ظاهرة «النينيو» ليست الوحيدة المسؤولة عن التغير المناخي

مكتب الأرصاد البريطاني يشير إلى الدور البشري في الاحتباس الحراري

صورة أرشيفية تعود إلى عام 2014 تظهر ارتفاع منسوب المياه في جزر المحيط الهادي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية تعود إلى عام 2014 تظهر ارتفاع منسوب المياه في جزر المحيط الهادي (أ.ف.ب)
TT

ظاهرة «النينيو» ليست الوحيدة المسؤولة عن التغير المناخي

صورة أرشيفية تعود إلى عام 2014 تظهر ارتفاع منسوب المياه في جزر المحيط الهادي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية تعود إلى عام 2014 تظهر ارتفاع منسوب المياه في جزر المحيط الهادي (أ.ف.ب)

يتسبب النينيو في ارتفاع درجة حرارة سطح المياه في المحيط الهادي مما قد يتمخض عن موجات جفاف في بعض بقاع العالم وفيضانات في البعض الآخر. وقد تسهم ظاهرة النينيو في عام آخر من درجات الحرارة القياسية. هذه الظاهرة المناخية تتسم بدفء سطح المياه في المحيط الهادي وتحدث كل ما يتراوح بين أربعة و12 عامًا.
وقال أمس مكتب الأرصاد الجوية البريطاني في تقريره إن درجات الحرارة القياسية وتغير الأنماط المناخية في محيطات العالم من بين المؤشرات التي تؤكد انتهاء فترة هدوء في الاحترار العالمي. لكن تؤكد المؤسسة البريطانية في تقريرها أمس أن المشاهدات الخاصة بأنماط المناخ في المحيطين الهادي والأطلسي والمقترنة بدرجات حرارة قياسية عالميا العام الماضي وتوقعات بأن عامي 2015 و2016 سيكونان ضمن الحدود القصوى القياسية كلها أمور تشير إلى تغير الاتجاه وانتهاء فترة هدوء في تغير المناخ.
وقال آدم سكيف أحد واضعي التقرير: «كل من هذه المؤشرات يتسق مع ما نتوقعه من انتهاء فترة هدوء الاحترار». لكن سكيف قال إن العامل البشري سيلعب دورا في الاحترار العالمي. وقال: «عندما تحدث ظاهرة النينيو وترتفع درجات الحرارة العالمية.. فإن ذلك يمثل المتغير الإضافي الذي يوجد وضعًا قياسيًا».
وقال خبراء من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية الأسبوع الماضي إن من المتوقع أن تشهد ظاهرة النينيو ذروتها بين أكتوبر (تشرين الأول) القادم ويناير (كانون الثاني) من العام القادم وقد تصبح الأشد في تاريخ هذه الظاهرة.
وكانت هيئة حكومية أميركية للتنبوء بالأرصاد الجوية قد حذرت من أن إرهاصات النينيو قد تستمر تسعة أشهر أخرى وقد تؤدي إلى ارتفاع جنوني في أسعار المحاصيل والسلع عالميا. ويتسبب النينيو في ارتفاع درجة حرارة سطح المياه في المحيط الهادي مما قد يتمخض عن موجات جفاف في بعض بقاع العالم وفيضانات في البعض الآخر.
ويمكن أن تسبب ظاهرة النينيو موجة جفاف وحرًا لافحًا في جنوب شرقي آسيا وشرق أفريقيا وأستراليا وفيضانات وهطول أمطار غزيرة في أميركا الجنوبية وأن تلحق أضرارا بإنتاج الأغذية الرئيسية مثل الأرز والقمح والذرة والسكر وزيت النخيل.
وجاء هذا التقرير البريطاني قبل أكثر من شهرين من التقاء مفاوضين من نحو 200 دولة في باريس لوضع اتفاق للأمم المتحدة بشأن الحد من التغيرات المناخية.
في 2013 تضمن تقرير للأمم المتحدة عن علوم المناخ مشاهدة تقول إن درجات الحرارة ترتفع بمعدلات أبطأ منذ عام 1998 عما كان عليه الحال خلال السنوات الخمسين السابقة.
وقالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة إن العام الماضي كان الأكثر حرارة منذ بدء تدوين مثل هذه السجلات في القرن التاسع عشر وشهدت دول منها صربيا وبنغلاديش وباكستان وجنوب أفريقيا والمغرب والبرازيل فيضانات عارمة.
وقالت اللجنة الحكومية بشأن التغير المناخي التابعة للأمم المتحدة هذا العام إن الاحتباس الحراري لا لبس فيه وحددت الكثير من أهداف تقليص الانبعاثات وبعضها أكثر صرامة من الآخر لمكافحة ارتفاع درجة الحرارة.
وقبل أيام قالت هيئة الأرصاد الجوية في اليابان إن ظاهرة النينيو المناخية ستستمر وتتكرر في البلاد وثمة احتمال كبير أن تظل قائمة حتى فصل الشتاء.
وقبل أيام دعا وزير الشؤون الدينية الإندونيسي لقمان حكيم شمس الدين المواطنين الإندونيسيين إلى أداء صلاة الاستسقاء، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد امتدادا لفصل الجفاف وتأخرا لموسم سقوط الأمطار الذي عادة ما يبدأ في شهر سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر من كل عام ويستمر لستة أشهر. ونقلت صحيفة جاكرتا غلوب الإندونيسية عن الوزير قوله في بيان صحافي صدر في جاكرتا: «إنني أحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء، وأيضا الطوائف الدينية الأخرى على الصلاة من أجل نزول الأمطار». وكانت هيئة الأرصاد الجوية والبحوث الجيوفيزيقية الإندونيسية قد حذرت سكان العاصمة جاكرتا، والمدن المحيطة بها بالاستعداد لموسم جفاف طويل وطالبتهم بالاعتدال في استخدام المياه النقية. وأوضحت الهيئة أن موسم الجفاف سيستمر في مدينة جاكرتا العاصمة ومدن بوجور وديبوك وبيكاسى وتانجيرانج القريبة منها حتى نوفمبر (تشرين الثاني) أو ديسمبر (كانون الأول). ويعزى فصل الجفاف الطويل في إندونيسيا إلى ظاهرة «النينيو». وكان رئيس هيئة المصائد والزراعة والأمن الغذائي الإندونيسية أونا روسمانا قد صرح مؤخرا بأنه من المتوقع أن تؤدي فترة الجفاف الطويلة إلى دمار المحاصيل في نحو 15 هكتارا من الأراضي المزروعة بالأرز.
وكان قد أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قبل أيام أنه سيتوجه مطلع نوفمبر إلى الصين ليوجه نداء مع نظيره الصيني من أجل إنجاح المؤتمر العالمي للمناخ الذي سيعقد في باريس اعتبارا من 30 نوفمبر . وقال هولاند: «سأتوجه إلى الصين لأوجه مع الرئيس شي جينبينغ نداء لنتمكن من إنجاح المؤتمر حول المناخ».
وحذر الرئيس الفرنسي من «مخاطر فشل» المؤتمر. وقال: «لن يتم التوصل إلى اتفاق - خصوصا أن هناك دول ترفضه، دول ناشئة ودول في الجنوب - إذا لم تطلق تعهدات حازمة حول التمويل». وأضاف: «نحتاج إلى اتفاق مسبق حول مسألة التمويل ليصل رؤساء الدول إلى باريس وهم على يقين بأننا سنصل إلى اتفاق». كما حث وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس دول العالم على طرح أهدافها الوطنية الخاصة بالمناخ.
يذكر أن عدد الدول التي قدمت أهدافها لخفض الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون لدى الأمم المتحدة بلغ حتى الآن 57 دولة. وأضاف فابيوس قبل أيام في مؤتمر صحافي بباريس أن التحليلات الأولى للإسهامات الوطنية التي قدمتها مؤسسات الفكر تشير إلى أن العالم يتجه إلى ارتفاع درجات الحرارة بمقدار ثلاث درجات وتابع: «هاتان ليستا الدرجتين الموضوعتين كسقف لارتفاع درجة حرارة الأرض فوق ما قبل مستويات الحقبة الصناعية».
وفي مستهل مشاورات وزارية غير رسمية، أعرب فابيوس عن أمله في إعطاء مفاوضات الأمم المتحدة المتعثرة المزيد من السرعة.
جولة المحادثات التي انعقدت في بون في الأسبوع الماضي لم تسفر عن تحقيق تقدم ملحوظ. وتسعى فرنسا من خلال هذه المشاورات إلى تسليط الضوء بالدرجة الأولى على أسئلة عن الدعم المالي للدول النامية في مجال حماية المناخ وفي التعامل مع تداعيات ارتفاع درجات حرارة الأرض. ولا تعد هذه المشاورات جزءا من المفاوضات الرسمية للأمم المتحدة لكنها تجمع بين لاعبين مهمين.
لكن هناك خلافا حول من هو المسؤول الأكبر في إهدار طاقات الأرض وارتفاع درجات الحرارة. إذ ذكرت دراسة معظم أغنى البلدان في العالم بعيدة كل البعد عن تحقيق أهداف الأمم المتحدة بخصوص المناخ.
وحذرت الدراسة المقارنة التي أجرتها مؤسسة «برتلسمان» الألمانية أن الكثير من بين الـ34 دولة الأكثر تقدما صناعيا في العالم عرضة لخطر عدم التحقيق التام لأهداف معينة تتعلق بالتنمية المستدامة التي سيتم تبنيها من قبل قادة العالم في نهاية سبتمبر الحالي، ومنها القضاء على الفقر المدقع ومكافحة عدم المساواة وعدم العدالة الاجتماعية ووقف تغير المناخ وتحقيق النمو الاقتصادي. ووجدت الدراسة أن الدول المتقدمة تأتي في مكانة متخلفة فيما يتعلق بالإجراءات اللازمة لخفض التلوث البيئي وزيادة معدل مصادر الطاقة المتجددة. وعلى سبيل المثال فإن نسبة الطاقة المتجددة في كل من كوريا الجنوبية وبريطانيا وهولندا تمثل أقل من 4 في المائة، بينما نجد أن هذه النسبة تقفز إلى 50 في المائة في كل من آيسلندا والنرويج والسويد. ووصف أرت دي جوس رئيس مؤسسة برتسلمان الدراسة بأنها «أول محك» فيما يتعلق بتحقيق الأهداف بالنسبة للدول الغنية. وقال دي جوس: «إننا في البلدان الغنية، مع تزايد معدلات غياب العدالة الاجتماعية والهدر في استخدامات الموارد، لم يعد في إمكاننا أن نقدم أنفسنا كمعلمين لبقية دول العالم». وأضاف: «أن هذه الدراسة توضح أين نقف، وأنه يتعين علينا أن نؤدي واجباتنا المدرسية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)