صور بغداد الفوتوغرافية.. شواهد على ماض جميل

أولها التقطها العالم الفرنسي جوزيف نيبس عام 1826

الملك فيصل الثاني مع الملكة أليزابيث الثانية، ملكة جمال بغداد 1947، شارع الرشيد 1957
الملك فيصل الثاني مع الملكة أليزابيث الثانية، ملكة جمال بغداد 1947، شارع الرشيد 1957
TT

صور بغداد الفوتوغرافية.. شواهد على ماض جميل

الملك فيصل الثاني مع الملكة أليزابيث الثانية، ملكة جمال بغداد 1947، شارع الرشيد 1957
الملك فيصل الثاني مع الملكة أليزابيث الثانية، ملكة جمال بغداد 1947، شارع الرشيد 1957

صورة بغداد الفوتوغرافية، التي وثقت لحياة العراقيين منذ بداية العشرينات وحتى عقد وعقدين من الزمن الجمهوري، برزت كأي زقاق باريسي مدقق الزوايا بالعمارة الحالمة والإيقاعات الصباحية الكلاسيكية.
الصورة المرئية لفتى حليق يرتدي بنطالا من القماش وقميصا أبيض مع حذاء جلد، وفي قطبين جانبيين للمشهد تظهر الدراجات الهوائية حديثة الانتشار في العالم المتقدم آنذاك، مع ماركة السيارتين المسرعتين في الشارع نفسه، ليس هذا المثال الوحيد على حياة متحضرة.. فالعمارة وأسيجة الشرفات الممتدة، وتضلعات الأعمدة في شارع الرشيد، هي صور فوتوغرافية احتفظت بالإرث الثري، الذي أنتجته جماليات حركة العمران الحديثة في بغداد، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى دخول القوات البريطانية إلى العراق 1917.
* صورة بغداد عام 1957
بلغت بغداد ذروة الرخاء المرئي مرتين: في الرخاء الأول، لم تكن توجد كاميرا فوتوغرافية لتوثقه ليترك تصوراته على لوحات ورسومات تعود إلى عصر بطل رواية ألف ليلة وليلة هارون الرشيد (786 - 809) وابنه المأمون (813 - 833). أما العصر الآخر فاستطاعت الكاميرا الفوتوغرافية أن توثق جانبا من جمالياته بعد انتهاء الحكم العثماني، وبداية عهد الملكية عام (1921 _ 1958)، ولحق به عقد أو عقدان من العهد الجمهوري. وهذه الفترة الثانية التي شهد على حدوثها الفوتوغراف جاءت إثر ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وعمرانية مجتمعة.
عن عصر الرخاء الأول، نشر المستشرق الألماني آدم ميتز (1869 - 1917) كتابا بعنوان «حكاية أبي القاسم البغدادي»، الذي عبر فيه عن اندهاشه بحضارة بغداد في القرنين الهجريين الثالث والرابع. أما المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون (1841 - 1931)، صاحب كتاب «حضارة العرب منتصف القرن التاسع عشر الميلادي»، فقد اعتبر بغداد العباسية أهم مدن الشرق.
وفي العصر اللاحق لإنتاج الصورة الفوتوغرافية، بعد أول صورة فوتوغرافية حقيقية التقطت عام 1826 على يد العالم الفرنسي جوزيف نيبس، تم التقاط أولى الصور الفوتوغرافية لبغداد عام 1872 ضمن رحلة استشراق للمؤلف الأميركي بيرك فوك صدرت في كتابه «غربستان أو بلاد ألف ليلة وليلة». وفي هذا الكتاب نشرت عدة صور فوتوغرافية لما شاهده الكاتب في بغداد من إيوان كسرى وواجهة جامع مرجان قبل فتح خليل باشا جادة سي، وصورة للوالي رديف باشا بطربوشه ولحيته ومعطفه الذي يصل إلى الركبة!
لم يفتح انطلاق خط سكة القطار بين بغداد وبرلين طرق التجارة فقط، بل فتح معها أبواب الوصول للمستشرقين الألمان وهواة التنقيب واكتشاف المدن، أولئك المتنقلون بكاميراتهم ثقيلة الحمل، للوصول إلى أماكن قرأوا عنها في الكتب. وهنا أصبح خط بغداد - برلين وسيلة وصول لمصورين ينتمون لخلفيات وأساليب متعددة، فمنهم من يبحث عن الوجوه والبورتريهات الشخصية في عمق أزقة المدينة وبين أسواقها وصولا إلى مزاراتها الشعبية وحركة الأعياد والمناسبات العامة فيها، ومنهم من كان يهوى الزخرفة والعمران، ويبحث عن عن التاريخ في المدينة المشبعة بالقباب والأقواس والرسوم النباتية والهندسات المثيرة.
وكان مدير البنك الألماني جورج فون سيمنس، قد أعد البعثة الاستطلاعية التي مولها البنك لوضع مخطط مشروع بناء خط قطار بغداد - برلين، معتمدًا في تحقيق رغبته على المستشرق الألماني الشهير ماكس فون أوبنهايم (1860 - 1946) صاحب الموسوعة الشهيرة «البدو» عن القبائل العربية، وواضع دراسة خاصة عن أفضل الطرق لمد خط قطار بغداد المار عبر الموصل ثم حلب، الذي اكتمل أخيرا وبعد مروره بمرحلتي بناء من عام 1900 وحتى عام 1910.
فوتوغرافيون كثر، بينهم ألمان، ومن جنسيات أخرى من المستشرقين وثقوا لأعوام العشرينات في العراق، وبذلك نقلوا مع مؤلفات وبحوث متخصصة عشرات الصور الفوتوغرافية التي بقيت طي الكتب، بينما لا توجد مصادر توثق لأسماء الفوتوغرافيين بشكل واضح سوى ما يتناقله الجميع من حكايات عنهم لتبقى صور الفوتوغراف متداولة توثق لفترات مختلفة عن بغداد في المجلات القديمة وفي فضاءات إلكترونية تشير بشكل خاطف ومقتضب عن رحلة التوثيق الفوتوغرافية تلك.
* قصة الألمان المتداولة
إحدى البعثات المستكشفة وصلت إلى بغداد الحديثة في أعوام الستينات. آنذاك كانت المدينة في أبهى حللها تتشارك الحفلات والمواسم الاجتماعية وطقوس السينما وإقامة المعارض الفنية وحضور فرق موسيقية أجنبية، وسواح كثر للتجوال من ساحة التحرير وشارع الرشيد إلى سوق السراي وإلى الصفافير ودخول بغداد القديمة من أخمص ساحة الميدان حتى أعلى رأس ساعة القشلة، يتحدث المصور الفوتوغرافي الملازم وجوده في مقهى الشاهبندر عن وصول إحدى هذه البعثات وأغلبهم من الألمان جامعين أكبر عدد ممكن من العراقيين ممن يعرف التقاط الصور عبر الكاميرا الشمسية، وكانوا يطلبون منهم تصوير كل شيء، الشوارع والجدران ومشي النساء في الأسواق، العبور بين كرخ بغداد ورصافتها، وحتى البزازين والخفافين ودابغي الجلود وأصحاب المطابع، يلتقط المصورون الفوتوغرافيون يوميا عشرات الصور ويتلقون مبالغ سخية إزاءها، وفي مقابل غياب المعلومات عن مرحلة التوثيق تلك إلا أن جميع الصور القديمة المتداولة على كثرتها سواء التي تشير لفترة الحكم العثماني والعهد الملكي، احتفظت بطابع خاص عن مدينة تحاول امتلاك مقومات المدينة أو عن مدينة حقيقية تملك خصائص المدن بإيقاعها وحركاتها وسلوك وحياة سكانها.
* الكاميرا الشمسية.. الجمال في الأزقة
تثير الصورة «القديمة» للمدينة شيئا من الحنين في مراقبة أحداث زاهية، يتوسطها ملوك العراق وزعماؤه، وليس انتهاء عند حرفييه وصناعه، ونسائه وهن يتكئن بثياب أنيقة على أطراف حافات المسابح آنذاك. في الغالب ليست هذه الوثائق البصرية سببا لإثارة الشجن العاطفي والتساؤل عن الزمن الذهبي للمدينة، بل لإعادة دراسة تحولاتها عبر الفوتوغرافية، فليس من الغرابة أن تتفنن بضعة كاميرات شمسية بحمولات ضخمة من إنتاج صور تظل مع الأذهان كلما طرق اسم مدينة ما، أو لاعب شهير أو نجمة سينمائية، فيما لا يستطيع تقديم ذلك شيوع الكاميرا ذات التقنيات العالية والتكنولوجيا الحديثة ووصولها لأعداد غير متوقعة من الموثقين سواء كانوا من الفوتوغرافيين أم ممن يستهوي التقاط الصور.
* الخراب الفوتوغرافي
ما فعلته صورة بغداد الفوتوغرافية القديمة أنها رسخت تقديم العاصمة العراقية كمدينة متحضرة لها عوالمها وأبطالها الساحرين، بشكل أشد مما تفعله الصورة الفوتوغرافية اليوم، التحولات السياسية هي الأخرى تركت أثرها على طبيعة المجتمع، فبعدما استثمر الإنجليز التنوع الثقافي والديني فيها بين يهود ومسلمين ومسيحيين وتجار فرس وأتراك وأرمن كانوا عمادة المجتمع البغدادي. عادت تلك التحولات مرة أخرى لتترك بصمتها على هذا الغياب وتفريغ العراق من تنوعه وثرائه الاجتماعي، فالصورة هي شاهد عيان محايد وقاس أحيانا حين عكست مراحل النمو الاجتماعي المتتابع التي تداعت إلى سقوط سريع.
«المستشرقون الغربيون أرخوا ورسموا وصوروا بغداد كمدينة، دخلوها كأفراد أول الأمر، سواء أكانوا باحثين أو مستكشفين بمدن الشرق منذ قرون، بينما صور بغداد في القرن الثامن عشر كانت لعلماء الآثار، والغالب منهم الألمان، ثم بعدهم الإنجليز»؛ يوضح زياد تركي أحد مصوري الفوتوغراف العراقيين والمقيم في الولايات المتحدة الأميركية. بينما بقيت المبادرات العراقية للمصورين فردية لفنانين ومعماريين، ويغيب عنها دعم المؤسسات، سواء في تلك القديمة منها، امتدادا إلى يومنا هذا، عكس ما حصل من وفود زارت العراق مدعومة بالمؤسسات والجامعات ومراكز البحوث.
* صناعة الأرض والضوء
لكن التجارب العراقية البارزة لم تغب تماما، أبرزها للمصورين الفوتوغرافيين فؤاد شاكر وناظم رمزي اللذين تناولا موضوعات فوتوغرافية عن المدينة والعمران والمشاهد في الظل والضوء.
الملمح الحضري للمدينة يغيب خلف الأسلاك الشائكة والجدران الكونكريتية المنتشرة في المدينة. يعلق المصور الفوتوغرافي زياد تركي: «اليوم بغداد مدينة حرب منذ 1980 ولم تهدأ، بل أصبحت أقدم مدينة شاهدة على آثار الحروب في تأريخنا الحاضر كل شيء فيها يحمل ندوب وجروح الحروب الطويلة.. الإنسان والجدران والأشجار. ندوب هنا وهناك في المدارس وفي دور العبادة. لم تعد هناك بنايات ومعمار يعكس هوية بغداد. حتى أقدم شارع فيها أهملته الحرب وكسرت هيبته. لم تعد فيه طبقات وسطى علاوة على فقده ذلك التنوع الاجتماعي المميز الذي شكل هوية العراق كله».
المدن لا تشيخ ولا تطعن في السن. عندما تتمتع بوجود مجتمعات حيوية مثل تلك التي كانت تبحث عن الجمال وتلاحقه في مدينة مثل بغداد تظهر المدينة في الصورة مثلما كانت تنظر تلك المجتمعات إلى المستقبل، وبالعمل الدؤوب لإنتاج حيّز مكاني لافت وممكن توثيق لحظته، فوتوغراف بغداد الذي رفع من شأنها سلفا ظلمها الآن، فلا بغداد كانت في الحقيقة تشبه الصورة آنذاك ولا هي اليوم نسخة طبق الأصل عن الصورة السريعة الملتقطة بدورة واحدة لهاتف يسجل نوع النسخة الأسرع للفوتوغراف (سيلفي)، لكن لا مناص من حقيقة أن الحنين إلى بغداد مدينة الشرق والظل والضوء على سطح الصورة الفوتوغرافية شاهد على زمن جميل مضى وكل ما في عراق اليوم يقول إنه لن يتكرر.



شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
TT

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية. تحضر المرأة بقوة في هذا الميدان، وتتجلّى في نماذج ثابتة تتشابه في قالبها الثابت الجامع، وتختلف في عناصر تفاصيلها المتعدّدة المتحوّلة. يظهر هذا القالب الواحد بشكل جلي في شاهد خرج من مقبرة المقشع، يمثّل سيدة ترتدي اللباس التقليدي المتعارف عليه. ويبرز هذا التباين بشكل خاص في شاهد آخر خرج من مقبرة الشاخورة، يُمثّل سيدة تتميّز بأناقتها المترفة.

بين عام 1992 وعام 1993، أجرت بعثة محلية حملة تنقيب واسعة في مقبرة أثرية تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها. أدّت تلك الحملة إلى الكشف عن مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع، منها شاهد قبر عمودي من الحجر الجيري يبدو أقرب إلى منحوتة ثلاثية الأبعاد، عُرض للمرة الأولى في باريس ضمن معرض مخصص لآثار البحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في ربيع 1999. يبلغ طول هذه المنحوتة 37 سنتمترا، وعرضها 17 سنتمترا، وتُمثّل سيدة منتصبة ترتدي عباءة طويلة تلتف حول رأسها وجسدها على شكل المعطف اليوناني التقليدي. يعلو هذا المعطف ثوب من قطعة واحدة يظهر منه طرفه الأسفل، وفقاً للقالب الكلاسيكي المعهود الذي عُرف في سائر الشرق الهلنستي.

يوحي طول المنحوتة بأنها تجسّد تمثالاً نصفياً، مع ظهور إضافي للقسم الأعلى من الساقين المتمثّل في الوركين. يبدو القالب في ظاهره يونانياً تقليدياً، غير أن الأسلوب المتبع في نقش ثنايا العباءة الملتفّة حول القامة يعكس أسلوباً شرقياً مغايراً يظهر في اعتماد شبكة من الخطوط المتوازية هندسياً تنسكب حول القامة وتحجب مفاصل البدن بشكل كامل. تُمسك السيدة بيدها اليسرى طرف العباءة الأوسط، وترفع ذراعها اليمنى نحو أعلى صدرها، باسطة راحة يدها، وفقاً لحركة تقليدية تميّز بها الفن الإيراني القديم، في زمن الإمبراطورية الفرثية التي امتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات، في ما يُعرف في زمننا بوسط تركيا، إلى شرق إيران، وسادت على طريق الحرير، وأضحت مركزاً للتجارة والتبادل التجاري والاجتماعي في القرنين الميلاديين الأولين. يظهر هذا الطابع الشرقي كذلك في نحت سمات الوجه، وفي نقش ملامحه وفقاً لطراز خاص يغلب عليه طابع التحوير والاختزال.

العينان لوزتان واسعتان مجرّدتان من أي تفاصيل، وأجفانهما محدّدة بوضوح. الأنف متّصل بخط واحد مع الجبهة، والفم كتلة بيضاوية أفقية يخرقها في الوسط شق يفصل بين الشفتين. تعلو الجبين خصل من الشعر نُقشت على شكل شبكة هندسية تحاكي في صياغتها وريقات نبات النفل المتجانسة، وتعكس هذه الشبكة كذلك أثر التقاليد الفرثية التي بلغت مناطق واسعة من الشرق القديم. تختزل هذه المنحوتة في صياغتها قالباً اعتُمد بشكل واسع في البحرين في الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، كما تشهد مجموعة كبيرة من شواهد القبور الأنثوية التي عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عديدة تعود إلى هذه الدولة الجزيرية الواقعة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

ساد هذا التقليد بشكل واسع كما يبدو، غير أن هذه السيادة لم تحدّ من ظهور تنوّع كبير في العناصر التي تهب القالب الواحد أوجهاً متجدّدة. تتجلّى هذه الخصوصية في شاهد قبر عُرض ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012. خرج هذا الشاهد من مقبرة الشاخورة الأثرية شمال غرب القرية التي تحمل اسمها، على مقربة من جنوب شارع البديع، شمال المنامة، وهو على شكل كوّة من الحجر الجيري يبلغ طولها 46 سنتمتراً، وعرضها 39 سنتمتراً. تتكوّن هذه الكوّة من عمودين يعلو كلاً منهما تاج مجرّد، وقوس عريض يخرقه شق في الوسط، ويُعرف هذا القوس في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي بـ«قوس المجد». وسط هذه الكوّة، على سطح الخلفية الأملس، تبرز قامة أنثوية ناتئة، نُقشت ملامحها وفقاً للأسلوب التحويري المختزل الذي اعتُمد بشكل واسع في البحرين.

تشكل النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان

يتكرّر القالب المألوف. تمسك السيدة بيدها اليسرى طرف وشاحها، وترفع راحة يدها المبسوطة نحو صدرها في وضعية الابتهال المألوفة، غير أنها تكشف هنا عن شعرها الطويل، على عكس التقليد المتبع. يتكوّن هذا الشعر من كتلتين متوازيتين يفصل بينها شق في وسط أعلى الرأس، وتزين هاتين الكتلتين شبكة من الخطوط الغائرة ترسم ضفائر الشعر المنسدلة على الكتفين، كاشفتين عن أذنين كبيرتين، يُزين طرف كل منهما قرط دائري. يحدّ العنق العريض عقدان يختلفان في الشكل. يبدو العقد الأسفل أشبه بسلسلة تحوي في وسطها حجراً مستطيلاً، ويتكوّن العقد الأعلى من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية المتراصة. حول معصم الذراع اليسرى، يلتفّ سوار عريض، يجاوره خاتم يظهر في الإصبع الخامسة المعروفة بالخُنصر. يماثل الوجه في تكوينه وجه المنحوتة التي خرجت من مقبرة المقشع. الوجنتان مكتنزتان. العينان لوزتان ضخمتان مجردتان من البؤبؤين. الأنف كتلة مستطيلة ومستقيمة. والثغر منمنم مع شق بسيط في الوسط.

يحضر هذا النموذج المميز بشكل مغاير في قطعة أخرى من مقبرة الشاخورة، عُرضت كذلك في موسكو، وهي تمثال جنائزي منمنم على شكل لوح جيري، يمثّل سيدة أنيقة يعلو رأسها أكليل عريض يتكون من سلسلة من المكعبات المتوازية. ترخي هذه السيدة ذراعها اليمنى على وركها المنحني بشكل طفيف، وترفع ذراعها اليسرى نحو وسط صدرها، كاشفة عن سوار يلتف حول معصمها.

أُنجزت هذه القطعة على الأرجح في القرن الميلادي الأول، وأُنجز شاهد قبر المقشع وشاهد قبر الشاخورة في مرحلة لاحقة، بين القرن الثاني والقرن الثالث. وتشكل هذه النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان، جامعاً بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص.