دول جوار السودان... توازن سياسي وتأهب أمني

مراقبون اعتبروا الأزمة «قنبلة إقليمية موقوتة»

جانب من الضرر الذي أصاب مباني العاصمة الخرطوم (إ.ب.أ)
جانب من الضرر الذي أصاب مباني العاصمة الخرطوم (إ.ب.أ)
TT

دول جوار السودان... توازن سياسي وتأهب أمني

جانب من الضرر الذي أصاب مباني العاصمة الخرطوم (إ.ب.أ)
جانب من الضرر الذي أصاب مباني العاصمة الخرطوم (إ.ب.أ)

مع دخول اشتباكات السودان أسبوعها الثاني، ترتفع وتيرة القلق الإقليمي، خاصة في دول الجوار الـ7، من تداعيات تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات بشأن امتداد أفق الصراع زمنياً، وتوسعه جغرافياً، بما يزيد المخاوف من موجات نزوح واسعة نحو المناطق الحدودية، في وقت تعاني فيه معظم دول جوار السودان أزمات شتى، ولا تبدو بحاجة إلى المزيد.
وشهدت خمس من سبع دول مجاورة للسودان، وهي: «إثيوبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان»، اضطرابات سياسية أو صراعات في السنوات القليلة الماضية، كما عانت من أزمة نزوح ولجوء للآلاف من جراء تلك الاضطرابات السياسية، كما تعاني تلك الدول أزمات اقتصادية ومعيشية ضاغطة.
- مخاوف متعددة
وتخشى دول جوار السودان من أزمة نزوح جماعي نحو أراضيها، ويعيش أكثر من خمسة ملايين سوداني بمصر، وفق إحصاءات رسمية، من بينهم نحو 60 ألف لاجئ وطالب لجوء. وتتحسب ليبيا، التي تعاني انقسامات داخلية عميقة، من تأثيرات أمنية جراء الأزمة السودانية، حيث لعب المرتزقة ومقاتلو الميليشيات السودانيون دوراً نشطاً في الصراع الداخلي الليبي بعد عام 2011، كما يمثل السودان نقطة انطلاق وعبور للمهاجرين الذين يسعون للتوجه إلى أوروبا عبر ليبيا.
ورغم أن تشاد أغلقت منذ اليوم الأول لاندلاع الاشتباكات في 15 أبريل (نيسان) الحالي، حدودها مع السودان «حتى إشعار آخر»، حيث يتشارك البلدان في حوالي ألف كيلومتر حدودية، فإن ذلك لم يحل دون استقبال الحدود نحو 20 ألف لاجئ، بحسب ما أعلنته الأمم المتحدة، فيما قالت الحكومة التشادية إنها نزعت سلاح كتيبة قوامها 320 جندياً تابعاً للقوات شبه العسكرية دخلت أراضيها يوم الاثنين. وتعد تشاد إحدى أكبر الدول الأفريقية التي تستضيف لاجئين إذ يصل عددهم إلى مليون شخص في حالة نزوح قسري داخل البلاد، بينهم 580 ألف لاجئ جراء النزاعات في السودان المجاورة وجمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون، و406 آلاف نازح داخلي حول بحيرة تشاد، الأمر الذي يفاقم الضغط على موارد تشاد المحدودة بالفعل.
- ترقب مآلات الصراع
وتقترن مخاوف جنوب السودان الأمنية بأخرى اقتصادية، إذ تخشى الدولة التي انفصلت عن السودان في عام 2011 بعد حرب أهلية استمرت عقوداً، من تعطل تصدير إنتاجها النفطي البالغ 170 ألف برميل يومياً عبر خط أنابيب يمر من خلال أراضي جارتها الشمالية. ويستضيف السودان 800 ألف لاجئ من جنوب السودان، وربما تمثل أي عودة جماعية لهؤلاء اللاجئين ضغطاً متزايداً على البنية الهشة لتقديم المساعدات الأساسية لأكثر من مليوني نازح في جنوب السودان.
وتترقب إثيوبيا كذلك تأثيرات الأزمة على المناطق الحدودية التي شهدت نزاعاً محتدماً خلال السنوات الأخيرة، لا سيما خلال الحرب الأهلية التي شهدها إقليم تيغراي منذ عام 2020، التي دفعت أكثر من 50 ألف لاجئ إثيوبي إلى مناطق منطقة الفشقة الخصبة على الحدود في شرق السودان. الجارة الإريترية تترقب كذلك مآلات الصراع السوداني، لا سيما في ظل وجود أكثر من 134 ألف لاجئ وطالب لجوء من إريتريا في الأراضي السودانية، بعد اندلاع الحرب في منطقة تيغراي قبل ثلاثة أعوام، كثير منهم من الإريتريين الفارين من التجنيد الإجباري، وقد يتعرض اللاجئون الإريتريون في السودان لمحنة مماثلة إذا تفاقم أي صراع خارج الخرطوم.
- قنبلة إقليمية موقوتة
السفيرة سعاد شلبي، المساعد السابق لوزير الخارجية المصري للشؤون الأفريقية، وعضو لجنة الحكماء في «الكوميسا»، وصفت تدهور الأوضاع الأمنية في السودان جراء الاشتباكات الراهنة بـ«المصيبة الإقليمية»، لافتة إلى أن تداعيات الأزمة تتجاوز الحدود السودانية لتكون بمثابة «قنبلة إقليمية موقوتة». وأوضحت شلبي لـ«الشرق الأوسط» أن السودان يمثل دولة محورية ترتبط به عدة أقاليم في القارة الأفريقية، فالسودان يربط بين القرن الأفريقي ودول الساحل وجنوب الصحراء، كما أنه يرتبط بالأمن الإقليمي للبحرين الأحمر والمتوسط.
وأشارت إلى أن هناك مخاوف وصفتها بـ«المشروعة والجدية» لدى جيران السودان السبعة، بل وفي دوائر أكثر اتساعاً تمتد إلى الخليج العربي وجنوب أوروبا، لافتة إلى أن أي تأخر في حسم الصراع، قد تكون له تداعيات اجتماعية وعسكرية وأمنية تتخطى حدود السودان إلى دول الجوار.
وتابعت عضو لجنة الحكماء في «الكوميسا» الأفريقية، القول إن تطورات الأزمة السودانية تدفع باتجاه إعادة تموضع جماعات إرهابية ومتطرفة، والنزوح العابر للدول، وتهريب البشر، والهجرة غير الشرعية، وتنشيط عمل عصابات الجريمة المنظمة، وهو ما يمثل خطراً حقيقياً على الجهود الدولية الرامية إلى تهدئة الصراعات في القارة الأفريقية التي تعاني اضطرابات عديدة، داعية إلى أن يكون هناك دور أكبر للدول المجاورة للسودان في الدفع باتجاه «احتواء سريع وآمن للصراع هناك». وكانت عدة دول مجاورة للسودان، منها مصر وجنوب السودان وإثيوبيا وليبيا قدمت مبادرات متكررة للوساطة، من أجل وقف إطلاق النار، والدعوة إلى حوار سياسي، إلا أن تلك الدعوات لم تجد صدى لدى الأطراف المتصارعة في السودان حتى الآن.
- تداعيات كارثية
من جانبه، وصف الدكتور خالد فهمي، مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للقوات المسلحة المصرية، التداعيات الناجمة عن الأزمة السودانية على دول الجوار بـ«الكبيرة والمستمرة»، مشيراً إلى أن الاضطرابات التي يشهدها السودان «تلقي بأعباء كبيرة على جهود ضبط الحدود في الدول المجاورة». وأضاف فهمي لـ«الشرق الأوسط» أن ملف النزوح الجماعي ومخاطر زيادة الهجرة غير الشرعية، يمثلان حالياً أولوية بالنسبة لدول الجوار، خاصة أن العديد من الدول المجاورة للسودان «تواجه ضغوطاً اقتصادية وأمنية متراكمة، وهو ما يجعلها غير قادرة على استقبال مزيد من الأعباء عبر الحدود السودانية».
وأشار إلى أن مصر تعد من أكثر الدول التي تترقب بـ«حذر وقلق» ما يجري في السودان، مشيراً إلى اتساع وعمق الروابط المصرية السودانية، ولفت إلى أن مصر تستضيف ملايين السودانيين على أراضيها، ويمكن أن يزداد هذا العدد في ظل تفاقم الأزمة، وهو ما يمثل عنصر ضغط على مصر التي ترفض سياسة إقامة معسكرات للاجئين، بل تصر على استضافة المقيمين على أراضيها من غير المصريين دون إجراءات استثنائية، بل تمنحهم امتيازات عديدة مخصصة للمواطنين، وبخاصة في الخدمات الصحية والتعليمية.
وأبدى فهمي تخوفه من إطالة أمد الأزمة، مشيراً إلى أن ذلك سيضاعف من التداعيات الإقليمية، وبخاصة مع توقع أن يدخل السودان في أزمات مستقبلية نتيجة فقدان الثقة الدولية، الأمر الذي قد يهدد بأزمة اقتصادية طاحنة إذا ما تعطلت جدولة مديونيات السودان، مع تراجع الاستثمارات الخارجية وعدم قدرة الدولة السودانية على توفير متطلبات مواطنيها الأساسية.
وأوضح مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للقوات المسلحة المصرية، أن إطالة أمد الأزمة سيدفع بتدخلات خارجية إلى الانخراط في الصراع، الأمر الذي يقود إلى فرض عقوبات على السودان، وربما يدفع باتجاه تطورات أشد وطأة ترتبط بتهديد وحدة الأراضي السودانية، وهو ما ستكون له «تداعيات كارثية» على الإقليم برمته والدول المجاورة للسودان في المقام الأول.


مقالات ذات صلة

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

شمال افريقيا الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

كثَّفت المملكة العربية السعودية، جهودَها الدبلوماسية لوقف التصعيد في السودان، إلى جانب مساعداتها لإجلاء آلاف الرعايا من أكثر من مائة دولة عبر ميناء بورتسودان. وأجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أمس، اتصالات هاتفية، مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف، بحث خلالها الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف السودانية، وإنهاء العنف، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين، بما يضمن أمنَ واستقرار ورفاه السودان وشعبه.

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.