الرواية الليبية... الإنسان والحيوان والطبيعة

كتاب بالإنجليزية يتتبع تطورها منذ سبعينات القرن الماضي

الرواية الليبية... الإنسان والحيوان والطبيعة
TT

الرواية الليبية... الإنسان والحيوان والطبيعة

الرواية الليبية... الإنسان والحيوان والطبيعة

عالم غير مألوف - على الأقل لأهل الشاطئ الآخر - مفرداته بشر وحيوانات وصحراء ممتدة وأفق بعيد وبحر كان يعرف قديماً باسم بحر الروم - ذلك هو عالم الرواية الليبية.
عن هذا العالم صدر كتاب «الرواية الليبية» باللغة الإنجليزية (مطبعة جامعة إدنبره 2020. 308 صفحات) من تأليف كاريس أولتشوك المحاضرة في الأدب العربي الحديث والثقافة بجامعة كمبردج. وقد سبق للمؤلفة أن حصلت على درجة الدكتوراه في 2016 بأطروحة جامعية عنوانها «لقاءات بين مخلوقات: الحيوان في المخيلة الأدبية الليبية».
يقترب منهج الكتاب مما يعرف بالنقد البيئي وهو مدرسة نقدية معاصرة تعنى بالتفاعل بين الإنسان والطبيعة (بمعنى المنظر الخلوي الطبيعي والنبات والحيوان والموارد الطبيعية) وتحلل أعمالاً فنية تثير قضايا أخلاقية ومعنوية حول سلوك الإنسان إزاء الطبيعة وموقفه منها إيجاباً وسلباً.
ويتتبع الكتاب تطور الرواية الليبية منذ سبعينات القرن الماضي حتى عام 2017 من خلال ثلاثة محاور: الإنسان، والحيوان، والطبيعة.
إن ليبيا تملك ساحلاً من أطول السواحل المطلة على البحر المتوسط، وأرضها تضم نباتات البحر المتوسط، وغابات نفضية ومخروطية، وسهوباً، وأعشاباً صحراوية. ومع انبثاق البترول والغاز الطبيعي من تربتها في 1959 اكتسبت جغرافيا البلد بعداً جديداً بإنشاء معامل تكرير النفط وأنابيبه ومرافئ تصديره، وظهرت صناعات كيميائية وصناعات نسيج ومعلبات ودخان. (انظر أطلس مصر والعالم بإشراف الدكتور محمد محمود الصياد).
ولكن الصحراء، رغم التوسع العمراني، ظلت حاضرة في الوعي الليبي وماثلة دائماً في الخلفية. وفي مقالة قصيرة (لا تأنى أولتشوك على ذكرها) عن رواية إبراهيم الكوني «نزيف الحجر»، يقول الدكتور حمدي السكوت، إن فضاء الرواية «صحراء وعرة جبلية تتوغل في جنوب ليبيا حتى العوينات وهي صحراء غنية بتراثها السابق على التاريخ، سواء تشكل هذا التراث في رسوم غير مألوفة محفورة في كهوفها وفي صخورها، أو في أساطير وميثولوجيا غير مألوفة أيضاً مرتبطة بتضاريسها وحيوانها».

د. ماهر شفيق فريد

يؤرخ لبداية الرواية الليبية بعام 1937 حين صدرت رواية «مبروكة» لحسين ابن موسى، وقد نشرها مؤلفها على نفقته حين كان يعيش منفياً في سوريا. تصور الرواية مقاومة الليبيين للاحتلال الإيطالي. وقد حظرت السلطات الفرنسية تداولها استجابة لطلب من إيطاليا. وبعد «مبروكة» ظهرت روايات منها ما يمجد البطل القومي عمر المختار ومنها ما هو عاطفي متأثر بميلودرامات السينما المصرية وروايات إحسان عبد القدوس. ثم ازداد الشكل الروائي نضجاً بصدور رواية الصادق النيهوم (1937 - 1994) «من مكة إلى هنا» (1970) وبطلها صياد أسماك أسود البشرة، متقدم في السن. وكان النيهوم يعيش في فنلندا حين صدرت هذه الرواية.
عكست الرواية الليبية منذ ذلك الحين التطورات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد: مراحل الاستعمار الإيطالي (1911 - 1943)، نشوب معارك حاسمة في الحرب العالمية الثانية على أرض ليبيا، الإدارة العسكرية البريطانية - الفرنسية المشتركة (1943 - 1951)، حصول البلاد على الاستقلال في 1951، الأسرة السنوسية المالكة (1951 - 1969)، الانقلاب الذي قاده العقيد معمر القذافي في 1969، فترة حكم القذافي الديكتاتوري الذي أعاد تسمية ليبيا لتصبح «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية»، سقوط القذافي ثم الحرب الأهلية منذ 2014 حتى يومنا هذا.
ومن المحطات التي يتوقف عندها كتاب أولتشوك رواية «نزيف الحجر» (1987) لإبراهيم الكوني المولود في 1948 بواحة غدامس وهو ابن قبيلة من الطوارق في الصحراء الجنوبية. تجمع الرواية بين النقد السياسي والتأمل الروحي والأسى على ما آل إليه حال البيئة الطبيعية. وتتصدر الرواية الآية الكريمة «وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم». وتبتعث قصة الأخوين قابيل القاتل وهابيل المقتول. كما تضم شواهد من مسرحية سوفويكيس «أوديب ملكاً» وكتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل الأندلسي.
ومن علامات الطريق المهمة في مسيرة الرواية الليبية ثلاثية «حدائق الليل» (1991) لأحمد إبراهيم الفقيه (1942 - 2019) الذي كان رئيساً لاتحاد الكتاب الليبي في 1978 وسفيراً لبلاده في أثينا وبوخارست.
الجزء الأول من الثلاثية وعنوانه «سأهبك مدينة أخرى» يسير في خطى رواية الطيب الصالح «موسم الهجرة إلى الشمال». الجزء الثاني (هذه تخوم مملكتي) يسير على نهج حكايات كتاب «ألف ليلة وليلة». الجزء الثالث (نفق تضيئه امرأة واحدة) يصور واقع طرابلس في ثمانينات القرن الماضي وتعالج الثلاثية قسمة الشرق والغرب والواقع والخيال.
ومن أهم الروائيين الليبيين في يومنا هذا هشام مطر المولود في 1970، الذي يكتب رواياته باللغة الإنجليزية. تتوقف أولتشوك عند روايته الأولى المسماة «في بلاد الرجال» (2006) وتدور أحداثها بين مصر وليبيا متخذة من الطفولة نقطة انطلاق (ترجم الرواية إلى العربية إبراهيم سكينة وصدرت الترجمة عن دار المنى في ستوكهولم عام 2007). وتروى الرواية على لسان طفل يدعى سلومه (سليمان) في التاسعة من عمره. وهي تبدأ وتنتهي برحيله إلى مصر وتدور أحداثها في صيف واحد من عام 1979.
ولا تغفل أولتشوك الحديث عن مساهمة المرأة الليبية في الفن الروائي (رزان نعيم المغربي وأخريات) وبحثها عن صوت أدبي واجتماعي.
كذلك شهدت الفترة التي يغطيها الكتاب تحول عدد من الأدباء عن كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية. ذلك أن الرواية شكل مضياف يمتاز بتعدد الأصوات، وانفتاح البناء على الأقصوصة والفولكلور والشعر، وكونها لسان حال الصامتين والمهمشين.
وثمة أصوات جديدة في الأدب الليبي يمثلها كتاب «شمس على نوافذ مغلقة» (2017) وهو يضم أقاصيص وقصائد وفصلاً من رواية بأقلام عدد من الكتاب. وقد قدم للكتاب أحمد الفيتوري.
وفي ظل الأحداث المضطربة التي مر بها تاريخ ليبيا، وما زال يمر حتى هذه اللحظة، لا يكون من الغريب أن نجد كثيراً من الروايات الليبية تصور عالماً كئيباً، علاقاته الإنسانية هشة، ترتمي عليه ظلال الجمود والجوع والألم أثناء السنوات العجاف من حكم القذافي، وهي النتيجة التي تنتهي إليها أولتشوك في كتابها هذا المتميز بدقة التحليل، وسعة الإحاطة بالموضوع، مما يجعله مرجعاً لا غنى عنه لسنوات كثيرة مقبلة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».