سلمى الخضراء الجيوسي... امرأة مخلوقة للصفوف الأولى

ليس من السهل تصنيف إرثها تصنيفاً تراتبياً

سلمى الخضراء الجيوسي
سلمى الخضراء الجيوسي
TT

سلمى الخضراء الجيوسي... امرأة مخلوقة للصفوف الأولى

سلمى الخضراء الجيوسي
سلمى الخضراء الجيوسي

أدهشني أن تموت سلمى الخضراء الجيوسي. حقاً أن الموت حق علينا جميعاً، وأنها كانت في الخامسة والتسعين من عمرها، وهو عمر لا يطمح إليه أغلبنا. لكن الجيوسي كان لها حضور طاغٍ يصعب تصور إمكانية غيابه غياباً تاماً. كان حضورها طاغياً في إنجازاتها الأكاديمية في خدمة الأدب العربي، كما كان حضوراً طاغياً أيضاً في أي مناسبة حضرتها شخصياً. كانت امرأة مخلوقة للصفوف الأولى، ليس فقط بعملها الدائب ومنجزها الأكاديمي والأدبي، ولكن بتركيبتها الشخصية الساحرة التي لا تقبل الرفض كإجابة على ما تطلب، ولكن أيضاً لأن سحر شخصيتها كان يجعل عدم القبول أو الاعتذار عن طلب أو تكليف منها أمراً ليس في إمكان الكثيرين. كانت تعرف كيف تجعل من الإصرار والإلحاح والمعاودة فناً جميلاً محبباً، لو مارسه غيرها لكان مصدر إزعاج ومدعاة لصرف الملحّين خائبين. هذه الشخصية هي ما سهّل لها استقطاب الدعم المالي لمشروعاتها النبيلة، وتجنيد الكُتّاب والمترجمين والأكاديميين في خدمة مشروعها الأكبر في ترجمة ونشر الأدب العربي باللغة الإنجليزية، (بروتا). التقيت سلمى الجيوسي لأول مرة حين دعوناها لإلقاء البحث الافتتاحي في مؤتمر كبير نظمناه في جامعة إكستر Exeter في خريف عام 1994 حول «التقليد والحداثة في اللغة والأدب العربيين»، حيث تكلمت في موضوعها الأثير «التقليد والحداثة في الشعر العربي»، والذي نُشر لاحقاً (لندن 1996) ضمن كتاب أعددناه عن أعمال المؤتمر. أذكر أني كنت رئيس الجلسة وأنها تمادت في تجاوز الوقت المخصص لها، رغم أريحيته كونها متحدثاً رئيسياً، وأن كل محاولاتي المستميتة والمتكررة لتذكيرها بوجوب الانتهاء، باءت بالفشل الذريع، أمام عنادها وإصرارها، ولكن قبل ذلك سحر شخصيتها، الذي لم أملك أمامه ولا ملك جمهور الحاضرين إلا الغفران الكامل. وإن كان هذا العناد وهذا السحر قد كسبا لها دقائق إضافية عدة في ذلك المؤتمر (وفي غيره بلا شك)، فإنها هي الخلال ذاتها التي جاءت لها بمكاسب أهم كثيراً في مشروعاتها الأدبية الواسعة كما أسلفت.

ليس من السهل تصنيف إرث الجيوسي تصنيفاً تراتبياً. وليس من السهل التنبؤ بما يصمد منه لاختبار الزمن وما تطويه الأيام ضمن ما تطوي. إلا أنه إن سألني سائل اليوم سؤالاً في هذا المضمون، فإني شخصياً لن أتردد في ترشيح دراستها «الشعر العربي الحديث: حركاته واتجاهاته» Trends and Movements in Modern Arabic Poetry الصادرة عام 1977 في اللغة الإنجليزية عن دار بريل، والذي صدرت لها ترجمة عربية في عام 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. قام الكتاب على أساس من أطروحتها للدكتوراه التي كانت أنجزتها قبل سنوات في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن. يغطي هذا الكتاب الموسوعي الواقع في مجلدين والذي تتجاوز صفحاته الثمانمائة - تطور الشعر العربي من أواخر القرن التاسع عشر وحتى آخر اتجاهاته وقت إجراء الدراسة في فترة الستينات من القرن الماضي، التي شهدت تحولات جذرية في هذا الفن القديم قِدم اللغة العربية ذاتها. حين كنت أدرِّس مادة الشعر العربي الحديث للطلاب الإنجليز كان هذا الكتاب مرجعي الأول، وكان يتصدر القائمة الببليوغرافية التي أزود بها طلابي لإعانتهم على القراءة والبحث في الموضوع. ولا أشك أنه لا يزال يحتل المكان نفسه لدى مدرسي المادة اليوم مع شيء من الحسرة، إنه ليس هناك مجلد ثالث يغطي ما حدث في الشعر العربي من ستينات القرن الماضي إلى أوائل القرن الحالي.
هذا في رأيي الإنجاز الأكبر والأبقى للجيوسي؛ فهو إنجاز بحثي كبير استغرق سنوات طويلة من البحث المنفرد والعكوف على مصادر ومراجع الشعر العربي ومدارس النقد، قديمها وحديثها، وقد صدر في وقت كانت تعزّ فيه مثل تلك الدراسات الشاملة، ليس فقط في اللغة الإنجليزية بل والعربية أيضاً. لكن الأدب العربي يدين للجيوسي بما هو أكثر من ذلك، ويدين لها أيضاً الآلاف من قراء هذا الأدب ودارسيه ومدرِّسيه في اللغة الإنجليزية؛ إذ إنها أنفقت قسماً كبيراً من حياتها للتعريف بذلك الأدب وأعلامه وروائع نصوصه، خاصة الحديث منها، عن طريق الترجمة والتقديم والتحرير. كانت تضطلع شخصياً بالترجمة كما فعلت على سبيل المثال في ترجمتها في عام 1982، بالاشتراك مع المستعرب البريطاني ترفور ليجاسيك LeGassick، لرواية إميل حبيبي الشهيرة، «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». إلا أن الجهد الأكبر للجيوسي في مجال الترجمة كان في عملها الجماعي من خلال المشروع الذي عُرف باسم «بروتا» PROTA الكلمة المؤلفة حروفها من الاسم الكامل في الإنجليزية «مشروع الترجمة من العربية»Project for Translation from Arabic الذي أسسته الجيوسي في 1980 واستقطبت للعمل فيه عبر عقود عدة مجموعات متميزة من الأكاديميين ومترجمي الأدب والمؤلفين، مستغلة مهاراتها الشخصية وصبرها الطويل وعلاقاتها المتشعبة وقدرتها على استجلاب الدعم المالي للبحث والنشر من مصادر متعددة. اتسم هذا المشروع الكبير بصفة خاصة بنشر الأنتولوجيات أو بعبارة أخرى المختارات أو المنتخبات، تمييزاً عن الأعمال المفردة. وهي من أصلح سبل الترجمة والنشر في استهدافها تقديماً عريضاً لنوع أدبي أو فترة بعينها أو أدب قومي لجمهور قراء لا يعرفون عنه شيئاً، بدلاً من التركيز على كاتب بعينه أو نص منفرد.
كان من بواكير تلك المنتخبات مجلد فيما يقارب الستمائة صفحة نُشر في 1988 عن دار كيجان بول اللندنية برعاية جامعة الملك سعود في الرياض بعنوان The Literature of Modern Arabia ضاماً بين غلافيه أعمالاً شعرية وقصصية لما لا يقل عن 95 كاتباً من السعودية واليمن وسائر أنحاء شبه الجزيرة العربية. كان عملاً رائداً في الترجمة والتعريف بأدب الجزيرة العربية في وقت كان العالم لا يقرن اسم شبه الجزيرة بشيء سوى النفط. ثم تتالت المنتخبات المترجمة. فمنها واحد عن «الشعر العربي الحديث»، وآخر عن «الأدب الفلسطيني الحديث»، وثالث عن «المسرح العربي الحديث» أسعدتني المشاركة فيه بترجمة لمسرحية ألفريد فرج ذائعة الصيت «علي جناح التبريزي وتابعه قفة»، وغير هذا من المنتخبات والأعمال المنفردة التي صدرت عن كبريات دور النشر الجامعية مثل «مطبعة جامعة كولومبيا» و«مطبعة جامعة إنديانا» وغيرها والتي تتالت من الثمانينات وعلى مدى العقود الثلاثة التالية.
كتبت سلمى الجيوسي بعض الشعر ونشرته، على أنني لا أظن أن شعرها مما يبقى مع ما يبقى من آثارها. ولعلها ما كانت لتخالفني الرأي وهي المتخصصة الوثيقة بالشعر العربي الحديث. صنّفها الناقد والأكاديمي المصري مصطفى بدوي في مختاراته من الشعر العربي الحديث (أوكسفورد - بيروت 1969) باعتبارها من أتباع الرومانسية أو من ممارسي الأسلوب الرومانسي في الشعر بعد انقضاء عصره. وهو تصنيف أوافقه الرأي فيه تماماً. ولنختمْ هذه المقالة الاحتفائية بالكاتبة الراحلة بالمقطع الأول من قصيدة لها بعنوان «المدينة والفجر»
لكل مدينة في الفجر ساعة طهرها الساحر
فلو ضجّت لياليها
ولو صخبت مقاهيها
ولو سالت دنانُ الخمر رجساً في سواقيها
فعند الفجر تلقاها
وثوبُ الطهر يغشاها
كأن الليل لم يرقص على مصباحها الساكر


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

بصمة على علبة سجائر تكشف لغز جريمة قتل عمرها نحو نصف قرن

البصمة التي دلت على القاتل وجدت ضمن علبة تحوي أدلة (أ.ب)
البصمة التي دلت على القاتل وجدت ضمن علبة تحوي أدلة (أ.ب)
TT

بصمة على علبة سجائر تكشف لغز جريمة قتل عمرها نحو نصف قرن

البصمة التي دلت على القاتل وجدت ضمن علبة تحوي أدلة (أ.ب)
البصمة التي دلت على القاتل وجدت ضمن علبة تحوي أدلة (أ.ب)

بعد ما يقرب من نصف قرن على مقتل شابة في ولاية كاليفورنيا الأميركية خنقا، أعلنت السلطات أن بصمة إبهام على علبة سجائر قادت إلى اعتقال المشتبه به.

وجهت إلى ويلي يوجين سيمز تهمة القتل، بعد أن ألقي القبض عليه في مدينة جيفرسون بولاية أوهايو، على خلفية مقتل جانيت رالستون، وفقا لبيان صدر عن مكتب المدعي العام في مقاطعة سانتا كلارا. ومثل سيمز (69 عاما) أمام المحكمة في مقاطعة أشتابولا يوم الجمعة، تمهيدا لتسليمه إلى كاليفورنيا.

وجدت رالستون مقتولة في المقعد الخلفي لسيارتها من طراز فولكس فاجن بيتل بتاريخ الأول من فبراير (شباط) 1977، في مدينة سان خوسيه، بحسب مكتب الادعاء. وعثر على جثتها في منطقة مواقف سيارات تابعة لمجمع سكني بالقرب من الحانة التي قال أصدقاؤها إنها شوهدت فيها لآخر مرة.

وأفادت السلطات بأنها خنقت باستخدام قميص بأكمام طويلة، كما أظهرت الأدلة أنها تعرضت لاعتداء جنسي. كما بدت على السيارة آثار محاولة فاشلة لإشعال النار فيها. وأخبر أصدقاء رالستون الشرطة حينها أنها غادرت الحانة برفقة رجل مجهول في الليلة السابقة، قائلة إنها ستعود بعد 10 دقائق، لكنها لم تعد. وأجرت الشرطة مقابلات مع الشهود ورسمت صورة تقريبية للمشتبه به، لكن التحقيق توقف لسنوات.

وفي الخريف الماضي، وبعد أن طلبت السلطات تمرير البصمة الموجودة على علبة السجائر الخاصة برالستون عبر نظام مكتب التحقيقات الاتحادي المحدث، تبين أنها تطابق بصمة سيمز، وفقا للادعاء. وفي وقت سابق من هذا العام، ذهب مسؤولو مكتب الادعاء وشرطة سان خوسيه إلى أوهايو لجمع عينات الحمض النووي من سيمز. وقال المدعون إنها تطابقت مع الحمض النووي الذي تم العثور عليه على أظافر رالستون والقميص الذي استخدم لخنقها.

ولم تكشف التقارير دوافع عملية القتل أو علاقة المتهم بالقتيلة.