«حي 14 تموز» رواية القصة الشخصية عن بلاد تفقد ذاكرتها

سهيل سامي نادر يستعمل وقائع سيرة ذاتية في بناء عالم متخيل

«حي 14 تموز» رواية القصة الشخصية عن بلاد تفقد ذاكرتها
TT

«حي 14 تموز» رواية القصة الشخصية عن بلاد تفقد ذاكرتها

«حي 14 تموز» رواية القصة الشخصية عن بلاد تفقد ذاكرتها

لا حدود متصوَّرة يمكن أن نقف عندها لنقول هنا تبدأ سيرة المواطن العراقي المعروف باسمه الأدبي «سهيل سامي نادر»، وبين سيرة الشخصية الروائية المتخيلة المسماة «منير فاضل»، ومن خلفه سير فرقة أو مجموعة البؤس والمرح، وخاصة سيرتي صديقيه فالح وصالح في رواية «حي 14 تموز: المدى/ 2023»؛ ففي سيرته السابقة «سوء حظ، ذكريات صحافي في زمن الانقلابات: المدى/2020» حكى لنا الكاتب كيف يتحول «سوء حظ» إلى مجاز «سردي» كلي للحياة في العراق، فيصبح «تميمة» تفرض التعاسة على الجميع، سوى أنه في حالة صاحب السيرة يتحول إلى جحيم شخصي بلا حدود. وسوء الحظ ذاته هو المادة السردية التي أعاد «سهيل سامي» تخيلها ببناء سردي مختلف. هل ثمة الفارق هنا؟ في الحالة الأولى نحن في سياق سيرة ذاتية مصنفة ضمن صيغة «مذكرات» كما كتب الناشر على الغلاف الأول، فيما تضعنا الثانية ضمن سياق فن خالص مصوغ بنص سردي متخيل. والفارق كبير بين الحالتين ولا شك، وليس الكلام هنا عن السياق المختلف بينهما، إنما عن «استعمال» القصة الشخصية «وقائع السيرة الذاتية» في بناء عالم الرواية المتخيل، لا سيّما عندما تتقصّد الرواية «استعمال» وقائع السيرة المنشورة من قبل؛ ربما لأن كاتبها يعتقد بأهمية وقائع سيرته الشخصية، بدلالتها التاريخية، وحتى الشخصية المفارقة، ربما. والكاتب، على أي حال، ليس أول من سلك هذا السبيل في الكتابة، ولن يكون الأخير، قطعا، إنما المفارقة، هنا، أن تكتب «سيرتك» ثم تعود وتكتب «روايتك» باعتماد الوقائع «السيرية» ذاتها وتعيد «تأويلـ»ــها ضمن عالم فني متخيل.

جدل بيزنطي: ما قاله المؤرخ...
ما عاشه الكاتب
لكن للمجاز السردي في الرواية وجه آخر، نعثر عليه في سياق المراهنة على «قدرة» العراقي لنقل جدارته، المختلف عليها، في «إنتاج» رواية عن بلاده، وربما الأحرى: عن نفسه. ثمة جدل «نظري» يرتقي أو يتطور بتقدم أعمار المتجادلين الثلاثة «فالح وصالح ومنير/ الراوي الذاتي»، موضوعه المقارنة، أو المراهنة على إمكانية العراقي على كتابة رواية متميزة. فالح وصالح قرينا بعض، دافعا عن صلاحية المؤرخ، بل وقالا بعجز الشخصية العراقية عن تخيل قصتها وكتابتها، فيما دافع الراوي، منير فاضل، ربما حتى الخاتمة، عن إمكانية كتابة رواية عراقية متميزة. فيما بعد، ومع صعود وترسخ قصة الديكتاتور، بوصفها القصة العراقية الوحيدة المسموح بتداولها في زمن الحرب، صرنا نقرأ اعترافا ضمنيا، ربما، يصدر عن الجنديين التعيسين «المساقين» إلى حرب الديكتاتور الكبرى، بإمكانية صديقهما منير على كتابة رواية عراقية يكونان، هما الاثنان، بطليها المتخيلين. لكن لماذا أصرَّ فالح وصالح على ترجيح «صرامة» المؤرخ على «سيولة» الرواية في سياق الحالة العراقية المنقلبة على نفسها، قبل أن تلقنهما سردية الحياة العراقية الدروس اللازمة؟ لا تبخل جدالات جماعة المرح والبؤس بالإجابة، بل إنها كثيرة ومتداخلة مع بعض، أغلبها يدور حول أهميتهم بصفتهم «مجموعة وليس جماعة: ربما لأن الجماعة تتضمن اتهاما سياسيا قبل أن تكون مشكلة ثقافية ذات مضمون لا جدال فيه!» تبحث عمن يؤرخ لها، فتختار منير فاضل، راوي حكاياتهم لاحقا، وهو المختص، في الوقت ذاته، بالتاريخ. أهم الإجابات تركز على زئبقية العراقي؛ فهو «كائن متزحلق»، ينقلب على نفسه وخياراته المصيرية وهو، من ثمَّ، بحاجة لعلوم التاريخ أكثر من سرديات المثقفين النرجسيين المتمثلة بالرواية التي ربما لا تتفهم «انقلابية» العراقي ولا تتمكن من السيطرة عليها كما يفعل التاريخ. لأجل هذا، ربما، يقرر كاتب المخطوطة، الذي لا نعرف عنه سوى أن اسمه «أنور»، وهو صديق لشقيق «الناشر»، أن يُقسم الرواية على قسمين. قسم أول ينتهي بـ«سوق» أصدقاء المرح والبؤس إلى جبهات القتال. وقسم ثانٍ نشهد فيه تحقق الانقلابات الكبرى على مستوى المصائر والحكايات.
في القسم الأول نشهد تنامي التحفظ الشخصي لـ«راوي» الجماعة، ولأعضاء المجموعة الآخرين، من حالهم ابتداء، بالسخرية المباشرة أو بالكتابات المنفلتة عن أي تصنيف «كتابي». نفتتح القسم بصفة «البؤساء»، وأيضا بالتشديد على الصفة المكانية المتعالية لحي «14 تموز»، ولمنطق المراقبة والرصد باختيار الغرف العلية، ليس فقط للتلصص على الشارع والحي والذات المضطربة، إنما، كذلك، لمنح المكان فرصة أخرى للتعبير عن جماعة البؤس والمرح بتوصيف علاقتهم بالواقع بالتعالي. وللمكان معانٍ أخرى تندمج مع البعد الرمزي للعنوان. في الطليعة منها، أن الرواية تختار عنوانا يحيل إلى مكان واقعي ذي أبعاد رمزية تتقصَّدها الرواية؛ فالحي المقصود يقع على خارطة بغداد قريبا من قناة الجيش التي تنتهي بها حدود العاصمة؛ بعدها تبدأ الأكواخ وبيوت الصفيح في شرق، وتلك الأنحاء منحت سردية «14 تموز» دلالاتها التاريخية الفائضة عن أي استعمال. لكن الرواية لا تتورط بإشارات نوعية ضد فئة أو مجموعات رئيسية تسكن هناك، مثلما فعلت روايات عراقية «رائدة» غمزت كثيرا من قناة الوافدين للعاصمة. كما أنها لا تترصّد الزمن الجمهوري بالضد من غريمه الملكي، رغم أنها تقدم حالة «14 تموز» دليلا أخيرا على تحولات المعاني وتقلبها في قصة العراقي. هي تبدأ، حتما، من المآل الأخير، من نهاية القصة، بالضبط من لحظة صعود الديكتاتور نهاية سبعينات القرن الماضي. تلك اللحظة المحتومة مناسبة كثيرا لأن تبدأ بها الرواية، وهي ذاتها لحظة ما بعد 14 تموز بكل أبعادها الرمزية والواقعية، بل هي خلاصتها التاريخية، مثلما هي لحظة ضيق المكان وتهافته حتى أنه لا يتسع لغرفة صغيرة يكتب فيها منير روايته!

شهادة الناجي الأخير:
أي قصة انتهت... أي قصة ابتدأت؟
لا تشبه رواية الحرب العراقية المكتوبة بعيدا عن مقاسات حرب «الرئيس القائد» أي رواية أخرى سوى رواية الديكتاتور المناقضة كليا لها، والممتدة بألف صلة لها، مما لم يكتبها عراقي شهد سردية الحرب ووقائعها؛ فهي أقرب إلى إنجاز الحكاية وتجريبها منها إلى ملاحقة حكايات جماعة البؤس والمرح شبه المكتملة. فالروايتان تستخدمان اللغة ذاتها بتوصيفات متعارضة، وهما تطوران شخصيات وحبكات متماثلة ذات أهداف تنقلب ضد بعض. أتصور أن «أنور»، كاتب المخطوطة، قد فكر بهذا الأمر، بل إني قد أزعم أنه دُفع إليه دفعا، وهو يُقسِّم «روايتـ»ـه على قسمين. قسم اكتمل عنده، وقد سلَّمه للناشر. وقسم ثانٍ لم يكتمل، وقد اختص بالحرب ووقائعها. لكن «أنور» مثل «منير»، وربما مثل سهيل سامي نادر، لم يذهب للحرب، إنما تفضَّلت عليه الحرب وجاءته للبيت وسكنت معه في غرفته العلية. وليست مقاصد الحكاية كلها هنا؛ لأن الحرب لم تكن هي الحكاية برمتها، أو بتفاصيلها المبعثرة الكثيرة كما جثث ضحاياها، مثلما أن «أنور» أو «سهيل» لم يكونا مشغولين بقصة «الديكتاتور» بمفردها بعيدا عن إشكالية المكان وصياغاته الرمزية، كانت الحكاية لديهما هي عالم «14 تموز» بأبعاده الرمزية ووقائعه المختلفة. وقد تبدو هذه الوقائع، أحيانا، جاهزة ذات صياغات كلية مكتملة حتى قبل أن تصدم بها جماعة البؤس والمرح أو تعيشها بصفة أنها قصص شخصية. لنأخذ، مثلا، واقعة الريبة المتنامية، غير المسوَّغة، ربما، من عوالم الحي وبغداد ومن السلطة ولا شك. ثمة صياغات «سردية» تتبناها الشخصيات، وخاصة الراوي وصديقيه، لا تنسجم مع ذواتهم المحتدمة في سياق سيرهم المتماثلة أو المتعارضة في الحي أو غرفها العلية. ولعل هذا التنافر الظاهري يفسره منطق السرد التذكري الطامح لكتابة «شهادة» أخيرة عن زمن «14 تموز». لكن السرد يتخذ طابعا شخصيا بسوق الأصدقاء للحرب، فتتصدر وقائع القصة الشخصية من أحداث ومونولوجات، فنرى الأفعال تُنجز أمامنا ممهورة بالطابع الشخصي للراوي. تترك الحرب الراوي وحيدا مع ذاته وعوقه وتلصصه على حيه وشارعه وعلى ذاته المحتدمة.
لكن صاحب رواية «التل» يعرف جيدا أن للحرب سرديتها النافرة؛ مثلما أن الحرب ذاتها تدرك جيدا حدود مهمتها بصفتها صانعة المصائر التعيسة. ولا تعاسة تعادل أن تكون شاهدا على نصوص شكَّلتها ضغوطات قاهرة كثيرة، ليس آخرها أن تكون الكتابة ذاتها هي إحدى الخلاصات الكبرى لمقاومة النسيان في مجتمع فقد ذاكرته وحكاياته جراء الحرب والديكتاتورية وموت الأمل. وهذا شأن شهادة فالح، مثلا، قبل موته، على ما حصل مع صديقهما صالح. وهو ذاته شأن الرواية؛ أن تكون «كتابة ضد كتابة. منير ضد زبيبة. صالح ضد إبراهيم. فالح ضد العالم... ص 166». حقا؛ ليس هناك شهادة تحصَّل عليها الراوي تمثله شخصيا، كما تمثِّل صديقه «المنتحر» صالح، أكثر من شهادة فالح عن الحرب والصديق المنتحر، كما تصر على ذلك السلطة على توصيف موته، وعلى حياة مشتركة جمعتهم ثم انقرضت إلى الأبد.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
TT

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

عاماً بعد عام وبدأب وطموح كبيرين يُثبت معرض فن أبوظبي مكانه في خارطة المعارض الفنية العربية، وهذا العام احتفل بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم في مقره بجزيرة السعديات الملتفة برداء الفنون. التجول في أروقة المعرض الفني يحمل الكثير من المتعة البصرية والفنية، نعيد مشاهدة أعمال لفنانين كبار، ونكتشف أعمالاً لم نرها من قبل لفنانين آخرين، ونكتشف في وسط ذلك النجوم الصاعدة. ولم يختلف الوضع هذا العام بل أضاف أقساماً جديدة ليستكشف الزائر من خلالها أعمالاً فنية بعضها عتيق وبعضها حديث، من الأقسام الجديدة هناك «صالون مقتني الفنون» و«فن جريء، فن جديد» و«طريق الحرير، الهويات المتبادلة» إضافة إلى معرض منفصل من مجموعة فرجام عن الفن الحديث والتحرر من الاستعمار سنعود له لاحقاً.

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

صالون مقتني الفنون

يُعد إضافة مميزة لنسخة هذا العام، ويعرض المخطوطات والأسطرلابات والتحف التاريخية والكتب النادرة بتنظيم من روكسان زند. نطلق الجولة من غرفة أنيقة حملت جدرانها خريطة ضخمة أحاط بها من اليمين واليسار قطعتان مثبتتان على الحائط، ونقرأ أنها كانت تُستخدم لحمل العمامة في العهد العثماني، في كوات حائطية نرى أطباقاً من الخزف أحدها يعود للقرن الـ16، ويصور فارساً عربياً على صهوة جواده، وفي أخرى إبريق ذهبي اللون يعود للعهد العثماني. في جناح «شابيرو للكتب النادرة» من بريطانيا نرى نسخاً من مصاحف تاريخية مزخرفة ومذهبة بجمال وحرفة لا تتخطاها العين، ما يجذب الزائر هو أن الكتب والمصاحف كلها في متناول اليد مفتوحة الصفحات ومنتظمة في عرض جميل.

مصاحف أثرية (الشرق الأوسط)

تستعرض القائمة على العرض بعض القطع المميزة، وتقول: «إنها المرة الأولى التي نشارك فيها في معرض أبوظبي. نعرض بعض المخطوطات والكتب النادرة من متجرنا في لندن، منها صفحة من مصحف بالخط الحجازي يعود للقرن السابع، وبعض المصاحف المصغرة أحدها يعود للقرن الـ19». وعن الأسعار تقول إنها تتراوح ما بين آلاف الدولارات لبعض اللوحات التي تعود لعهد الحملة الفرنسية على مصر، أما المصاحف فتتراوح أسعارها حسب تاريخها ونسبة مالكيها السابقين، كمثال تشير إلى نسخة تعود لبلاد فارس في القرن الـ16 سعرها 335 ألف دولار، وصحائف من القرآن تتراوح أسعارها ما بين 20 و30 ألف دولار. هنا أكثر من مثال للمصاحف المصغرة منها مصحف مكتوب بدقة متناهية بالذهب على أوراق خضراء اللون مشكلة على نحو ورق الشجر، وبجانبه نرى مصحفاً مصغراً آخر محفوظاً في علبة ذهبية تتوسطها عدسة مكبرة. الكتابة دقيقة جداً، وهو ما يفسر وجود العدسة المكبرة، تقول: «هذا المصحف ليس مكتوباً باليد مثل المصاحف الأخرى هنا، بل مطبوع من قبل دار نشر في غلاسكو في عام 1900 باستخدام تقنية جديدة للطباعة الفوتوغرافية. ومثل هذا النوع من المصاحف المصغرة كانت تطبع لاستخدام الجنود البريطانيين المسلمين في الحرب العالمية الأولى، وكانوا يرتدونها معلقة في قلائد كتعويذة، يقدر سعر المصحف بـ3.5 ألف دولار أما المصحف على هيئة ورقة الشجر فيقدر سعره بـ40 ألف دولار.

مصحف مصغر مطبوع في غلاسكو عام 1900

نمر على «غاليري آري جان» الذي يعرض لوحات المستشرقين من القرن الـ19، ومنها أعمال جاك ماجوريل، ثم نصل إلى جناح «كتب دانيال كاروش النادرة» الذي يعرض مكتبة تضم أكثر من 500 ألبوم صور تحتوي على صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي الأوسع. هنا نرى مجموعة من الصور النادرة المكبرة معروضة على كامل الحائط، من ضمنها صور من الجزيرة العربية قديماً، بعضها لأشخاص مشهورين مثل الرحالة غيرترود بيل ولورانس العرب، وغيرها لأشخاص لا نعرف أسماءهم، نرى أيضاً صوراً للكعبة المكرمة وصوراً عامة لأشخاص يرتدون الزي العربي. في الصدارة مجموعة من المجلدات، يقول عنها المشرف على الجناح إنها المجموعة الكاملة التي تضم 33 ألف صورة من 350 ألبوماً، يقول: «إنَّ المجموعة تعود لسيدة من لندن تُدْعَى جيني ألزوث، وإنها جمعت الصور على مدى 25 إلى 30 عاماً. الشيء المثير للاهتمام في هذه المجموعة هو أنها تعبّر عن لمحات من الحياة اليومية في الجزيرة العربية التقطها زوار أوروبيون بريطانيون على مدار 130 عاماً».

صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي

يضيف محدثنا أن الصور لم تنشر من قبل، «نأمل أن تقدم هذه الصور سرداً لتاريخ المنطقة لم يوثقه أحد من قبل»، ويقدر سعرها بمبلغ 2 مليون دولار.

ولفت جناح دار «كسكينار - كنت آنتيكس» الأنظار إليه بمجسم لحصان وضع عليه سرج صُنع للسلطان العثماني سليم الثالث (1789-1807) ومزين بـ1036 شكلاً مذهباً، منها أكثر من 500 نجمة فضية، وكل نجمة يصل وزنها إلى 11 غراماً تقريباً، ويصل سعر السرج إلى 3 ملايين دولار.

«فن جريء، فن جديد»

«فن جريء، فن جديد»، بإشراف ميرنا عياد، يعيد عرض أعمال لفنانين مهمين كان لهم أدوار محورية في تاريخ الفن في المنطقة. من خلاله تستعرض صالات من تونس ومصر وفلسطين ولبنان والمملكة العربية السعودية وإيران وفرنسا، مجموعة ملهمة من أعمال الفن الحديث لفنانين وفنانات رواد من أوائل الستينات، وحتى أوائل الثمانينات»، وفي هذا الإطار نستمتع بنماذج رفيعة لرواد أمثال إنجي أفلاطون من مصر ونبيل نحاس من لبنان وسامي المرزوقي من السعودية وغيرهم. الأعمال المعروضة في هذا القسم لها ألق خاص فهي تعيد فنانين حفروا أسماءهم في تاريخ الفنون في بلادهم، وفي الوطن العربي بعضهم انحسرت عنه أضواء السوق الفنية، وأعادها العرض مرة أخرى لدائرة الضوء.

عمل للفنانة المصرية إنجي أفلاطون (الشرق الأوسط)

في «غاليري ون» نرى أعمالاً للفنانة الأردنية الفلسطينية نبيلة حلمي (1940-2011)، يصف موقع المتحف الوطني الأردني أسلوب الفنانة الراحلة بأنه خليط من «الكولاج والألوان المائية والحبر الصيني. تتميز أعمالها الزيتية بشفافية حالمة وعفوية، فيها تجريد تعبيري يتسم بالغموض والنضج الفني». نرى هنا نماذج لأعمالها، ونتحدث مع المشرف على القاعة عنها، يقول إنَّ الفنانة لها أعمال في متاحف عالمية وعربية، ولكنها قليلة في السوق التجارية. الفنانة الثانية هي إميلي فانوس عازر (فلسطينية، مواليد الرملة عام 1949)، ويعرض لها الغاليري أكثر من عمل منها بورتريه لامرأة تنظر إلى الأمام بينما عقدت ذراعيها أمامها، العمل يجبر الزائر على التوقف أمامه والتأمل فيما يمكن أن تخفيه تلك المرأة خلف نظرتها الواثقة والعزيمة التي تنبعث منها.

بورتريه للفنانة إميلي فانوس عازر (الشرق الأوسط)

من مصر يقدم «أوبونتو آرت غاليري» المشارك للمرة الأولى عدداً من أعمال الفنان المصري إيهاب شاكر (1933-2017)، المألوفة للعين، فالفنان له خطوط مميزة رأيناها في أعمال الكاريكاتير التي نشرها في الصحف المصرية. يقول المسؤول عن الغاليري إن شاكر انتقل للعمل في مسرح العرائس مع شقيقه ناجي شاكر قبل أن يسافر إلى فرنسا في عام 1968 حيث عمل في مجال أفلام الرسوم المتحركة، ونال عدداً من الجوائز عن أحد أفلامه. تلفتنا تعبيرات شاكر التي تحمل عناصر شعبية مصرية يقول عنها محدثنا إنَّها تبعث البهجة، ويشير إلى أن الحس الموسيقي يميز أعمال الفنان أيضاً، ويظهر ذلك في الوحدة والتناغم بين العناصر، ويؤكد أن «لديه خطوطاً مختلفة عن أي فنان آخر».

من أعمال الفنان إيهاب شاكر (الشرق الأوسط)

 

في «غاليري بركات» من بيروت نجد مجموعة من الأعمال المتنوعة ما بين اللوحات والمنحوتات الخشبية والبرونزية، يتحدث معنا صالح بركات مالك الغاليري عن الأعمال المعروضة، ويبدأ بالإشارة لعمل ضخم من البرونز للفنان معتصم الكبيسي يمثل أشخاصاً يتهامسون: «يعكس خلفيات المسرح السياسي، الكل يتهامس، وما لا يقال قد يكون أكثر أهمية مما يقال». للفنان جوزف الحوراني منحوتات خشبية تحمل كتابات بالخط العربي، تنتظم ببراعة، وتتضافر في تشكيلات خشبية مدهشة تجعلنا ندور حولها، ونحاول قراءة الجمل المكتوبة، ومنها «مصائب قوم عند قوم فوائد» و«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ». «عبقرية!» يصفها صالح بركات، ويتحدث عن الخط العربي ونقله للعالم المعاصر: «أنا اليوم يعنيني أن نحافظ على تراثنا بطريقة عصرية. نريد أن نأخذ تراثنا للمستقبل».

من أعمال الفنان العراقي سيروان باران (الشرق الأوسط)

ينتقل إلى عملين للفنان سروان بهما الكثير من الحركة، نرى أشخاصاً يتحركون في اتجاهات مختلفة، يحملون حقائب وأمتعة، ليست حركة مرحة بل متعجلة، يعلق: «الفنان لا يتحدث فقط عمّن يرحل، بل أيضاً عمّن يعود، حالات ذهاب وعودة وضياع».

 

الفن السعودي حاضر

عبر مشاركات في «غاليري أثر» و«غاليري حافظ» نرى عدداً من الأعمال الفنية السعودية المميزة، فيعرض «غاليري أثر» مجموعة من أعمال الفنانة المبدعة أسماء باهميم تفيض بالحيوانات الأسطورية وقصص من الخيال مرسومة على الورق الذي تصنعه الفنانة بيدها. للفنانة باهميم هنا مجموعتان جذابتان: «ملاحظات في الوقت» و«فانتازيا». تستكشف الأخيرة الفروق الدقيقة والتعقيدات في سرد القصص. وتتعمق «ملاحظات في الوقت»، وهي سلسلة أحدث، في الفولكلور العربي، وتفحص الأدوار الجنسانية في الحكايات التقليدية وتأثيرها اللاحق على الهوية الثقافية.

من أعمال الفنانة أسماء باهميم (الشرق الأوسط)

كما يقدم «أثر» عدداً من أعمال رامي فاروق الفنية وسلسلة للفنانة سارة عبدو بعنوان «الآن بعد أن فقدتك في أحلامي، أين نلتقي». أما «غاليري حافظ» فيقدم صالتين تتضمنان أعمال مجموعة من الفنانين المعاصرين والحديثين، فيقدم عدداً من أعمال الفنان سامي المرزوقي تتميز بألوانها وخطوطها التجريدية. وفي قسم الفن المعاصر يعرض أعمال الفنانة بشائر هوساوي، التي تستمد فنونها من بيئتها الغنية وذاكرتها البصرية العميقة، باستخدام مواد طبيعية مثل النخيل، وتعبر عن موضوعات مثل الانتماء، والحنين، والهوية الإنسانية المتغيرة. بجانبها يستعرض سليمان السالم أعماله التي تتعمق في الطبيعة الزائلة للوجود. باستخدام تقنيات الطباعة العدسية والفيديو ووسائط أخرى، تستكشف أعماله التفاعل بين الشعور والإدراك والتواصل الإنساني.