محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا

كتب القرنين السابع عشر والثامن عشر الفلسفية عدته غير مؤهل لمعرفة الحقيقة

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا
TT
20

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا

يكتشف المتأمل لعناوين الكتب الفلسفية التي هيمنت على القرنين السابع عشر والثامن عشر، أنها، كلها، كانت عبارة عن محاكمة للعقل، وفحص لقدراته، ورسم لحدود إمكاناته في المعرفة. فقبل كتاب ديكارت «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل»، كتب فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، كتابه «الأرغانون الجديد» أو الآلة الجديدة، التي يجب أن توجه العقل وتزيل أوهامه. وبعد ديكارت، كتب إسبينوزا (1632 - 1677)، كتابًا بعنوان «رسالة في إصلاح العقل وفي أفضل منهج نسلكه لمعرفة الأشياء معرفة صادقة». كما ألف جون لوك (1632 - 1704)، كتابه الذي يعد أول تشريح للعقل البشري بعنوان «محاولة في الفهم البشري». ثم جاء كتاب آخر لفيلسوف استطاع أن يخلف أثرًا كبيرًا على فلسفة كانط ويوقظه من سباته، إنه الفيلسوف ديفيد هيوم (1711 - 1776)، وكان بعنوان «تحقيق في الذهن البشري». وكم لكلمة تحقيق من دلالة هنا. فهذا الكتاب، هو حديث عن الجغرافيا الذهنية، وتحديد لأجزاء العقل وقواه المتمايزة. هو بحث في أصل الأفكار المكدسة في الذهن وعلاقتها بالواقع. وهو محاولة للبرهنة على عجز العقل على الخوض في الموضوعات الميتافيزيقية التي ليس لها جذر في الإحساس. بل هو دعوة لتحطيم كل فلسفة مستغلقة مليئة بالرطانة الميتافيزيقية، لتتوج، في النهاية، هذا المسلسل من التحقيق في العقل، بأشهر محاكمة كان بطلها الحكيم العالمي كانط، بعناوين لكتبه تتضمن كلمة نقد وهي: «نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم»، أي نقد للعقل النظري وللعقل الأخلاقي وللعقل الجمالي.
وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي أدى إلى الهجوم على العقل، والقول إنه ساقط في الوهم والمزاعم، إلى درجة السذاجة والغفلة، فإن الجواب يكمن في ذلك الزلزال الذي أحدثته الثورة الفلكية الكوبيرنيكية خلال القرن السادس عشر. فبقولها إن الأرض تدور والشمس ثابتة، فهذا يعني مباشرة، أن العالم قد خدع البشرية طوال القرون السابقة. فهو كان يظهر نفسه على شاكلة مضللة ومزيفة، ما خلق أزمة إدراك حسي رهيب، جعل الشك ينتشر في كل شيء، بما فيه حتى العقل وقدراته.
وجراء أزمة الإدراك الحسي، والقول بحقيقة للكون غير مرئية ولا متلائمة مع الحس المشترك، بدأ العمل وبجهد جهيد، على غربلة العقل وتنظيفه. فهو مشحون بالأفكار التي وجب التأكد من مدى حقيقتها. إن هذه العملية ستفضي إلى مأزق خطير، وهو اكتشاف أن العقل يتضمن أفكارًا يمكن الحسم فيها كونيًا، ومعايير صدقها متاحة للعقل. لكن في الوقت نفسه، به أفكار أخرى، ليس للعقل أي سند يسمح له بالقطع بصحتها. فالقضايا الرياضية مثلاً، هي صائبة لدواعٍ عقلية صرف. فخمسة مضروبة في ثلاثة تساوي خمسة عشر. فأنا أعلن صدقها بعملية فكرية، يكفي فيها العقل نفسه بنفسه. كذلك القضايا الفيزيائية، فهي ممكنة الحسم بوضعها في محك التجربة. فعندما أردد فكرة كون الحديد يتمدد بالحرارة، فهي صائبة لدواعٍ تجريبية. إذن عقلنا البشري له معياريان أساسيان للبث في مسألة الحقيقة: معيار عقلي صرف في علوم الهندسة والجبر، ومعيار آخر تجريبي في العلوم الطبيعية. فأن أقول لك: «إن الشمس لن تشرق غدًا»، فإنك لن تتمكن من الطعن في كلامي، ولا أن تضعه في تناقض. فالخيار الوحيد المتبقي لك، هو انتظار التجربة قصد التكذيب. لكن ما القول في الأفكار التي لا تخضع لهذين المعيارين، وهي القضايا الغير محسوسة المسماة ميتافيزيقية (كالله والنفس والعالم)؟ يقول الفيلسوف ديفيد هيوم بشأنها، كلامًا قاسيًا. فهو، بعد أن ينتهي من تشريح العقل وإبراز حدوده، سيكتب، في آخر كتابه، عبارة تلخص كل شيء: «عندما ندخل إلى مكتباتنا، وإذا ما كنا أوفياء لمبادئنا، فأي الرزايا يجب الابتعاد عنها؟ سنسأل أنفسنا إذا ما أمسكنا بأي كتاب في اللاهوت أو الميتافيزيقا المدرسية مثلاً: هل يتضمن استدلالات مجردة حول الكم أو العدد؟ كلا. هل يتضمن استدلالات تجريبية حول الوقائع والوجود العيني؟ كلا. فلتقذف به إذن في النار، لأنه لا يمكن أن يحتوي إلا على السفسطة والوهم».
إذا كان هيوم سيجعل من الميتافيزيقا مضيعة للوقت، وسيعلن عدم جدواها، فإن كانط، وهو المتأثر بهيوم، سيعمل على الخروج من المأزق، بإنقاذ الميتافيزيقا وإيجاد مخرج لها. فكيف ذلك؟
- الحل الكانطي لمفارقة الميتافيزيقا.
إن النقد الهيومي للميتافيزيقا كان في الحقيقة هو العنوان الأكبر لكل القرن الثامن عشر، حيث تم شن هجوم شرس عليها. فها هو الفيلسوف وعالم الرياضة د. لمبرت d.alembert (1717 – 1783)، يقول «إن صفة «الميتافيزيقي» قد أصبحت مهانة أمام العقل السليم». بل إن فولتير (voltaire (1694 - 1778، وبسخريته المعهودة، سيزدري الميتافيزيقا قائلا: «إذا رأيت اثنين يتناقشان في موضوع ما ولا يفهم أحدهما الآخر، فاعلم أنهما يتناقشان في الميتافيزيقا»، سيعيش كانط في ظل هذه الهجمة الشرسة على الميتافيزيقا، وسيقتنع بأنها في ورطة، ليعلن ضرورة إعادة النظر فيها، وسيجند نفسه للبحث عن شرعية لوجودها.
ينطلق كانط بداية، من مقارنة بين العلوم والميتافيزيقا، وذلك بعد النجاح النيوتوني الكبير في الفيزياء، ليؤكد أن الأولى عرفت درب العلم الآمنة، أما الثانية فلم يحالفها الحظ في ذلك، على الرغم من أنها أقدم معرفة عقلية. فالعقل دائم التعثر في القضايا ألمًا فوق حسية (الله، النفس، العالم)، إلى درجة يمكن القول، إن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ الصراع والمبارزة، تاريخ النزاعات غير المحسومة.
وإجمالاً، أدى البحث في الميتافيزيقا عبر تاريخها إلى نزعتين: نزعة مادية تنكر وجود أشياء خارج المادة، بما فيها الله والكائنات الروحانية، وتعتقد في قدم العالم، وفي الضرورة الشاملة لقوانينها. ونزعة أخرى مثالية مؤمنة، تعتقد في أسبقية الروح على المادة، وفي خلود النفس ووجود الله. وكل نزعة تقدم براهينها المنطقية وحججها التي يصعب الحسم فيها. هنا بالضبط، سيتدخل كانط ليؤكد أن النزعة الأولى التجريبية، تغالي في رفضها للأفكار الميتافيزيقية، على الرغم من أنها تجتاحنا من دون استئذان. فاحتقار الميتافيزيقا عند كانط، أمر مرفوض. فهو يقول في رسالة إلى مندلسون ( 1729 - m.mendelsson (1786: «إنني أبعد ما أكون عن النظر إلى الميتافيزيقا، على أنها شيء تافه يمكن الاستغناء عنه، لدرجة أنني مقتنع بأن الوجود الحق والدائم للجنس البشري، لا يقوم إلا عليها ولا يكون إلا بها». كما أنه يصفها بأنها «ملكة العلوم» و«طفلنا المدلل». وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يحب بلا تنفس، فهو لا يقوى على أن يتخلى عن الميتافيزيقا. لكن في مقابل ذلك، هناك مجازفة ووثوقية مبالغ فيها من طرف النزعة المؤمنة المثالية المقابلة، التي تدعي معرفة عالم ما فوق التجربة. فالله كمثال، ليس له سند موضوعي يحتكم إليه. إنه قضية تتجاوز الزمان والمكان. فنحن أمام مفارقة للميتافيزيقا واضحة، لا يمكن التغاضي عنها من جهة، ولا يمكن الرضا عما تقدمه من جهة أخرى. فلكي يخرج كانط من هذه المعضلة، قام بالتفرقة بين مجال المعرفة ومجال التفكير. فعقلنا يجب أن يحاكم، بحيث يجب ألا يخلط ما بين المجالين. فنحن نعرف عالم الظاهر (الفنومين)، ونفكر في عالم الشيء في ذاته (النومين). فالظواهر الخاضعة للمكان والزمان، يكون فيها العقل مؤهلاً لمعرفتها، وله الإطارات اللازمة لإدراكها، بينما الأشياء في ذاتها. فأقصى ما يمكن أن يقوم به العقل تجاهها، هو أن يفكر فيها، والزيف كل الزيف أن يدعي معرفتها. إذن مع كانط، ليس العيب في أن يتجه العقل نحو التفكير في العالم المفارق للتجربة. فذلك نزوع أصيل فيه. بل العيب في أن يعزو لهذه الأفكار، وجودًا موضوعيًا من دون الاستناد إلى أساس معرفي سليم. لهذا فطموح الميتافيزيقي في معرفة عالم الشيء في ذاته، يوقعه في التناقض. لأنه يستخدم آليات لا تصلح إلا في عالم الظواهر. هذا الخلط هو ما جعل الميتافيزيقا لا تتحرك ولا خطوة واحدة. بل هو ما جعلها تدور في حلقة مفرغة عاقت دربها الأمن نحو العلم، على عكس العلوم الأخرى. بكلمة واحدة، نصل مع كانط إلى النتيجة التالية: إن العقل غير مؤهل لمعرفة الحقيقة، أي: «الشيء في ذاته». فهو يعرف فقط عالم الظواهر، عالم الزمان والمكان، الأمر الذي يجب أن يفضي إلى ضرورة تواضع الميتافيزيقي. وعوضًا عن الحديث عن معرفة القضايا المجاوزة للحس، وجب عليه الاكتفاء بالتفكير فيها. ففي ذلك احترام لحدود العقل وإمكاناته. فخطأ الميتافيزيقيين واللاهوتيين عند كانط، نابع من خلطهم العالم المحسوس بالعالم المعقول المافوق حسي دون مبرر.



«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند
TT
20

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

يحفل تاريخ الشعرية العربية بهاجس الارتحال، فقد كانت الرحلة غرضاً رئيسياً ومركزياً من أغراض الشعر العربي، واحتلت الناقة رمزيتها في تراثنا الشعري بصفتها رفيقة السفر. وسرعان ما انتقلت الرحلة من غرض شعري إلى موضوع سردي، وبدأت المدونة السردية العربية تتوسع في أدب الرحلات، بصفتها وسيلة للمثاقفة والانفتاح على العالم الخارجي واكتساب وعي جديد بالعالم، عبر زيارة مدنه المختلفة، دون الاكتفاء بالمكان الأصل، أو مسقط الرأس، ودون الانكفاء على الذات.

أصبح لدينا تراث لا بأس به من أدب الرحلات، ذي التاريخ الطويل والممتد، عربياً وعالمياً؛ فهو قديم وراسخ، وله رموزه في الثقافة العربية، ولعل أشهرهم ابن بطوطة. وفي الأدب الحديث مدونة ممتدة تنتمي إلى هذا النوع، وإن كان أغلب رموزه من الرحالة الرجال، فالرحلة وتدوينها ظلت قروناً حكراً على الرجل، الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان، والتجول خارجه بقدر أكبر من الحرية، بينما ظلت المرأة حبيسة «الديار»، وإن قُدّر لها مغادرتها فإنها تغادرها في ظل رجل وحمايته، وظل هذا ممتداً على العصر الحديث، فأغلب من كتبوا في أدب الرحلة كانوا رجالاً.

هذه القاعدة الثقافية الذكورية، تخترقها الكاتبة والمترجمة المصرية أميمة صبحي، في كتابها «كشتبان: الأم التي طارت»، الصادر في القاهرة عن «دار العين» والذي ينتمي إلى أدب الرحلات، ونجد فيه رحلة ممتدة لأسابيع عدة داخل الهند، تخوضها امرأة هذه المرة، على خلاف الأعراف والسنن الأدبية والثقافية، لكنها لا تخوضها بمفردها، بل بصحبة طفليها «عالية» و«نوح».

تخوض أميمة الرحلة بصفتها أماً عزباء، حتى إنها طوال رحلتها من مدينة هندية إلى أخرى، ومنذ وصولهم إلى المطار في نيودلهي، كانت تواجه أسئلة مثل: أين الزوج؟ وهل أنتم بمفردكم بلا رجل؟ فبدت هذه الأسئلة عابرة للحدود والثقافات والقوميات، أسئلة تستنكر وتندهش من قدرة امرأة على أن تأخذ أطفالها في رحلة عقب انفصالها، وكأنها بالطلاق تفقد أهليتها وصلاحيتها للحياة، ومن ثم للطيران والتحليق بعيداً.

شيَّدت الكاتبة كتابها بشكل خطي، ففصوله تأخذ عناوين المدن التي زارتها بالترتيب، وكل فصل يتكون من مقاطع سردية عدة، بدءاً من العاصمة نيودلهي، مروراً بمدن جراكبور، وفارناسي، وكلكتا، وبوبانسوار، وتشيناي، وكوتشي، ومونار، وشاطئ تشيراي، وجايبور وأجرا، ثم نيودلهي مرة أخرى، في رحلة دائرية تنتهي من حيث تبدأ. في كل مدينة تحرص الكاتبة على أن تخوض رحلتها الخاصة، بعيداً عن مخططات شركات السياحة، فقد كانت مهمومة برؤية الحياة الهندية، ومعايشتها، ليس بعيون سائحة، بل كي ترى الواقع هناك بعيون تقترب بأقصى درجة ممكنة من عيون السكان الأصليين، فكانت تستخدم وسائل المواصلات المحلية العادية، وتسير في الحواري والأزقة لتحتك بالهنود العاديين، حتى إنها في المدينة الأخيرة التي زارتها اكتفت بالمكوث أياماً عدة في بيت ريفي، وسط الفلاحين الهنود، هي القاهرية، ابنة المدينة، التي لم تزر ريف مصر كثيراً.

صاحبت المؤلفة في أجرا الأبقار والماعز، حتى إنها تصالحت مع الحشرات، والعنكبوت الذي كان يسبب لها رعباً في بيتها. ومن الملامح المهمة أن القاهرة ظلت حاضرة طوال الوقت في عقلها أثناء رحلتها، فهي المرجع الذي تحيل إليها كل شيء، وتجري مقارنات دائمة بين أي شيء تراه في المدن الهندية ومثيله في القاهرة، فبدت مسكونة بمدينتها الأم، وتحملها داخلها في رحلتها، تماماً كما كانت تحمل طفليها.

حرصت الكاتبة في كل مدينة زارتها على أن تحتك بالناس وتحكي عنهم، عن عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، حتى إنها قطعت نحو 252 متراً سيراً على الأقدام طوال رحلتها. تحكي أحياناً بخفة ظل وسخرية واضحة عن محاولات النصب التي تعرَّضت لها من بعض الهنود، متصالحة مع فكرة أن النصابين موجودون في كل مكان في العالم، في القاهرة كما في نيودلهي، ولا داعي لإغفال هذا الملمح أو تجاوزه في تفاصيل رحلتها.

وإضافة إلى هذه الوصف للناس والأماكن والآثار التاريخية، هناك ملمح مهم حرصت على إثباته، وهو الملمح المعلوماتي المعرفي، فكثيراً ما تتوقف الكاتبة عن الوصف لتسرد تاريخاً معيناً، سواء تاريخ مبنى ما مثل الحصن الأحمر، أو هوا محل، أو تاريخ صناعة ما وتحولاتها، مثلما سردت تاريخ صناعة التوكتوك المنتشر في الهند، أو حتى تواريخ شخصيات سياسية، مثلما حدث عندما سردت معلومات عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي وعلاقتها بابنها سانجاي.

في هذا الكتاب الضخم (370 صفحة)، لن نجد مجرد ارتحال مكاني، من مصر إلى الهند، ولا مجرد زيارة المعالم السياحية والأثرية الشهيرة فقط، بل إن الكاتبة على مدار رحلتها في المكان، ترتحل وبشكل أكبر وأكثر بنيوية داخل ذاتها، لتعيد تطبيع علاقتها مع نفسها، ومع فكرة الأمومة. إنها رحلة أسرة، أم وطفليها، إلى اكتشاف الروابط العميقة التي تربطهم ببعضهم، وتجسير الهوة بين الطرفين، وترميم الشقوق التي سبق ونشأت بينهما وقت إقامتهم في القاهرة داخل بيت واحد آمن، فكان السفر وسيلة لاكتشاف العالم من جهة، ومن جهة أخرى، وبشكل أكثر جذرية، اكتشاف ذواتهم.

تقول المؤلفة: «كل موقف صعب نمرّ به، يتبعه سد شقٍ بيننا، لنعود مرة أخرى وحدة واحدة»، وهو ما يحيل إلى عنوان الكتاب «كشتبان»، وهو اسم آلة معدنية يرتديها عازفو الآلات الوترية لتحمي أصابعهم أثناء العزف، فالكاتبة ترى أن الأمومة لا بد لها من كشتبان، ليحمي الكاتبة من ضغوط الأمومة، وأحياناً ترتدي هي وأبناؤها هذا الكشتبان ليحميهم جميعاً من العالم الخارجي.

الرحلة هنا لها ثلاثة مسارات، الأول: إلى الهند مكاناً ومزاراتٍ وثقافةً، بما تنطوي عليه من تعددية دينية وثقافية مدهشة. الثاني: رحلة إلى الذات، لتخفف الكاتبة مما يثقلها ويكبلها، ويربطها بالأرض، لاستعادة أجنحتها التي اقتلعتها الثقافة والتقاليد، لتحلق مرة أخرى إلى ذاتها المحبة غلى السفر والتنقل والاكتشاف. الثالث: رحلة الأم إلى أطفالها، ورحلتهم إليها، رحلة عائلة معاصرة نحو اكتشاف مفهوم الأسرة، ورحلة المرأة الكاتبة إلى التصالح مع الأمومة، فتمنح نفسها فرصة إعادة التعرف إلى أطفالها، وتمنحهم - في المقابل - الفرصة نفسها لإعادة اكتشافها والتعرف إليها.

وجاء هذا الوعي بتعدد المسارات واضحاً في عقل الكاتبة قبل وأثناء الرحلة، فتقول: «ربما لم أعرف الصغيرين بشكل جيد، وإنهما بالتأكيد لا يغرفانني، خاصة وأنا منخرطة تماماً في عجلة الحياة اليومية، كأم عزباء عاملة، تربي أطفالها بمفردها معظم الوقت. وإن هذه الرحلة فرصة نادرة لرؤية بعضنا البعض، ولإعادة اكتشاف أنفسنا أثناء اكتشافنا للمدن، حاولت هنا أن أستحضر نفسي بنفسي أمامهما، وأتركهما يتعرفان إليّ كما يريدان، وأراهما أنا كما لم أفعل من قبل».

لذا؛ لم يكن غريباً أن تشعر الكاتبة وهي تتجه عائدة للمطار أنها «خفيفة وسعيدة»، بعد أن شعرت بالتئام الشقوق والتصدعات التي بينها من ناحية وبين طفليها من ناحية أخرى. الرحلة وتدوينها ظلا قروناً حكراً على الرجل الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان