الـ«يونيسكو» وقادة العالم يتحدون لمكافحة العنف والتطرف

في الاحتفال بالذكرى الـ70 للمنظمة

قادة العالم في وقفة تضامنية مع باريس (أ.ف.ب)
قادة العالم في وقفة تضامنية مع باريس (أ.ف.ب)
TT

الـ«يونيسكو» وقادة العالم يتحدون لمكافحة العنف والتطرف

قادة العالم في وقفة تضامنية مع باريس (أ.ف.ب)
قادة العالم في وقفة تضامنية مع باريس (أ.ف.ب)

اجتمع عدد من القادة من جميع أرجاء العالم في مقر الـ«يونيسكو»، أمس، لإدانة الإرهاب والإعراب عن تصميمهم على تعزيز الحوار والتعليم وصون التراث الثقافي بمختلف أشكاله المتنوعة. وجاء هؤلاء القادة إلى باريس لحضور الاحتفال بذكرى مرور 70 عامًا على تأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، التي جرت العادة على اختصار اسمها بـ«يونيسكو» واتخذت من العاصمة الفرنسية مقرًا لها. وشارك المجتمعون في تأبين ضحايا الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.
تم اللقاء كجزء من الدورة الثامنة والثلاثين للمؤتمر العام لـ«يونيسكو» والمنعقدة حاليًا. والمؤتمر العام هو الهيئة الرئاسية التي تضم ممثلين عن الدول الأعضاء في المنظمة، والذي يختتم أعماله اليوم.
وكررت المديرة العامة لـ«يونيسكو»، إيرينا بوكوفا، تضامن المنظمة مع فرنسا وضحايا الإرهاب في كل مكان، وذلك عندما قدمت برنامجًا، مساء أول من أمس، أبرز أداء الجوقة العالمية من أجل السلام، وهي الفرقة التي حازت على لقب فنان الـ«يونيسكو» من أجل السلام.
وقالت المديرة العامة: «إن باريس تجسد أكثر ما يبغضه المتطرفون ويخافون منه. فهي مدينة النور في بلد حر هو فرنسا التي تتوق إلى الحوار وتبادل الأفكار. ويخشى المتطرفون الثقافة. كما أنهم يخشون التاريخ والتنوع الثقافي وكل ما يمثل حرية العيش والتفكير. لذلك قاموا بتدمير آثار تدمر في سوريا ومتحف الموصل وموقع الحضر، فيها. ولذلك أيضًا فإنهم يعتدون على الصحافيين وعلى الطوائف الدينية وعلى قدرة الشعوب على العيش معًا».
ثم كرمت المديرة العامة الفنانين في الجوقة الموسيقية العالمية من أجل السلام الذي لم يترددوا في المجيء إلى باريس وتقديم عروضهم الفنية فيها. وخاطبتهم قائلة: «لقد صمم كل فرد منكم على أن يكون هنا هذه الليلة، في مدينة النور هذه، وهي مدينة الموسيقى، ومدينة الحياة. ومعًا، علينا أن نتحد هذه الليلة. وذلك لتكريم ضحايا هذه الهجمات. وللتعبير عن تعاطفنا معهم وتضامننا ودعمنا لأصدقائهم وأسرهم، ولشعب فرنسا وللنساء والرجال في كل مكان».
وعقب العرض الموسيقي، تم تزيين أبنية مقر الـ«يونيسكو» بعرض ضوئي جرى تصميمه للتأكيد على أن الـ«يونيسكو» ما زالت متمسكة بميثاقها التأسيسي الذي اعتمد منذ 70 عامًا والذي ينص على ضرورة بناء السلام في عقول النساء والرجال، وهو الأمر المهم اليوم أكثر من أي وقت مضى.
ومن جانبه، قال ستانلي موتومبا سيماتا، رئيس الدورة الثامنة والثلاثين للمؤتمر العام: «على الرغم من الأحداث الدامية التي وقعت يوم الجمعة الماضي، فإننا نجتمع اليوم هنا، في الاحتفال بذكرى مرور 70 عامًا على تأسيس منظمتنا، وذلك لنعلن للعالم أجمع أن الروح الإنسانية لن تُخمد البتة. ولنقول أيضًا إن نزعة الإنسانية إلى السلام والتسامح والعيش المشترك يجب أن تُبعث من جديد».
أما رؤساء بلغاريا والكاميرون وجمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة وليتوانيا، فضلاً عن القائم بأعمال رئيس الدولة في ليبيا، فقد تناولوا في كلماتهم دور الـ«يونيسكو» في مكافحة التطرف الذي تتعرض له بلادهم. فقد أشار الرئيس البلغاري في كلمته إلى أن «الآيديولوجية التي يستند إليها الإرهاب لا يمكن التغلب عليها باستخدام السلاح. بل إنه لا يمكن دحرها إلا باللجوء إلى الأفكار، وبتوفير التعليم وبوجود مجتمعات يسودها التسامح». وقال رئيس الكاميرون إن مكافحة الإرهاب إنما هي معركة ينبغي أن تخوضها الشعوب التي تضع احترام كرامة الإنسان والحفاظ على حياته في صدارة القيم التي تعتز بها. إنها هذه معركة كل أمة. كما تناول القائم بأعمال رئيس الدولة في ليبيا معاناة شعب ليبيا بسبب ممارسات الجماعات الإرهابية وشدد على «الأهمية التي توليها ليبيا للتنوع الثقافي والحوار بين الأديان وثقافة السلام». ومن جهتها شددت رئيسة ليتوانيا على أن «التطرف والكراهية ينتشران حيثما يفشل التعليم»، داعيةً إلى بذل مزيد من الجهود لتعزيز السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية. وأضافت: «إن تحقيق السلام الدائم والتنمية المستدامة والقضاء على الفقر هي أمور تعتمد جميعها على توفير التعليم».
وفي كلمته قال رئيس جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة: «إن هذا المنتدى إنما يمثل مواجهة للإرهاب ولأعداء التنوع. ولا ينبغي لنا أن نقبل تغلب الإرهاب على السلام والحرية والعدل»، داعيًا المنظمة إلى الإسهام في استعادة النظام العالمي واستبدال الاحتكار الفردي للكلام بالحوار، ولا سيما الحوار بين الثقافات والأديان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)