وبين هيبورن والوحيد بيني وبين والدي. لكن سبق أن عرض علينا العمل معًا قبل ذلك ببعض السنوات. كان هناك مشروع سيجمعنا لكني أعتقد أنه لم يثر حماس والدي كثيرًا.
- كيف تصفين اللقاء بينكما. شقيقك بيتر كرر القول إن والدكما كان لا يستطيع التعبير عن عاطفته. هل هذا صحيح؟
- صحيح، لكن هذا لا يعني أنه كان خاليًا من العواطف. بعض الرجال هكذا. يختزنون في دواخلهم الانفعالات والأحاسيس ولا يدرون كيف يعكسونها. لكن والدي كان رقيقًا جدًا.
- هل صحيح أنه بكى خلال تصوير الفيلم على نحو مفاجئ؟
- نعم. صحيح. كان المشهد يتطلب أن أمسك بيده. إنه المشهد الذي يحتوي على محاولة تواصل بيننا، وكان علي أن أمسك بيده لأعبر عن حبي له. أعتقد أن العاطفة اجتاحته فبكى ولم يكن من المتوقع له أن يبكي. شاح بوجهه بعيدًا، لكن المخرج (مارك راندال) استخدم المشهد بكامله.

* شعلة من الموهبة
كما تذكر، كان «على البحيرة الذهبية» هو الفيلم الوحيد بينهما، لكن علاقتها بوالدها تطوّرت بسبب الفيلم حتى وفاته. في خلال هذه الفترة كانت هوليوود بدأت تختلف عما كانت عليه ونتيجة ذلك غيابها عن الشاشة من عام 1989 حتى عام 2001. أي من فيلم «ستانلي وآيريس» أمام روبرت دي نيرو إلى أن عادت بفيلم «عصابات» (Bandits) أمام بروس ويليس وممثلة غير معروفة في تلك الأيام اسمها كايت بلانشيت.
- حين نتحدث عن الاختلاف بين جين فوندا آنذاك وجين فوندا اليوم هل توافقين على أن المختلف ليس فقط الممثل بل كل ما يتعلّق بالعمل السينمائي؟
- (بلا تردد) نعم أوافقك تمامًا. الفترة التي قررت فيها الغياب عن التمثيل كانت الفترة التي وجدت أن هوليوود ابتعدت عن نظام كان يعمل لصالح الممثل والمخرج إلى نظام يعمل فقط لصالح المنتج. هو صاحب العقد والكلمة الأولى.
- ماذا تقولين في نجوم اليوم إذن.. هل بينهم من يستحق الشهرة التي كانت لنجوم الأمس؟
- هل تمزح؟ بالطبع. خلال الأيام الماضية كنت على لقاء دائم مع كايت بلانشيت جنيفر لورنس وكيت وينسلت وكاري موليغان. كل واحدة منهن هي شعلة من الموهبة. ما تغير ليس الممثل على الإطلاق. النظام هو الذي تغير، كما قلت. في السبعينات وحتى مطلع الثمانينات كان الاستوديو يسهر على دعم ممثله. هو الذي يجعل الممثل نجمًا. هذا تغير. لكن الموهبة ما زالت موجودة.
- تعلمين أن المسألة كانت الصراع على النفوذ. في الستينات والسبعينات كان المخرج يمسك بزمام الأمور الفنية. الكلمة له. المنتج كان يلبّي حاجاته في الغالب. بعد ذلك تغير الوضع. حين النظر إلى المخرجين الذين تعاملت معهم في تلك الفترة مثل سيدني بولاك وهال أشبي وفرد زنيمان وألان باكولا، هل ترين فارقًا كبيرًا؟
- بطبيعة الحال. وأعتقد أنك أجبت عن السؤال بنفسك. المخرج كان كل شيء وهذا يريح الممثل ويساعده دائمًا. يتعلم الممثل من المخرج طوال الوقت ويؤلف خبراته من العمل معه عن كثب. المخرجون الذين ذكرتهم كان لديهم الوقت للاستماع إلى ممثليهم. كانوا يحبون النقاش ولديهم الوقت. لا أدري ما الحال عليه اليوم.

* في السياسة
جين فوندا في ذلك الحين كانت تتمتع بشهرة مزدوجة. هناك معجبون بها وبجمالها وبأدائها، كما كان هناك الذين يكرهون مواقفها السياسية. في أحد تلك المواقف عبّرت عن مدى تأييدها لفيتنام الشمالية. كان ذلك جزءًا من مواقفها السياسية المناهضة للمؤسسة السياسية التي عادت عليها بالكثير من الانتقاد. والتهمة الجاهزة كانت في أنها يسارية متطرفة.
- كلنا نعرف أنك كنت من بين الممثلين الليبراليين في هوليوود وربما ذهبت إلى حيث لم يذهب أحد سواك تأييدا للطرف المناوئ لسياسة بلاده. لكن هوليوود لم تتصرف معك بعداء. خلال تلك الفترة كنت تداومين الظهور في السينما. لماذا؟
- الأمور كانت غامضة إلى حد كبير آنذاك. موقفي كان يترجم إيماني بقضية إنسانية. أنا ضد الحرب. أي حرب. وبلادي كانت في واحدة منها تهاجم بلدًا بالكاد يستطيع أن يدافع عن نفسه. هذا كان موقفي. هوليوود كانت تعرف ذلك لكنها ولا تزال ليبرالية كفاية بحيث لا تمنع الممثل عن التعبير عن رأيه. لا تستطيع.
- متى بدأ توجهك السياسي فعليًا؟
- أحد الأفلام الأولى التي جعلتني أبدأ بالتفكير سياسيًا كان «أعناب الغضب» الذي قام والدي بتمثيله. هل تذكره؟ الفيلم الذي يصوّر حياة الشقاء بالنسبة للمزارعين الأميركيين خلال سنوات اليأس الاقتصادي. والدي كان الشاب الذي يواجه الظروف المعيشية الصعبة وينشد غدًا أفضل.
- كانت هناك أفلام ذات مضامين سياسية أخرى مثلها والدك مثل «حادثة أوكسبو» و«اثنا عشر رجلاً غاضبًا».
- والدي لم يتحدث عن هذه الأفلام كثيرًا. لكنها بالنسبة لي كانت مصدرًا لأفكاري الراديكالية.
- لكن لديك عددًا لا بأس به من الأفلام المشابهة. أتحدث عن «المطاردة» و«يقتلون الجياد، ألا يفعلون؟» و«كلوت» وبالطبع «كل شيء على ما يرام» لمناوئ آخر هو جان - لوك غودار.. هل أنت من بحثت عن هذه الأفلام أو هي التي قصدتك؟
- سؤال جيد. أعتقد قدرًا قليلاً من هذا وذاك. كنت أحب مثل هذه الأدوار، لكني لم أكتفِ بها. مثلت أيضًا «بارباريللا» و«حافية في الحديقة» و«الطائر الأزرق».. مجموعة كبيرة من الأفلام غير السياسية. وأحببتها جميعًا. ربما فضلت بعضًا على بعض آخر لكني أردت تمثيلها كلها.
- وهناك «العودة للوطن» لهال أشبي.. أيضًا ضد الحرب.
- صحيح.
- ما قضيّتك الرئيسية اليوم؟
- القضية الأساسية عندي الآن والمشكلة الرقم واحد هي ما نواجهه من خطر التغيير المناخي. لأنه إذا لم نتدخل لفعل شيء حقيقي، فإن مناطق من هذا العالم لن تصبح أماكن يمكن العيش فيها. ليس هناك الوقت لكي نفكر. علينا أن نبادر الآن. إذا كنت تقصد الحروب الدائرة في أكثر من مكان حول العالم… إنه الزمن. الناس لا تشيخ وحدها. الزمن يشيخ أيضًا. ليس هناك جديدًا في هذا الموضوع. إن لم تكن الحرب هنا فهي هناك أو في أي مكان آخر. لا أود حقيقة الحديث في هذا الموضوع.

* شباب دائم
الموضوع الذي تتحدث فيه جين فوندا أكثر من سواه هذه الأيام هو موضوع اشتراكها في تمثيل فيلم «شباب» للمخرج الإيطالي باولو سورنتينو: العنوان مثير للاهتمام بحد ذاته كونه يتمحور حول رجلين فاتهما الشباب هما مايكل كاين (82 سنة) وهارفي كايتل (76 سنة). إلى جانبهما وفي مشهد أو اثنين جين فوندا (78 سنة). ما يتحدّث عنه الفيلم هو تلك التبعات التي تتوالد مع التاريخ. الشهرة التي يتبوأ بها الفنانان، كاين الذي يؤدي دور الموسيقار وكايتل الذي يؤدي دور المخرج. الأول على يقين من أن عليه التوقف عن العمل، والثاني على يقين آخر أن عليه المواصلة لأنه إذا توقف مات.
جين فوندا تؤدي دور الممثلة الأميركية التي تأتي لزيارة المخرج لكي تقول له إن يفيق من تهيؤاته، فهو لم يعد المخرج الذي كان الناس تنتظر أفلامه وليس الفنان الذي يقدر النقاد ما يقوم به هذه الأيام. تسأله أن يستيقظ من غيبوبته المعاشة.
- هذه مواجهة قاسية. هل هوليوود بهذه القسوة؟
- هي قاسية بالفعل. الزمن قاسٍ أكثر. هناك الكثيرون من المخرجين الذين يعتقدون أنهم ما زالوا محور الاهتمام. نسبيًا ما أقوله في الفيلم ينطبق على آخرين، لكني في الواقع لست المرأة الساخرة ولا القاسية. ودعني أقل لك شيئًا، لقد وجدت أن وجودي في فيلم عنوانه «شباب» هو أمر مثير للاهتمام. الشباب هو روحك وليس جسدك. لقد قابلت خلال قيامي بوضع كتابي عن سنين العمر نساء تجاوزن المائة سنة من العمر، ووجدتهن أكثر شبابًا من كثيرات في العشرينات والثلاثينات من العمر التقي بهن في حياتي اليومية.
أنا نفسي كنت عجوزا وأنا ابنة الثلاثين. لماذا تعتقد أنني في سن التاسعة والأربعين وجدت أنني أفلست. لم يعد لدي أي شيء أقوله. أنا الآن شابّة من جديد. هناك شعر لتي إس إليوت لا أحفظه كما كُتب لكنه يقول إننا نمضي الحياة مكتشفين حتى نصل إلى سن متقدّمة لنجد أننا عدنا إلى بداياتنا. أنا الآن كذلك. عمري 78 سنة ولأول مرّة أعرف من أنا.
- متى شاهدت «شباب» وما كان رأيك به؟
- شاهدته وأنا في روما في ربيع هذه السنة. لم يكن باولو انتهى من العمل عليه، لكني أحببته كثيرًا. وجدته يوافق أفكاري.
- في هذا الفيلم كنت بصحبة ممثلين من جيلك تقريبًا. هل تفضلين العمل مع ممثلين من جيلك أو مع ممثلين أصغر سنًا؟
- كما ذكرت لك لم أستمتع بالتمثيل حين كنت أصغر سنًا. لاحقًا طبعًا، لكني في البداية لم أكترث كثيرًا. كنت أبحث عن عمل واتجهت إلى التمثيل. المسألة هي أنني مثلت آنذاك مع ممثلين من عمري ولاحقًا مع ممثلين أصغر مني ثم في هذا الفيلم مع ممثلين من جيلي. لا أستطيع إلا أن أقدر كل هذه التجارب لأن الموهبة هي الأساس وهي منتشرة بين كل الأجيال. سعدت كثيرًا أنني كنت في فيلم واحد من هارفي كايتل ومايكل كاين. هذا وحده مدعاة للسعادة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».