عز الدين ميهوبي: رئة الثقافة لم تتوقف عن التنفس في الجزائر لحظة واحدة

وزير الثقافة الجزائري يتحدث عن برنامج الوزارة الثقافي ولايرى ان هناك تراجعا

عز الدين ميهوبي
عز الدين ميهوبي
TT

عز الدين ميهوبي: رئة الثقافة لم تتوقف عن التنفس في الجزائر لحظة واحدة

عز الدين ميهوبي
عز الدين ميهوبي

يبدو أن وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي لم يكن يتوقع منا أن نطرح عليه أسئلة تعكس «سوداوية غير مبررة»، على حد تعبيره، فهو يجد أن الحديث عن تراجع الحياة الثقافية تعبير غير دقيق «ما دامت العشرات من الأسماء الأدبية قد أحدثت نقلة نوعية في شتى أشكال الإبداع الأدبي وأوصلت صوت الجزائر إلى كثير من المحافل العربية»، وأن «المثقف الجزائري تحول اليوم من وضع المستضيف إلى وضع الضيف ومن حالة الاستقبال إلى حالة الإقبال ولا يكاد يخلو مؤتمر أدبي أو فني من حضور جزائري مميز».
هنا لقاء مع وزير الثقافة الجزائري، يتحدث فيه عن برنامج الوزارة الثقافي، وما تحقق منه، وكذلك عن البرامج والخطة الثقافية المستقبلية:

* بداية، ألا تشكل معرفتكم الدقيقة بحكم ماضيكم ككاتب وإعلامي ومسؤول مسؤولية كبيرة في ظل النقائص الكبيرة التي يعاني منها المشهد الثقافي الجزائري الأمر الذي يسبب لكم ضغطا لا تحسدون عليه؟
- في البداية، اسمح لي أن أعبر لكم عن امتناني وشكري لاهتمامكم من قبل صحيفة عالمية الانتشار في قيمة «الشرق الأوسط». وعطفا على سؤالكم فإنني أعتقد أن هناك رغبة قوية من قبل الحكومة الجزائرية لاستكمال برنامج الدولة الثقافي، الذي اشتغل عليه مجموعة من وزراء الثقافة السابقين، وهو البرنامج المستمد من رؤية ثقافية تهدف إلى تأكيد الشخصية الجزائرية بكل ما تحمله من أبعاد تاريخية ومعرفية، ومن ثم الحفاظ على خصوصيتها والتفتح على مختلف الثقافات الإنسانية. وفي الحقيقة نعمل جاهدين على أن نقدم تصورا ثقافيا ضمن إطار يكون في مستوى الحرص الذي يمليه السيد رئيس الجمهورية والاهتمام الذي توليه الحكومة الجزائرية في بلد يملك من التنوع الثقافي والفني بين مختلف أقطاب الساحة الثقافية واتجاهاتها. لكننا قد نتحفظ من وصفكم للنقائص بالكثيرة لأن التنوع والتعدد الذي أشرنا إليه سابقا، يجعل من وجود نقائص في العمل الثقافي أمرا طبيعيا لأن مهمتنا ليست صناعة الثقافة، وإنما تسيير الثقافة وخدمتها. الثقافة عمل وسلوك يومي تشارك وتساهم في صناعته كل مؤسسات الدولة وجميع تشكيلات المجتمع والفرد في تصورنا هو اللبنة الأولى للتنمية الثقافية المستديمة ووزارة الثقافة تعمل على إدارة الشأن الثقافي بالتنسيق والاستشارة مع كل القطاعات التي نراها شريكة في صناعة الساحة الثقافية على غرار التربية والتعليم والسياحة، وكل هذا يتم استنادا إلى مرجعيتنا الدستورية وبالاهتمام الشخصي لرئيس الجمهورية وبمتابعة الوزير الأول.
* ما التصور المبدئي الذي جئتم به للوزارة انطلاقا من معرفتكم القديمة للقطاع كمثقف وكاتب ومسؤول سابق لاتحاد الكتاب؟
- ندرك جيدا أن تشكيل تصور ورؤية شاملة لتسيير قطاع الثقافة في الجزائر يحتاجان إلى تنسيق حكومي متواصل وهو ما يحدث حاليا ذلك أن الدولة وضعت من أولوياتها جعل قطاع الثقافة قطاعا منتجا وفعالا، علاوة على مهام وزارة الثقافة التي تتمثل في تسيير شؤون الثقافة وتحريك الفعل الثقافي، بات من الضروري أن تكون الرؤية مشتركة بين كل القطاعات الشريكة في الحكومة وفي مقدمتها المشتغلون في حقل الإبداع من مسرح وسينما وأدب وفنون تشكيلية ومهتمين بالتراث المادي واللامادي، فرهان المرحلة يقتضي العمل على مساري ترسيخ المكتسب الثقافي والدفع بالاستثمار الخاص ليكون شريكا في وضع صناعة المنتج الثقافي.
* الكثير من المثقفين والإعلاميين يتحدثون عن تراجع الحياة الفكرية والفنية بوجه عام مقارنة بالسبعينات والثمانينات.. ما تعليقكم؟
- أولاً، ما مؤشرات التراجع؟ ثم لنفترض أننا اتفقنا على هذا الأمر، كيف لنا أن نناقش أسبابه ونبحث عن سبل استعادة هذه الحياة الثقافية والإنسانية؟ الجزائر لا توجد في منأى عما يحدث في العالم وهي جزء هام منه تتأثر وتؤثر فيه وتتفاعل مع كل المستجدات التي تحدث هنا وهناك، ثم إن تراجع الحياة الثقافية هل يعني بالضرورة تراجع الثقافة؟
* والجواب؟
- أبدًا. إن الحياة الثقافية هي الجسد الذي يحمل روح الثقافة، ويبدأ هذا الجسد الحياة صغيرا ثم شابا قويا، يمرض ويتعب، لكن هذا لا يعني أبدا أنه يموت، بل تنتقل هذه الروح من جسد إلى آخر، من جيل لآخر، وتاريخ الجزائر الثقافي يؤكد هذا. واسمح لي أن أعود قليلا إلى الوراء لأذكر القارئ العربي أن الحياة الثقافية في الجزائر لم تمت في يوم من الأيام. ففي أعتم مراحل الاستعمار ظلمة ومن أشد زواياه التاريخية حلكة منحت الجزائر الإنسانية أسماء ثقافية بارزة لا تزال إلى اليوم تحرك أسئلة الثقافة وتساهم في تجلياتها منذ «أبوليوس» أول روائي في التاريخ وهو أمازيغي مناوئ للرومان إلى عمر راسم، ومحمد الخضر حسين، ومالك بن نبي، ومفدي زكريا، ومحمد العيد آل خليفة، وحمودة بن الساعي، ورضا حوحو، ومحمد ديب، وكاتب ياسين، ومالك حداد، ومحمد راسم. أذكر هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحسر، فالمجال لا يسمح بذكرها كلها. وعندما ضرب الإرهاب المتوحش الجزائر في مطلع التسعينات، كان يدرك أهمية المثقف في التصدي للظلامية فكان المثقف هدفه الأول وكان من ضحاياه عشرات المثقفين الذين سقطوا على أيدي أعداء الحياة والتسامح. لذلك تجدنا نسعى لاستعادة هذه الحياة الثقافية في بلد لم تتوقف فيه رئة الثقافة عن تنفس هواء الثقافة لحظة واحدة، وكان لسياسة الوئام المدني وميثاق السلم والمصالحة الوطنية الأثر القوي في استعادة الجزائر أمنها واستقرارها، وما كان ذلك ممكنا لولا القراءة العميقة التي أولاها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للمجتمع الجزائري وإدراكه لأهمية تجنيب الأجيال تبعات الأزمة التي كادت تدمر أركان الدولة ومؤسساتها.
* خلافًا لمرحلة حكم الحزب الواحد ورغم التضييق على الحريات السياسية والفكرية مقارنة باليوم، يحن الكثير من المثقفين والصحافيين إلى الماضي القريب الذي برز فيه مفكرون وأدباء ومؤرخون كبار تركوا فراغا كبيرا وعرفت تلك الفترة انفتاحا على العالم العربي، الأمر الذي سمح بزيارة أدباء كبار من أمثال نزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وفنانين، خلافًا ليومنا هذا الذي تبدو فيه الجزائر معزولة ثقافيا وأنا شخصيا عايشت الغليان الذي كان قائما كصحافي ومثقف.. ما ردكم؟
- أصر على تحفظي الشديد على مصطلح ضمور، فالوضع لم يصل إلى هذا الحد من السوداوية التي ينظر من خلالها البعض إلى الساحة الثقافية، وإن كانت الجزائر محل اهتمام كتاب وأدباء في وقت سابق فإن الدول العربية اليوم محل اهتمام كتاب وأدباء جزائريين، والمثقف الجزائري تحول اليوم من وضع المستضيف إلى وضع الضيف ومن حالة الاستقبال إلى حالة الإقبال ولا يكاد يخلو مؤتمر أدبي أو فني من حضور جزائري مميز. من المهم جدًا أن نتحدث عن الأسماء التي ذكرت كنقطة تحول كبيرة في مسار الثقافة الجزائرية، لكن لا يمكن أن يحدث التحول الثقافي في أي عصر وفي أي بلد كل سنة أو كل عشر سنوات. تتحدث عن أسماء أدبية وفكرية جاءت في سياق تحول إنساني عميق وهي نتاج واقع فكري وثقافي جزائري امتد لعشرات السنين بدءًا من أبي اليقظان، والسعيد الزاهري، ومحمد راسم، وبن باديس، وبن سماية، والأمير خالد، ورمضان حمود، وغيرهم ممن ساهم في استعادة الوعي الجزائري من سجن الاحتلال في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها قاسية، ومثلما استلزمت المرحلة التاريخية اليوم وجود هذه التعددية السياسية والفكرية التي نعتقد أنها شكلت صدمة روحية إيجابية ما زلنا نحتاج إلى وقت كي نعبر فيه إلى مرحلة التعايش، وهذا لا يتم إلا من خلال الثقافة التي من شأنها أن تخفف هذه الصدمة.
ومن جانب آخر، لا أفهم لماذا يتوقف السؤال عند جيل الركيبي ودودو وغيرهما، بينما يلغي تماما المساهمات الثقافية والإبداعية لواسيني الحائز على جوائز عربية عدة منها الشيخ زايد وكتارا وأحلام مستغانمي الحائزة على جائزة نجيب محفوظ للرواية وعياش يحياوي الحائز على جائزة العويس وفضيلة الفاروق وحرز الله وسمير قاسمي والخير شوار وأسماء أخرى مثل جوادي وحمدي ومفلاح وحمري وأزراج الحائز على جائزة اللوتس وعامر وفاسي والزاوي وزتيلي ومنور وشكيل وبلحسن وجلطي والأعرج وبوشحيط ووبوجادي وفلوس وفني وحديبي ومرياش وميلود حكيم وطاهوري وبن خليفة وأسماء ذات أداء قوي نال كثير منها جوائز عربية ودولية أمثال دحية وصديقي وظريف وإسماعيل يبرير والراحل مالك بوذيبة، وأخرى صاعدة بقوة تنبئ بمهارات إبداعية عالية وبشهادات نقاد وقارئين جيدين للمشهد الثقافي العربي. لم يقتصر التفوق على الأدب، وطال السينما والمسرح والتشكيل وعليه نحن مطمئنون لمستقبل الثقافة الجزائرية بتنوعها اللغوي خاصة ما اتصل باللغة الأمازيغية، حيث بدأت ملامح المنجز الأدبي والسينمائي والمسرحي تظهر جليا وتؤكد حضورها الوطني، إذ تمت ترجمة رواية أحلام مستغانمي «الأسود يليق بك» للأمازيغية وأعمال أخرى في خطوة لتعزيز مكانتها في الساحة الثقافية الجزائرية، وبالتالي فلا جدوى من تجزئة حركة الثقافة الجزائرية. بعيدا عن المجايلة في الثقافة الجزائرية، لا يمكن القفز على المرحلة الأكثر سوادًا في حياة الجزائر المستقلة، وهي التي سعى فيها الإرهاب إلى تدمير ركائز الدولة وكتم أنفاس الكتاب والصحافيين، إذ إن الطاهر جاووت، ويوسف سبتي، وبختي بن عودة، وعبد القادر علولة، وسعيد مقبل، وعز الدين مجوبي، وجمال الدين زعيتر، وحسني شقرون، ومحمد الصالح باوية، والهادي فليسي، وغيرهم من الذين امتدت إليهم يد الغدر والإرهاب كانوا في جبهة الفكر التنويري لمقاومة الفكر التدميري، وبالتالي لا يمكن تجاوز كل هذه التحولات بأسئلة تمجد مرحلة وتلغي مراحل.
* التكوين الذي كان قائما حتى وقت غير بعيد تسبب هو الآخر في تراجع الحياة الفنية بشقيها المسرحي والسينمائي، والمواهب الكثيرة التي برزت في السنوات الأخيرة ليست في مستوى تقنيات وموجات الإبداع المعاصر وورثت من الجيل السابق الخطاب السياسي، وهذا ما لاحظه نقاد عرب وأجانب أعجبوا بقدرات الكثير من الفنانين الجزائريين في أكثر من مهرجان عربي وفي مهرجان قرطاج المسرحي بوجه خاص.. ما تعليقكم؟
- أنت تتحدث عن تراجع ثم عن إعجاب ومع هذا أعود لأؤكد لك أن وزارة الثقافة لا تصنع الثقافة، إنما تسيرها، وإن كان الهدف الأسمى هو الإصلاح الثقافي وصناعة الثقافة الحديثة لا يستلزم أبدا إنشاء معاهد لتكوين الشعراء والأدباء والفنانين.
* هذا تأويلكم للتقدم، سيادة الوزير، وأنا أحترمه.. والدليل على أن حديثي عن التراجع لا يشمل الأدب لخصوصيته الإبداعية القائمة على الموهبة الإنسانية بالأساس، إيماني بقدرات العشرات من الكتاب الشبان غير المعروفين بالقدر الكافي في الخارج بسبب غياب استراتيجية ثقافية مدروسة تمكن من إيصال الصوت الجزائري الفكري والأدبي في الخارج على مدار العام وليس فقط بمناسبة المهرجانات والمعارض التي تبرز فيها الأسماء الكبيرة، وحتى توزيع الكتاب غير مهيكل داخليا مهنيا ولا يكشف عن توجهات وميول واهتمامات القراء؟
- سؤالكم على قدر كبير من الأهمية، واللغة لم تكن في يوم من الأيام حاجزا أمام التعايش الثقافي، سواء داخل حيز ثقافي واحد أو بين أكثر من حيز. نعتبر في وزارة الثقافة أن التعدد اللغوي ظاهرة صحية وضرورية، وأن هذا النقاش والحراك الحاصل أمر طبيعي جدا، ولذلك تجدنا نعمل على السير بهذا الاختلاف نحو التكامل الذي يمنح الإضافة اللازمة للشخصية الثقافية الجزائرية المتنوعة. من هنا، فإننا نهيب بكل المثقفين والكتاب الجزائريين، بغض النظر عن توجهاتهم، أن يساهموا في هذا المسعى. أما الخلافات الآيديولوجية المرتكزة أساسا على خلافات سياسية جوهرية فهي لا تعنينا تماما، لكننا نسعى من خلال الفعل الثقافي الرزين والهادئ والطموح إلى أن نجمع بين كل اتجاهات الثقافة بكل محمولاتها معتقدين أن أي نقاش ثقافي يحدث هو إضافة لسياسة البلد الثقافية. أما الحديث عن وجود طلاق وانغلاق ففيه كثير من المغالاة وأنتم بحاجة إلى إعادة تحميض الصورة.
* كيف ذلك علمًا بأن المثقفين المعربين والمفرنسين الذين يتواصلون مع بعضهم البعض لا يكاد يذكر ويتوقف على بعض الكتاب المعروفين من أمثال واسيني والزاوي وبوجدرة وأن كل جناح مخندق في جبهته والمعرب لا يقرأ للمفرنس والعكس صحيح؟
- هذه الصورة التي تعطونها وأنتم في باريس.
* أخيرًا كيف بقيتم تكتبون رغم انشغالاتكم كوزير؟
- أصر على أن الكتابة التزام مني تجاه القارئ وتجاه نفسي، ولم أكن في يوم من الأيام متفرغًا للكتابة، لكنني أبذل جهدًا إضافيًا على حساب العائلة والأصدقاء لأكتب.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي