بباقة من الإهداءات إلى الأم وبعض الأصدقاء، تردفها ومضتان شعريتان دالتان للشاعرين الفرنسيين لوتريامون، وبودلير، تركز الومضة الأولى على صورة البشر ضيقي الأكتاف، الذين تحولوا إلى مجرد أشباه لأرواحهم، بينما تركز الثانية على صورة الأرض القاسية، التي أصبحت بمثابة مجهول تخبّ عليه الأقدام الدامية العارية، يستدرج الشاعر عبد الرحمن مقلد قارئه للدخول إلى أجواء ديوانه «بوينج سي17 ليست شجرة» الصادر حديثاً عن دار المثقف بالقاهرة.
يقع الديوان في 130 صفحة، ويشير عنوانه إلى مشهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، واستيلاء «طالبان» على السلطة، والفوضى العارمة التي وقعت في مطار كابول، حتى إن البعض تسلق ذيل الطائرة أملاً في الفرار، ويضعنا عبر 19 قصيدة أمام ذات شعرية قلقة، تراقب العالم بخوف وحذر، وتقيم تماثلاتها معه من منظور متوتر، يسائل الشاعر من خلاله أبرز الأساطير التي شكلت إرث العالم روحياً وأخلاقياً، واختلط فيها الكذب بالحقيقة، ومنها أسطورة سيزيف وصخرته التي ارتبطت بفكرة العذاب الأبدي، وفي ظلالها ينسج الديوان حزمة من المراثي الموجعة لبشر خانتهم إرادة التشبث بالحياة والأمل في أن تكون أكثر عدلاً ونقاء.
يقول الشاعر في قصيدة: «مصالحة السماء والاعتذار للصخرة» (سيزيف يروي الرواية المضادة) مستهلاً بها الديوان، ويهديها «إلى كل أب»:
«صنعتُ بذاتي مصيري
كما أتشهَّى
تزوَّجتُ من أتعلقُ في صدرها كالرضيعِ
وأصرخُ في الحبِّ حتى يراني أخيراً
أمارسه دون خوفٍ ولا خجلٍ
حين كنت صغيراً أصبتُ به
في منامي على صخرة بالعراءِ
غشيتُ من الشمس
عشتُ مريضاً
ولم أشفَ من غربتي»
تمتد القصيدة على مدار 5 صفحات، وتستثمر تفعيلة بحر «المتقارب»، لما تكتنزه من توتر درامي، وشحنة صوتية تعكس طوايا الذات، كما يبرز جدل الصعود والهبوط، ما بين السفح والقمة، وهو جدل خافت، يومض في تضاعيفها، بينما يعلو صوت سيزيف جائراً بالشكوى والتوجع والإذعان: «لم أكُ لصّاً ولا شاعراً، ولم أكُ فظّاً، ولا بهلواناً ولا تاجراً، ولم أخن الرَّب». لقد صنع سيزيف مأزقه بنفسه حين سخر من بعض الآلهة، كما هو معروف في الميثولوجيا الإغريقية، ثم إن الأسطورة وترويض الصخرة في رحلة الصعود والهبوط التي لا تنتهي تحولاً إلى شكل من أشكال اللعب مع الحرية، حرية أن تكون أو لا تكون. ورغم أن القصيدة تؤكد على لسان سيزيف أنه صانع مصيره، فإنها لم تلتفت إلى هذا اللعب في دلالته الأبعد، وأن ما يضمره من عبث وجودي هو ظل لحقيقة هاربة. فتحولت الصخرة صانعة اللعب إلى مجرد أداة صامتة، في حوارية أحادية الصوت والمعنى والدلالة، لا تملك سوى أن تجتر نفسها. ناهيك عن أن الأسطورة نفسها لا تخرج عن فكرة الثواب والعقاب، وليست رمزاً لسلطة أبوية مطلقة، ممتدة في جسد الزمان والمكان، حتى يمكن إهداؤها لكل أب، ولو على سبيل المجاز.
على ضوء هذا، تبرز ثنائية المع والضد كمعول أساس يستند عليه عالم الرؤية في الديوان، بخاصة حين يغيم الخط الفاصل بينهما، متحولاً إلى خط وهمي كاذب، فلا حلم يبقى أو يصمد، بل لا شيء سوى المراوغة والإذعان والتواطؤ ضد الذات والماضي والحاضر والغد. في هذه المسافة المعتمة الشائكة، يصبح مشهد العالم كما تلتقطه القصائد مجرد رتوش جوفاء لتزيين الصورة والإطار، باسم قيم ومعتقدات وأفكار، تتشدق بالحق الإنساني في الحياة، لكنها تخفي تحت قشرتها البراقة ما يذبح هذا الحق، ويسلبه إرادة التشبث بالحياة نفسها.
يعي الشاعر ذلك، وأن مساحة الفراغ الرخوة في هوامش هذا الخط، يمكن التحايل عليها شعرياً، فهي ملعب مفتوح، يمكن للعب داخله أن يشكل نوعاً من الحصانة والحماية للذات، بخاصة حين تضيق الرؤية وتضطرب القيم والمعايير، ولا تقيم وزناً لكل ما هو إنساني، وهو ما يطالعنا في قصيدته «ذئبة وول ستريت» المهداة إلى كريستين لاغارد، الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي، مديرة البنك المركزي الأوروبي. القصيدة مشرّبة بمسحة من السخرية، ومع ذلك تتغنى بهذه المرأة، إلى حد الافتتان بأقراطها ونمشها وشاماتها وسحرها، وفي مقابل نبرة الغفران والتسامح التي تعلو في النص، تصبح الإدانة الساخرة مجرد وخزة عابرة لامرأة تصفها القصيدة بـ«الأيقونة العظمى». وتشبه عينيها بعيني ميدوزا، المرأة الجميلة التي تحولت بحسب الأسطورة الإغريقية إلى امرأة، الثعابين التي تتدلى من خصلات شعرها، وحين تصوب عينيها إلى إنسان تحيله إلى كومة من الحجارة.
يقول الشاعر في القصيدة (ص 34 - 35 - 36):
«أراك يا أيقونتي العظمى
لاجارد
أراك أبعدَ من حساب الربحِ
لا نذيرةَ ذلك الموتِ المدجج في حماسك
غيرَ دائسةٍ على أعناق مليارين
من أبناء هذا الكونِ
***
من 90 في مائةٍ من الأحياءِ
تجمعنا هنالك هدنةٌ
لأحرِّرَ الذئبَ المقيدَ في نسيجك
أدركُ الغجريَّ خلف التل
إني أحبك غير واعدةٍ بشيء
غير ناصبةٍ فخاخك
غير ضاربة بمخلبك القوي
ولا أحبك حين تتحدثين عن (النظام العالمي)
أحب فوضاك الخبيئة
أن أجيئك مثل لص زاحفٍ أو مستريباً
***
لا أراك وأنت تقترحين نصلك في صدور المتعبين
وإنما أرتاح في عينيك إن أغلفتِ هذا الضرام
إن سهوتِ ولم تكيلي الوعدَ
ثم الوعد للجوعى والأمم الفقيرة
إن خلعت عيون ميدوزا
وإن أشعلت عينيك اللتين تسافران إلى بعيد».
يلعب الشاعر على حبال التناقض وعلائقها الضدية الشرهة، منحازاً في ظلالها إلى الجمال في صورة الأنثى، بصرف النظر عما يتخفى في الصورة من خداع مهلك. فهو مع العالم وضده، ويعبر عن موقفه منه بشكل واضح ومباشر، معه حين يكون عادلاً وإنسانياً، وضده حين يتحول إلى غابة خانقة، البقاء فيها للأقوى صاحب النفوذ والجاه... لا تختلف هذه المعادلة الخطرة مع «ذئبة وول ستريت»، إنه معها حين تلقي بقناعها السلطوي الفتاك خارج ملعب السلطة، وضدها حين يصبح سلاحاً لإذلال الشعوب الفقيرة، ما يجعل الفرار من أوطانها بمثابة طوق نجاة من إقامة مضطربة، محاصرة ومهددة دوماً بالموت والجوع.
في خضم هذا الهم، وبثلاث قصائد مكثفة ينفتح الديوان على المأساة الأفغانية، تبرز القصائد الاهتمام بروح المشهد ولغة الصورة الحية ابنة اللقطة الطازجة وما تنطوي خلفها من أبعاد إنسانية. ويلجأ الشاعر إلى بنية المقاطع الشعرية، المتصلة - المنفصلة، كما ينفض الإيقاع عن كاهله الضرورات العروضية السمجة، وينفتح بحيوية على زوايا متخيلة للمشهد ومأساويته المعلقة ما بين الأرض والسماء.
تصور القصيدة الأولى، وهي بعنوان «أبناء صنوبرة» – مشهد 3 أفغان سقطوا من طائرة الشحن الأميركية وهي في السماء، بينما ترصد القصيدة الثانية «السيدة الميتة» مشهد امرأة تجمدت فوق الثلج إلى حد الموت على الحدود بين إيران وتركيا، وهي تصرخ «أعدني يا رب - أعدْ أطفالي - وليأخذني (جند الله) ضمن سباياهم - الموت هنا... الموت هناك - والرحلة بينهما موت أقسى».
أما القصيدة الثالثة «وفق رويترز» فتصور بحسب التذييل المرافق للعنوان - مشهد رضيع، أعطاه والده لجندي في مطار حامد كرازي ضمن فوضى انسحاب الأميركان، مشيراً في آخر النص وكنوع من التوثيق: «حتى اليوم في 14 يناير (كانون الثاني) عام 2022 لم يلتئم شمل عائلة الطفل الرضيع في أميركا».
من أجواء هذه القصيدة نقرأ:
«نحن ثلاثةُ أفغانٍ متلاشينَ
ثلاثةُ أجسادٍ ساخنةٍ سقطتْ
مثل التمرِ العطنِ
ولم تلقفها الأرضُ
ثلاثةُ أرواحٍ فارغةٍ
علقتْ في طائرة الشحن.
***
الطائرة زوجة أبٍّ قاسيةٌ
والشجرة أمٌ نتعلّق في رقبتها
حتى لا تخطفنا الريحُ
ولا تأخذنا الأرضُ
ولا يفتتنا العشبُ الأخضرُ
نسقطُ
أو نتحطّمُ
لكنا نبقى أبناءَ صنوبرةٍ تبكي».
لا تبتعد هذه اللقطات الثلاث بزخمها الواقعي ومشهديتها المأساوية عن مناخ معظم قصائد الديوان، فرمزية الشجرة وما تحيل إليه من مفارقة ضدية، في مقابل واقعية مشهد طائرة «البوينج»، تتناسل في القصيدة الأخيرة «تقرير من الكهف»، التي تشكل مرثية لإنسان هذا العصر، المشتت ما بين واقع مليء بالكوارث والمحن والحروب، وغد أصبح يتنكر لماضيه ولا يثق فيه. وما من طريق سوى أن يعود هذا الإنسان إلى صورته الأولى الفطرية في الكهف... أسئلة كثيرة خصبة ومدهشة يطرحها هذا الديوان، بمحبة للشعر وللحياة.
مساءلة التناقض واللعب عليه شعريّاً
عبد الرحمن مقلد في ديوانه «بوينج سي 17 ليست شجرة»
مساءلة التناقض واللعب عليه شعريّاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة