جبير المليحان.. مكرمًا

جبير المليحان.. مكرمًا
TT

جبير المليحان.. مكرمًا

جبير المليحان.. مكرمًا

منذ أكثر من خمسين عامًا، يحمل القاص والأديب السعودي جبير المليحان قلمه ليكتب الحكايات، وينسج قصصا مشحونة بطاقة انفعالية وجمالية ممتعة، وصياغة لغوية باذخة، وظلّ الفتى الحائلي في صباه يكتب الخواطر بين الحقل والساقية، وما فتئ يفتش عن منصة يسرد من خلالها إبداعاته، فكان يمطر المجلات والصحف بكتاباته الفتية، إلى درجة اضطر المحرر الثقافي في مجلة «اليمامة» آنذاك علوي الصافي للكتابة إليه في بريد القراء، معتذرًا عن نشر قصصه «لعدم صلاحيتها»، مع تنويه خاص «بخط كاتبها الجميل»!
في قرية «قصر العشروات»، جنوب حائل، وُلد جبير المليحان، من أبٍ امتهن الفلاحة والزراعة، وأمّ كانت تنظم الشعر، وكان يدرس صباحًا، ويعمل في الحقل مساءً، وكثيرًا ما كان يستريح تحت ظل شجرة، أو عند كومة قشّ، ليكتب نصّا يرسله للنشر دون جدوى! وفي مرحلته المتوسطة نشر له الأديب الكبير محمد العلي أول نصّ قصصي، وبالمناسبة فقد كان هناك ما يربط بين محمد العلي وجبير المليحان، فصاحب «لا ماء في الماء» استوقفته تجربة المليحان القصصية «الوجه الذي من ماء»، ونص «الماء.. الماء.. الماء».
عطشه للنشر، قاده للصحافة، فعمل فيها مبكرًا قبل وأثناء عمله في التعليم، وكانت تلك الفترة من أزهى عصور الصحافة الثقافية، ولأن جبير المليحان من القلة الذين يشعلون الشموع بدل الاشتغال بلعن الظلام؛ فقد أسس موقعًا إلكترونيًا ينشر إبداعات القاصين العرب، سماه «القصة العربية»، وصار هذا الموقع يضم نحو ألفي أديب وقاص يمثلون 21 دولة عربية، وهو ينشر نصوصًا لأكثر من أربعة آلاف قاصٍ وقاصة بأسماء حقيقية، ولديه مخزون من السرد يتجاوز 18 ألف نصّ قصصي، وعدد المشتركين يتعدى العشرين ألفًا. وأصبح هذا الموقع مشروعًا ومنتدى للمبدعين في هذا المجال، ينشر النصوص، ويحظى أصحابها بالقراءات النقدية وتبادل الخبرات، والتواصل الثقافي بين المبدعين العرب، وتبنى هذا الموقع جيلاً من المبدعين الشباب أصبحوا معروفين، ونالوا الجوائز على أعمالهم السردية، وهو موقع تطوعي لا يتلقى دعمًا من أحد.
عمل جبير المليحان، ومعه قلة من وجوه الثقافة السعودية، أمثال أحمد الملا، وخالد اليوسف، وحسين الجفال، وآخرين، بدأب وإخلاص خارج المؤسسات الثقافية، ومن دون تكليف رسمي، وباجتهاد وعناء في خدمة الحركة الثقافية، ودون أن ينتظروا من أحد شكرًا أو ثناءً. شغل جبير المليحان رئاسة نادي الشرقية الأدبي فترة من الزمن، وهي من أكثر الفترات إشراقًا في تاريخ هذا النادي، ولكن جهده انصب خلال تلك الفترة على تطوير اللائحة الأساسية للأندية الأدبية، وحين وجد أن جهوده، وجهود زملائه، لا تسير نحو هدفها تخلى عن المنصب، وعاد يكتب القصة.
رغم صمته، فإنه دائم الحركة والفاعلية والنشاط، ورغم عصاميته ووعورة الطريق الذي سار فيه، فإنه كثير العطاء، ويمتلك شبكة تواصل ثقافي واسعة.
يوم غدٍ الخميس، يقيم وزراء الثقافة لدول مجلس التعاون الخليجي، في اجتماعهم الحادي والعشرين بالعاصمة القطرية، الحفل السنوي لتكريم المبدعين في دول المجلس، وتم ترشيح جبير المليحان ليكون واحدًا من المكرمين هذا العام، وهو أحد ثلاثة مرشحين سعوديين، وإلى جانبه الفنانة التشكيلية اعتدال عطيوي، والخطاط ناصر الميمون. وسيكرم جبير المليحان في الباحة نهاية هذا الشهر، كما أن مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض أقرّ هو الآخر تكريم جبير المليحان في الدورة السادسة من ملتقى النقد الأدبي، التي ستعقد في أبريل (نيسان) 2016، وستحمل الدورة المقبلة اسم: «القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية: مقاربات في المنجز النقدي».
تكريم جبير المليحان، تكريمٌ للثقافة والإبداع والعطاء الإنساني.



مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

نصب الشاعر مخدوم قولي
نصب الشاعر مخدوم قولي
TT

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

نصب الشاعر مخدوم قولي
نصب الشاعر مخدوم قولي

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي، لم أكن متشجعاً في بداية الأمر لحضور الفعالية؛ ذلك أني لا أعرف أحداً في هذا البلد، ولا توجد لدينا سفارة، ولا أظن عراقياً واحداً يسكن فيها، رغم أن اسم عشق آباد يتردد في السرديات التاريخية والدينية بوصفها مدينة لها عمق تاريخي، وواحدة من عواصم الشرق القديم، فيها اختبأ التاريخ، وفوق رمالها صلى المتصوفون واعتكف الزاهدون، وربما وصل إليها أجدادنا قبل أكثر من ألف عام، فعانقوا فطرتها والتحموا بجلالها وجبالها، ولكني أخيراً تشجعت للحضور إلى هذه الفعالية، بعد أن قرأتُ عن الشاعر مخدوم قولي، وعن تركمانستان، وعن طبيعة الحياة فيها، فانطلقت إليها بعد عناء رحلة مضنية وترانزيت طويل نسبياً. وحين وصلت كنت أتوقع أن يكون الحفل والاحتفاء بالشاعر مثلما نقيمه نحن ببلداننا في مناسبات كهذه؛ يعني أن يحضر على أعلى تقدير وزير الثقافة وعدد من الأدباء والمهتمين بهذا الشأن في قاعة مغلقة، ونعزف السلام الجمهوري، ونفتتح المهرجان بالقصائد والكلمات، ونعود إلى بيوتنا بعد ذلك.

ولكني حين وصلت، وقبل أن أتحدث عن الحفل المركزي بودي الحديث عن المدينة (عشق آباد)؛ ذلك أن أول ما فاجأني هو اللون الأبيض، فالمدينة كأنّها مصبوغة باللون الأبيض، من رأسها حتى قدميها؛ إذ لا يوجد أي لون غيره، فالبنايات كلها من الرخام الأبيض، وواجهات البيوت أيضاً، والعلامات الدالة، والأرصفة، وحتى سيارات التاكسي. ترك هذا اللون مسحة هائلة من الأناقة والذوق على مفاصل المدينة، وكذلك النظافة التي تحلَّت بها المدينة، مما جعل منها مدينة غارقة بالذوق، حتى إني سألتُ أحد المرافقين لنا: لماذا عشق آباد مدينة غير سياحية؟ فأجاب أننا نخشى من السياح ألا يحافظوا على نظافتها؛ حيث إن النظافة لديهم تحولت إلى وسواس قهري، مما جعل السلطات لديهم تمنع التدخين في كل الأماكن، وهذا ما أزعجنا - نحن المدخنين.

أعود إلى الموضوع المركزي، وهو الاحتفاء بمرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان، مخدوم قولي فراغي، الذي أصبح لديهم أيقونة كبرى وجامعاً للهوية التركمانستانية، وهو عمل عظيم بالنسبة للشعراء، حين يتحولون إلى آباء للأمم، وصُنّاع للهوية الوطنية أو الأممية، وهذا ما حدث مع مخدوم قولي، وربما حدث مع شعراء آخرين، ولكنهم نادرون في هذا التوصيف، وقد جاءوا بطرق مختلفة، فمثلاً المتنبي لدى العرب تحول إلى حارس للغة العربية وملهم للهوية الثقافية والمعرفية، وأحد مصادر الفخر والاعتزاز والحكمة لدينا؛ فلا يكاد شخص عربي لا يحفظ ولو بيتاً للمتنبي، وكذلك شكسبير لدى الإنجليز، وبوشكين لدى الروس، كذلك مخدوم قولي تحول إلى جامع للهوية ورمز تلتف حوله الأمة التركمانية.

وصلنا إلى الفندق الرابعة فجراً، وأبلغونا بأن التحرك سيكون في السادسة صباحاً، فاستغربنا لماذا هذا الإصرار على حضور الفعالية صباحاً؟ عموماً تحركنا من الفندق السادسة صباحاً ووصلنا إلى تمثال الشاعر المحتفَى به، فكانت الصدمة الهائلة؛ حيث وجدنا نصباً للشاعر، ولكنه نصب بحدود 100 متر ينظر إلى المدينة بكاملها، وكأنه حارسها الشخصي، وأبوها الذي لا ينام. ويُقدر عدد الحاضرين بحدود 2000 شخص، منهم المسؤولون والوزراء والنواب والدبلوماسيون وموظفو الدولة من الدرجات العليا، إلى أن نصل إلى طلبة الجامعات، وكل شخص يحمل باقة ورود بين يديه، حتى نحن الضيوف الذين قدمنا من المطار، حمَّلونا باقات ورود لنهديها للشاعر في ذكراه. التمثال لوحده يحتاج إلى وقفة للقراءة والمعاينة، ذلك أن المساحة المخصصة له تُقدَّر بكيلومتر كامل أو أكثر، والقاعدة التي نُصب عليها التمثال تُقدَّر بخمسة دونمات، والصعود إليه عبر أكثر من 50 مدرجاً، ومن ثم النصب الذي لا يُرى ارتفاعاً وعرضاً، مما منح الهيبة والعلو والفخامة والجمال، وهو أول نصب في العالم - حسب علمي - يُمنَح لشاعر بهذا الحجم والفخامة، وهذا له رسائل عديدة تريد أن ترسلها الدولة في اتخاذها الشاعر مخدوم قولي رمزاً لوحدتها وهدفاً لانطلاقها.

ضيوف عديدون وشخصيات كبيرة من دول آسيوية وعربية، بوفود رفيعة المستوى قدَّموا جميعهم باقات الورد؛ حيث كان وزير الخارجية التركمانستاني في استقبال الوفود بمدخل الساحة المخصصة للنصب الكبير. أنظر إلى التركمانستانيين ذكوراً وإناثاً، وكأنهم في عيد ديني، أو وطني، فالكل يرتدي أجمل الملابس، ويحمل باقة الورد، ويُصوَّر مع التمثال، ويتبادل التهاني مع مَن معه، بالضبط كأنهم في عيد الفطر أو الأضحى.

احتفاء تركمانستان بمخدوم قولي فراغي يعيد الثقة بالشعر والشعراء ويعطي درساً للحكومات والأمم بطريقة الاحتفاء بهم

انتهينا من مراسم وضع الزهور، وهو مشهد لم أرَه منذ أكثر من 20 عاماً، حيث الإتيكيت الرسمي لمثل هذه التقاليد، بعد ذلك ذهبنا إلى الحفل الرسمي، حيث القاعة المركزية التي تضم مجمل الوفود المدعوة لهذا الحفل، وحين دخلنا القاعة وجدنا أن الحفل ليس احتفالاً بشاعر، إنما الدولة عقدت قمة كبرى؛ حيث تفاجأنا بحضور 12 رئيس جمهورية، وممثلين عن كل الدول المدعوة، وكلٌّ أمامه علم بلاده. وافتتح القمة رئيس الجمهورية محمدوف، ومن ثم ألقى رؤساء الجمهوريات المتبقون كلماتهم بهذه المناسبة. إن مثل هذا الحدث وهذا الاهتمام النوعي بالشعراء أظنه يحدث للمرة الأولى؛ في أن تنعقد قمة كبرى من أجل شاعر، وأن يحضر العالم للاحتفاء به، وإلقاء الكلمات بالمناسبة.

ماذا يريد الشعراء إذن؟ هل هناك خلود أكثر من هذا؟ أن تلتحم أمة بكاملها لأجله، وتصوغ حدثاً مرَّ عليه ثلاثمائة عام لتحتفي به داعية نصف العالم له، عابرين القارات والأمم من أجل مصافحته. إنها ولادة جديدة لهذا الشاعر، فمن لم يعرفه عرفه من جديد، ومَن لم يقرأ له فسيقرأه من جديد، وسيحفظ له نصوصه، وحين نقرأ مخدوم من جديد سنكتشف معه أسماء المدن والقرى التي كان يسكن فيها أو يمر بجانبها، وهي ظاهرة واضحة في قصائده؛ حيث تكثر أسماء القرى والمدن، وبهذا يتحول شعره إلى موسوعة أممية لمرحلة من المراحل، وستبدأ المؤسسات الثقافية ودور النشر بترجمة أعمال مخدوم لثقافاتها، ونشرها بما يليق بشعره، ومكانته في أمته. فعلاً إنها ولادة جديدة لمخدوم قولي، والاحتفاء مناسبة مهمة لجميع الشعراء في العالم لأن يعيدوا حساباتهم مع الشعر ومستقبله؛ حيث كثرت في السنوات الأخيرة استطلاعات الرأي ومقالات وكتب كثيرة تتحدث عن أفول زمن الشعر، وأن العالم يتغير تجاه تلك الفنون، وأنها تُستَبدل بها التقنيات الحديثة، وأن جمهور الشعر إلى زوال، وهذا ما ذكرتُه في إحدى مقالاتي عن أفول جمهور الشعر، وهي شكوى وندب للشعر بزواله وزوال جمهوره، ولكني حين رأيت كيفية استذكار الشاعر التركمانستاني مخدوم قولي راجعت أوراقي وتراجعتُ عن بعض مما أطلقته من أفول نجم الشعر؛ حيث وجدته في تلك البلاد شخصية محورية في صناعة الأمة والحفاظ على هويتها ولغتها وقوميتها، ولكني في الوقت نفسه لا أريد أن أكون مندفعاً وعاطفياً تحت وطأة النصب العظيم والحدث التاريخي وطريقة الاحتفاء؛ فلو عملنا استطلاعاً للرأي لدى هؤلاء الذين حضروا للاحتفاء باكراً في البرد؛ فهل سيحضرون من دون توجيه رسمي، ويضعون باقات الورد تحت قدمَي الشاعر؟

ولكن مع كل شيء شكراً لهذا الحدث العظيم الذي يعيد الثقة بالشعر والشعراء، ويعطي درساً للحكومات والأمم بطريقة الاحتفاء بهم بوصفهم حُرَّاساً على حدود هذا العالم على حد قول كادامير.