لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
TT

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة. كانت الغنيمة التي خرجت بها الفتيات من بيت الضحية 10 دولارات، بالإضافة إلى سرقة سيارتها.
قبضت الشرطة على بولا، وتم التحقيق معها وتقديمها للمحاكمة وسط أجواء مشحونة بالتوتر في المدينة. وكما كان متوقعاً، حكمت المحكمة على بولا بالإعدام، لتصبح أصغر سجين محكوم بالإعدام في الولايات المتحدة. في عام 1986، كان القانون في ولاية إنديانا يسمح بمحاكمة المتهمين بعمر 10 سنوات كبالغين، وبالتالي يمكن أن يواجهوا عقوبة الإعدام. ورغم أن الفتاة قاصر لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، فإن أحداً لم يستنكر الحكم عليها بالإعدام.
لكن بسبب التغطية الإعلامية للقضية، سرعان ما تحولت قضية بولا إلى قضية عالمية. قامت منظمة العفو الدولية بحملة من أجلها، وتم تقديم مليوني التماس إلى المحكمة العليا في ولاية إنديانا، وأرسل البابا يوحنا بولس الثاني مبعوثاً من الفاتيكان للمطالبة بإنقاذ حياتها. لكن السبب الرئيسي في إطلاق الحملة لإنقاذ بولا كان يُدعى بيل بيلك – حفيد الضحية روث بيلك. كان بيل شاباً مسيحياً متديناً ومحارباً قديماً في فيتنام. وكان بيل يعتقد بأن جدته كانت متسامحة وأنها لم تكن لترغب في رؤية هذه الفتاة الصغيرة تُعدم. حاول زيارتها في السجن، لكن لم يُسمح له بذلك - كان السماح للقتلة المدانين برؤية أفراد أسرة ضحيتهم مخالفاً للقانون. لذلك؛ تبادل بيل وبولا الرسائل على مدى سنوات. عندما تم تخفيف عقوبة الإعدام بحق بولا البالغة من العمر 19 عاماً إلى السجن 60 عاماً في يوليو (تموز) 1989، كانت الكلمات الأولى لبيل هي «الحمد لله!» وفي 17 يونيو (حزيران) 2013، تم إطلاق سراحها بسبب السلوك الجيد، وكان عمرها 43 سنة. ولكن بعد سنتين فقط، قررت بولا الانتحار وأنهت حياتها بيدها.
لنعد الآن إلى الفترة التي أعقبت الحكم على بولا بالإعدام لمناقشة الفكرة الأساسية لهذا المقال: التسامح والغفران.
بينما كانت بولا تنتظر تنفيذ حكم الإعدام، أثار مصيرها جدلاً حول قيمة الحياة البشرية: ما الذي نطالب به عندما نطالب بالعدالة؟ هل الغفران عمل يأس أم شجاعة عميقة؟ مع تعمق صداقة بيل وبولا، تتطلب قصتهم منا التفكير في أفعال التسامح والتعاطف القوية التي قد نكون قادرين عليها. إن الغفران ومسامحة من أساء إلينا، سواء كان الدافع لذلك دينياً أم إنسانياً، هو الطريق إلى تحويل الحياة إلى مسار جديد وإعطائها معنى جديداً. في كتاب «سبعون في سبعة: قصة حقيقية عن القتل والرحمة» (بنجوين بريس 2023)، ينسج الكاتب أليكس مار سرداً لا يُنسى عن جريمة بولا العنيفة وعواقبها. الكتاب يقدم قصة عن إرادة الحياة، وحول ما نحن على استعداد لقبوله على أنه عدالة. هذا الكتاب، الذي تم بحثه وكتابته بدقة، يقدم فصلاً مؤلماً في تاريخ نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة، لكن آفاق الكتاب والأفكار والقيم التي يناقشها تتجاوز كل الحدود.
نحن نعاني في مجتمعنا المعاصر ضغوطاً كثيرة ونتعرض لمواقف صعبة ولإساءات أحياناً من أقرب الناس إلينا. ويسعى كثير منا إلى أساليب كثيرة للتعاطي مع هذه المواقف، ونحن هنا لا نتحدث عن الغضب والتفكير بالانتقام، بل عن كيفية السيطرة على الغضب والتسامح. يلجأ الكثيرون إلى الروحانيات والتعاليم التي تحث على التسامح والغفران في جميع الأديان للمساعدة في تجاوز حالات الغضب والإحساس بالظلم، في حين يلجأ آخرون إلى أساليب أخرى، مثل اليوغا والتأمل.
ولكن ماذا يعني الغفران والتسامح أساساً؟
يشير العديد من الفلاسفة الغربيين إلى أن مفهوم التسامح يعني التغلب على الاستياء، والذي يتحقق من خلال السيطرة على الذات والتسامح مع الآخرين. لكن هذا التفسير يترك مجالاً للنقاش العلمي: هل الغفران فعل أم شعور؟ هل يتطلب منا أن ننظر إلى المسيء بمحبة، أم أن مجرد التغلب على رغبتنا في الانتقام كافٍ؟
نحن أناس غير كاملين نعيش في عالم غير كامل، ومع ذلك، فإننا نتوقع علاقات مثالية. عندما يخفت ضوء الحب، تصبح النزاعات أمراً لا مفر منه. الغفران هو المرهم الذي يشفي من خيانة الحب، لكن قلة من الناس يعرفون ما يعنيه التسامح، ناهيك عن معرفة كيفية التسامح. الغفران يتطلب الانضباط وقوة الشخصية. تحدث الخيانة عندما نتوقع من الناس أن يتصرفوا بطريقة معينة وهم لا يفعلون ذلك. لا يمكن أن تحدث الخيانة إلا عندما توجد علاقة ثقة، فلا يمكن للأشخاص الذين لا نثق بهم أن يخونونا لأنه ليس لدينا توقعات سلوكية. من دون توقعات، المسامحة ليست ضرورية. لا تقتصر الخيانة على الصداقة ومصالح الحب، حيث تكون التوقعات السلوكية متأصلة في تلك العلاقات. نحن نشكل علاقات ثقة مع المجتمع ككل. نتوقع من الناس، حتى لو لم نعرفهم، أن يتصرفوا باحترام. عندما نصبح ضحايا لجرائم شخصية، نشعر بالخيانة لأن توقعاتنا من السلوك البشري قد انتهكت. الغفران مطلوب فقط عندما يفشل الأشخاص في الارتقاء إلى مستوى توقعاتنا. تخلق الخيانة حاجزاً بيننا وبين أعز الناس إلينا لا يمكن تجاوزه إلا بالمغفرة.
إن الغفران ليس شعوراً. الغفران عمل. يجب أن نقرر بوعي أن نغفر لمن لم يرقَ إلى مستوى توقعاتنا. يجب علينا أن نتصرف لكي نغفر ولا ننتظر حتى يخفف النسيان من آلام خيبة الأمل. التسامح هو عملية نشطة نتخذ من خلالها قرارات واعية لمتابعة فعل التسامح، بغض النظر عن مشاعرنا. إذا اعتمد التسامح على المشاعر، فلن يغفر إلا القليل من الناس.
باختصار، يمكن القول إن الغفران هو اختيار مؤلم بتناسي الإساءة. يصعب أحياناً نسيان الإساءة، خاصة إذا كانت خطيرة. يحدث الغفران الحقيقي عندما نتخذ قراراً متعمداً بعدم التفكير في الأخطاء، أو تناسي الأخطاء. غالباً ما يؤدي التفكير في الإساءة إلى إعادة إشعال الألم العاطفي المرتبط بالخيانة. في كل مرة نركز فيها على فعل الخيانة، نعيد بوعي أو بغير وعي بناء حاجز الخيانة بالتفكير.
عندما نختلف مع شخص ما، نميل في جدالنا معه إلى استخدام عبارة «تذكر عندما...»، ونكرر الحديث عن الإساءة التي تعرضنا لها يوماً من الأيام من ذلك الشخص. قد يؤدي إحياء الأخطاء السلوكية التي تم التغاضي عنها مرة واحدة إلى الفوز بالجدل، ولكنه سيكون انتصاراً آنيّاً. الشخص الذي أطلق القنبلة العاطفية يخسر لأنه يعيد إشعال ألم الخيانة. يتحول الألم العاطفي المتبقي إلى غضب إذا تُرك لتتفاقم، ولا يمكن تهدئة هذا النوع من الغضب إلا بالانتقام. إن كسب حجة باستخدام التسامح سلاحاً هو عمل انتقامي يمكن استخدامه مراراً وتكراراً ما دام أن الغضب يزعج قلب الإنسان. سيشعر المتلقي للانفجار العاطفي بالخيانة لأنه كان يعتقد أنه قد تم العفو عن الإساءة. المسامحة تبني علاقات المحبة ولا تدمرها.
كما أن المسامحة الحقيقية لا تسمح باللجوء للتشهير. التشهير شكل خفي من أشكال الانتقام لأن المعتدي يتعرض للتشهير ويصبح هدفاً للإذلال العلني. قد تساعد استشارة صديق موثوق به في عملية التعافي من الغضب. لكن التشهير يؤدي بالتأكيد إلى نتائج عكسية.
المسامحة تتطلب الانضباط. يجب ألا يتحمل الشخص الذي يسامح آلام الخيانة فحسب، بل يجب عليه أيضاً أن يتخذ قراراً مستمراً بعدم تذكر الإساءة، وعدم استخدام التسامح سلاحاً، ويجب عليه الامتناع عن التشهير. في جميع العلاقات، سوف نفشل، في وقت ما، في الارتقاء إلى مستوى توقعات الآخرين. يتم تقليل وطأة الخيانة بمجرد أن ندرك أنه في عالم غير كامل يسكنه أشخاص غير كاملين، لا توجد علاقة مثالية. المسامحة تمنع استمرار حاجز الخيانة وتسمح لنا بالاستمرار في تقوية علاقاتنا. المسامحة جزء أساسي من الحياة. يجب أن نتعلم أن نغفر للآخرين لأننا في وقت ما سنحتاج إلى أن يغفر لنا الآخرون.
- باحث ومترجم سوري


مقالات ذات صلة

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».