آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

تقع في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية

«سيّد الوحوش» على كسر من آنية محفوظ  في المتحف الوطني بالرياض مصدره جزيرة تاروت
«سيّد الوحوش» على كسر من آنية محفوظ في المتحف الوطني بالرياض مصدره جزيرة تاروت
TT

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

«سيّد الوحوش» على كسر من آنية محفوظ  في المتحف الوطني بالرياض مصدره جزيرة تاروت
«سيّد الوحوش» على كسر من آنية محفوظ في المتحف الوطني بالرياض مصدره جزيرة تاروت

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن. تنقسم هذه المجوعة أنواعاً عدة، أهمّها فنياً تلك التي تميّزت بنقوش تصويرية تتبنّى أبجدية خاصة، تتمثّل في سلسلة من العناصر التشكيلية تعبّر عن عالم رؤيوي غامض احتار أهل الاختصاص في تفسير معانيه.

ثعبانان متشابكان على كسر من آنية محفوظ  في المتحف الوطني بالرياض مصدره جزيرة تاروت

تقع جزيرة تاروت على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وهي اليوم من مكوّنات القطيف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وكانت في الماضي حاضرة من حواضر إقليم البحرين التاريخي، كما تشهد آثارها التي يرجع بعضها إلى فترة فجر السلالات الأُول لبلاد ما بين النهرين، وبعضها الآخر إلى الحضارة العيلامية. في مطلع ستينات القرن الماضي، شرعت السلطة السعودية في شق طريق تصل هذه الجزيرة، وخلال قيامها بهذا العمل، تمّ اكتشاف مقابر حوت آنية مزخرفة مصنوعة من الحجر الصابوني. بعد فترة وجيزة، ظهرت أعداد أخرى من هذه الأواني حين قام بعض سكان الجزيرة بتوسيع الأراضي الزراعية. سارعت شركة «مصفاة أرامكو» إلى جمع هذه اللقى، وقدّمتها إلى المتحف الوطني في الرياض، وشكّلت هذه القطع نواة لمجموعة أثرية اتّسعت سريعاً في السنوات التالية.

بدأ التنقيب الفعلي في نهاية الستينات، وتبعه مسح شامل في منتصف السبعينات، وكشفت هذه الأعمال عن مجموعة كبيرة من هذه الأواني في مقابر أثرية ظهرت في موقع «تل الرفيعة»، في الناحية الشرقية من الجزيرة. بعدها، تمّ إعداد تقرير علمي شامل خاص بهذه الاكتشافات نُشر في فهرس توثيقي دقيق في 1978. حوى هذا الفهرس نحو ستمائة قطعة محفوظة في متحف الرياض الوطني، أغلبها كسور جزئية. وتبيّن أن القسم الأكبر من هذه الأواني يخلو من النقوش التصويرية، ومنه ما جاء بشكل مجرّد صرف، ومنه ما حمل حللاً زخرفية. في المقابل، برز قسم آخر من هذه اللقى تميّز بنقوشه التصويرية، واتّضح سريعاً أن هذه النقوش تتبع نمطاً خاصاً يعتمد سلسلة من المفردات التشكيلية الآدمية والحيوانية والنباتية، إضافة إلى مفردات أخرى تحاكي العناصر العمرانية.

يتمثّل الحضور الآدمي في الدرجة الأولى برجل يظهر وسط هذا العالم المتخيّل بشكل ثابت، مرتدياً مئزراً يلتفّ حول الحوض والقسم الأعلى من الساقين. وجهه جانبي، وملامحه ثابتة، تتكوّن من أنف ضخم وعين لوزية فارغة وشفتين مطبقتين، مع شعر كثيف وطويل يتدلّى من خلف الرأس. على العكس، يبدو صدر هذا الرجل في وضعية المواجهة، وتحدّه ذراعان مرفوعتان نحو الأعلى. تتغيّر وضعيّة الساقين بين نقش وآخر، حيث يظهر الرجل تارة منتصباً، وتارة جاثياً، ممسكاً بكلّ من يديه المرفوعتين حيواناً متوحّشاً تتبدّل هويّته بين صورة وأخرى، فهو طوراً أفعى، وطوراً ثور، وطوراً نمر أو أسد أو وحش من الوحوش السنّورية. يحضر «سيّد الوحوش» في هذه الصور التي يغلب عليها الطابع العجائبي، ويتجلى حضوره في هذه السيادة.
يحضر «سيّد الوحوش» حيناً، ويغيب حيناً، وتبقى هذه الحيوانات حاضرة في تآليف تتكرّر في تنويعات مختلفة. تحتل الأفعى المرتبة الأولى في هذه التآليف كما يبدو، وتبرز بأشكال لولبية متعددة، حيث تتوالد مراراً وتتشابك، وتبدو كأنها تتواجه فيما بينها وهي تفتح فكّي فمها. مظهر هذه الأفاعي واحد، ويتمثّل بجلد تعلوه شبكة من الثقوب اللوزية، شابه ثقوب عيونها، ويبدو أن هذه الثقوب كانت في الأصل مرصّعة بأحجار أو بمواد أخرى مضافة. كذلك، تتميّز هذه الأفعى بأذنين ثابتين على شكل فاصلتين مقلوبتين، وبأنف ضخم؛ مما يوحي بأنها ثعبان له رأس تنين. إلى جانب هذه الأفاعي، يحضر الثور الوحشي بقرنيه الكبيرين، وتحضر الوحوش السنّورية المتحرّكة باستمرار، كما تحضر الطيور الجارحة المحلّقة في الفضاء.
تمتزج هذه الكواسر في بعض الأحيان، ويحلّ النسر برأس أسد، في صورة تماثل صورة الصقر الأسطوري في بلاد ما بين النهرين، وهو الصقر الذي عُرف باسم آنزو، كما باسم إمدوغود. تحتل هذه الكائنات الحية موقعها وسط مساحة تشكيلية تتكوّن من مجموعة عناصر ثابتة. تحضر سعف النخيل المتناسقة والورديات المرصّعة، وتحضر الأسيجة التي تحاكي السلال المنزلية، كما تحضر النقوش المتوازية التي ترمز كما يبدو إلى المياه. كذلك، تتكرر العناصر المعمارية بشكل ثابت في هذه الصور، ويبرز في هذا الميدان باب مغلق يحتل في بعض الأحيان وسط التأليف.
تعود هذه الآنية المصنوعة من الحجر الصابوني والمزيّنة بالصور إلى النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتمثّل عينة من نتاج واسع تظهر شواهده في مناطق عدة تقع في دائرة جغرافية مترامية الأطراف، تمتدّ من الهضبة الإيرانية إلى آسيا الوسطى. تماثل آنية جزيرة تاروت السعودية بنقوشها، الآنية التي عُثر عليها في جزيرة فيلكا الكويتية الواقعة في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي. كما تماثل الآنية التي عُثر عليها في مواقع عدة في جنوب شرقي إيران من مقاطعتي بلوشستان وكرمان، في مقدمها موقع «تبه يحيى» وموقع «جيروفت».
في هذه المواقع تحديداً، تمّ اكتشاف أكبر مجموعات من هذه الآنية في العقدين الأخيرين؛ مما يوحي بأن هذه المنطقة شكّلت أكبر مراكز إنتاج هذه الأواني. عُرفت هذه المنطقة في المصادر السومرية باسم مارحاشي، وعُرفت في المصادر الأكادية باسم بارحاشوم، وكانت في الألفية الثالثة قبل الميلاد دولة تقع شرق عيلام، وعيلام كما هو معروف تمثّل حضارة ما قبل إيرانية قديمة، توسعت إلى أقصى الغرب والجنوب الغربي من إيران، وضمّت الأراضي المنخفضة المتاخمة.
بعيداً من هذه البقاع، عُثر على آنية مشابهة في وادي فرغانة، في آسيا الوسطى، كما في مواقع عدة من بلاد ما بين النهرين؛ مما يوحي بأن هذه الآنية شكّلت أسلوباً «متعدّد الثقافات» اعتمد في مناطق متباعدة، منها جزيرة تاروت. خرجت هذه الآنية من المدافن، وكانت تحوي زيوتاً وطيوباً رافقت الراقدين في انتقالهم إلى العالم الآخر، ويبدو أن هذه الزيوت العطرة كانت تستخرج قنة تنبت في أقاصي الهضاب الواقعة بين إيران وأفغانستان، وكانت أشبه بصمغ طبي امتاز بطابع «سحري» وقائي.
في الخلاصة، زُيّنت هذه الأواني بصور حملت طابعاً جنائزياً، وعكست هذه الصور رؤيا ماورائية يصعب تفكيك رموزها في غياب أي نصوص كتابية مرافقة لها.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي
يوميات الشرق «تقنيات الكتابة الروائية»

«تقنيات الكتابة الروائية»

صدر حديثاً عن «دار كنعان» كتاب «تقنيات الكتابة الروائية»، من إعداد الناقد الأميركي أبراهام شاول بوراك. نقلته إلى العربية إيفا شاهين، وصمم غلافه باسم صباغ. يقدم الكتاب، وفقاً للناشر: «نهوجاً مختلفة في كتابة الرواية لدى أربعين روائياً ناجحاً، جمعيهم يبرهنون أنه لا يوجد نهج واحد لكتابة الرواية. ففي الحقيقة، كل روائي من هؤلاء يستخدم تقنية مختلفة. بعضهم يبدأ روايته بشخصية أو مكان، فيما يميل بعض آخر إلى بدئها بحبكة، أو موضوع، بينما يقدّم آخرون موجزاً عاماً.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

مرايا تتعدَّى دورَها الوظيفي نحو الجمال الفنّي في غاليري بيروتيّ

مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
TT

مرايا تتعدَّى دورَها الوظيفي نحو الجمال الفنّي في غاليري بيروتيّ

مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)
مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق (ذا ميرور بروجيكت)

يُطلق المهندس اللبناني عبد الله بركة فكرةَ المرآة أبعد من وظيفتها الآلية. ليستْ هنا محصورةً في عَكْس وجوهٍ وأشياء تتقاطع ضمن حدودها، فتنتهي الحاجة إليها باطمئنان الرائي إلى مظهره، أو إدخال تعديل عليه، أو بلملمة انعكاسات خارجية. بمَنْحها وَقْعاً جمالياً، تتحوّل إلى عمل فنّي يملك تَرْك الأثر في العابر، فيستوقفه ليتساءل عن ماهيتها: أهي مرآة أو لوحة فنّية، وماذا لو كانت الاثنتين معاً؟ في «ذا ميرور بروجيكت» بمنطقة مار مخايل البيروتية، مرايا تتجاوز مفهومها التقليدي لتُحلّق خارج الصندوق.

تتحوّل المرآة إلى عمل فنّي يملك تَرْك الأثر في العابر (ذا ميرور بروجيكت)

نُسِجت علاقةٌ بالمرايا في داخل الشاب البالغ 37 عاماً منذ المرة الأولى التي تسلَّم فيها مشروعاً وتعذَّر إيجاد مرآة بملامح فنّية. رفض الاكتفاء بزجاج يتيح للآخر رؤية نفسه من خلاله؛ فالمسألة بالنسبة إليه تتخطّى الدور المُعدّ سلفاً، والمَهمَّة الجاهزة. المرايا «فنّ وظيفي»، لا مجرّد وظيفة تؤدّي الغرض منها وتُكافأ ببرودة الناظر إليها. يُحوّل عبد الله بركة الغاليري معرضَه الدائم، فتصطفّ على الجدران أشكالٌ جمالية تسرق العين من احتمال الاكتفاء بالنظرة الخاطفة.

المرايا «فنّ وظيفي» لا مجرّد وظيفة تؤدّي الغرض منها (ذا ميرور بروجيكت)

يتحدّث لـ«الشرق الأوسط» بشغف الفنان الباحث عن لمسة، ويُذكّر بأنّ الهندسة الداخلية تتطلّب عمقاً في النظرة والأفكار، وخَلْق مزاج فنّي خاص. يقول عبد الله بركة: «لا أريد للمرآة أن تتحلّى بدور واحد. ذلك حَدٌّ لها. المرايا هي الأشخاص. أي نحن حين تُرينا أشكالنا وصورنا. وهي انعكاس يمكن أن نشعر به، فإذا بإبهاره الجمالي المُعبَّر عنه في التصميم والكادر، يجَعْل ذلك الشعور متبادَلاً، فيُعدّل حالة نفسية أو يُغيّر نظرة تجهُّم. هذا فعلُ اللون حول المرآة وقالبها. بمجرّد أنها ليست تقليدية، يحدُث الأثر في الناظر».

يُطلق عبد الله بركة فكرةَ المرآة أبعد من وظيفتها الآلية (ذا ميرور بروجيكت)

لم تكن يسيرةً ولادة الغاليري. مخاضُها خليطٌ من إحباط ومحاولة. يعود إلى عام 2019 المفصلي في لبنان. كلّ شيء بدأ يتغيَّر، والمسارات تتّخذ شكل السقوط. لم يدرك مكانه في وطن شديد التقلُّب؛ مباغت، وطافح بالمفاجآت. يروي: «الفراغ كان مميتاً. أشغالٌ توقّفت ومشروعات تبخَّرت. أسوةً بشباب لبناني لمس انسداد الأفق، تراءى منزلي مساحة اختناق. في تلك اللحظة، هبَّ الأمل. اشتريتُ ألواناً ورحتُ أرسم، وصمَّمتُ أشكالاً بالطين، فلمحتُ طريقي».

لا يريد عبد الله بركة للمرآة أن تتحلّى بدور واحد (ذا ميرور بروجيكت)

من الضياع وجد الخطوة الأولى. صقل عبد الله بركة رغبته في النحت وطوَّر مهارته. أنجز الشكل وصبَّ ضمنه المرآة. أراد وضع حدّ لحقيقة أنّ غاليريهات المرايا الفنّية في بيروت نادرة. اليوم، ليس عليه أو على زملاء المهنة البحث الطويل عن مرآة مشتهاة: «تعدّدت أدوات صناعة المرايا وكثَّفتُ العمل. كلما سمعتُ إطراء أردتُ مزيداً منه. في الغاليري أعمالي وأعمال مصمّمين من أميركا وكندا وأفريقيا الجنوبية وتايلاند وهولندا وأوكرانيا... خلف مراياهم قصص. ثمة مرايا مصمَّمة بالأسيد المحروق، وأخرى بالزجاج المُطبَّع، وصنف تتداخل بكادراته ألوان مُبهِجة. ولمّا تعدَّدت أسفاري، تعرَّفتُ إلى مدارس التصميم خصوصاً في ألمانيا وإيطاليا، وتعمّقت في جَعْل هذا الشغف واقعاً. اليوم أقول: أنا شاب لبناني بلغ اليأس. فرغَ العالم من حولي. وشعرتُ بالأبواب الموصدة. ثم نهضت. استراتيجية التفكير تبدَّلت، وأصبحت المعادلة: الآن أو أبداً! انتظار الوقت المناسب يهدر العمر. كل لحظة هي وقتٌ مناسب».

تصطفّ على الجدران أشكالٌ جمالية تجذب العين (ذا ميرور بروجيكت)

أمضى شهراً ونصف شهر يُصمّم مرايا بأشكال خلّاقة حتى ساعات الليل المتقدّمة، استعداداً لإطلاق المعرض بعد تأخُّر فَرَضَه الظرف اللبناني. «4 مرايا علّقتُها على جدرانه قبل ربع ساعة من فَتْح الباب للحضور!»، يُكمل ضاحكاً. إحدى الزائرات رمت على مسمعه ما علَّم في أعماقه: «لم نكن نعلم أنّ هذه المرايا حاجة. متى أدخلناها إلى منازلنا أصبحت منّا». ومن كثافة الإقبال وحلاوة الأصداء، يُدرك أنه على السكّة التي نادته، أو ناداها؛ يمنحها كلَّه فتمنحه الإشباع الذاتي.

بعض المرايا بسيط يحوط به كادر يُجمِّل البساطة (ذا ميرور بروجيكت)

بعض المرايا بسيط، يحوط به كادر يُجمِّل البساطة. يتعامل عبد الله بركة مع تصاميمه بما يُبقي على الأساس، وهو المُتوقَّع من المرآة بوصفها زجاجاً يستجيب للانعكاسات؛ لكنه أساسٌ (Basic) لا يكتفي بنفسه، وإنما يتعدّاها إلى الغاية الجمالية والبُعد الفنّي ما دام الزجاج مقولباً بالألوان ومتداخلاً بإطار مُبتَكر. يرى في المرايا حكايات، وإنْ خلت صفحتها من أي شكل: «تُخبرني دائماً بأنّ المشاعر أصدق ما نملك. هي الدافع لنُنجز ما طال انتظاره. باستطاعتها تعويض غياب اللوحة عن الجدار. مشغولة بحبٍّ مماثل».