لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
TT

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة. كانت الغنيمة التي خرجت بها الفتيات من بيت الضحية 10 دولارات، بالإضافة إلى سرقة سيارتها.
قبضت الشرطة على بولا، وتم التحقيق معها وتقديمها للمحاكمة وسط أجواء مشحونة بالتوتر في المدينة. وكما كان متوقعاً، حكمت المحكمة على بولا بالإعدام، لتصبح أصغر سجين محكوم بالإعدام في الولايات المتحدة. في عام 1986، كان القانون في ولاية إنديانا يسمح بمحاكمة المتهمين بعمر 10 سنوات كبالغين، وبالتالي يمكن أن يواجهوا عقوبة الإعدام. ورغم أن الفتاة قاصر لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، فإن أحداً لم يستنكر الحكم عليها بالإعدام.
لكن بسبب التغطية الإعلامية للقضية، سرعان ما تحولت قضية بولا إلى قضية عالمية. قامت منظمة العفو الدولية بحملة من أجلها، وتم تقديم مليوني التماس إلى المحكمة العليا في ولاية إنديانا، وأرسل البابا يوحنا بولس الثاني مبعوثاً من الفاتيكان للمطالبة بإنقاذ حياتها. لكن السبب الرئيسي في إطلاق الحملة لإنقاذ بولا كان يُدعى بيل بيلك – حفيد الضحية روث بيلك. كان بيل شاباً مسيحياً متديناً ومحارباً قديماً في فيتنام. وكان بيل يعتقد بأن جدته كانت متسامحة وأنها لم تكن لترغب في رؤية هذه الفتاة الصغيرة تُعدم. حاول زيارتها في السجن، لكن لم يُسمح له بذلك - كان السماح للقتلة المدانين برؤية أفراد أسرة ضحيتهم مخالفاً للقانون. لذلك؛ تبادل بيل وبولا الرسائل على مدى سنوات. عندما تم تخفيف عقوبة الإعدام بحق بولا البالغة من العمر 19 عاماً إلى السجن 60 عاماً في يوليو (تموز) 1989، كانت الكلمات الأولى لبيل هي «الحمد لله!» وفي 17 يونيو (حزيران) 2013، تم إطلاق سراحها بسبب السلوك الجيد، وكان عمرها 43 سنة. ولكن بعد سنتين فقط، قررت بولا الانتحار وأنهت حياتها بيدها.
لنعد الآن إلى الفترة التي أعقبت الحكم على بولا بالإعدام لمناقشة الفكرة الأساسية لهذا المقال: التسامح والغفران.
بينما كانت بولا تنتظر تنفيذ حكم الإعدام، أثار مصيرها جدلاً حول قيمة الحياة البشرية: ما الذي نطالب به عندما نطالب بالعدالة؟ هل الغفران عمل يأس أم شجاعة عميقة؟ مع تعمق صداقة بيل وبولا، تتطلب قصتهم منا التفكير في أفعال التسامح والتعاطف القوية التي قد نكون قادرين عليها. إن الغفران ومسامحة من أساء إلينا، سواء كان الدافع لذلك دينياً أم إنسانياً، هو الطريق إلى تحويل الحياة إلى مسار جديد وإعطائها معنى جديداً. في كتاب «سبعون في سبعة: قصة حقيقية عن القتل والرحمة» (بنجوين بريس 2023)، ينسج الكاتب أليكس مار سرداً لا يُنسى عن جريمة بولا العنيفة وعواقبها. الكتاب يقدم قصة عن إرادة الحياة، وحول ما نحن على استعداد لقبوله على أنه عدالة. هذا الكتاب، الذي تم بحثه وكتابته بدقة، يقدم فصلاً مؤلماً في تاريخ نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة، لكن آفاق الكتاب والأفكار والقيم التي يناقشها تتجاوز كل الحدود.
نحن نعاني في مجتمعنا المعاصر ضغوطاً كثيرة ونتعرض لمواقف صعبة ولإساءات أحياناً من أقرب الناس إلينا. ويسعى كثير منا إلى أساليب كثيرة للتعاطي مع هذه المواقف، ونحن هنا لا نتحدث عن الغضب والتفكير بالانتقام، بل عن كيفية السيطرة على الغضب والتسامح. يلجأ الكثيرون إلى الروحانيات والتعاليم التي تحث على التسامح والغفران في جميع الأديان للمساعدة في تجاوز حالات الغضب والإحساس بالظلم، في حين يلجأ آخرون إلى أساليب أخرى، مثل اليوغا والتأمل.
ولكن ماذا يعني الغفران والتسامح أساساً؟
يشير العديد من الفلاسفة الغربيين إلى أن مفهوم التسامح يعني التغلب على الاستياء، والذي يتحقق من خلال السيطرة على الذات والتسامح مع الآخرين. لكن هذا التفسير يترك مجالاً للنقاش العلمي: هل الغفران فعل أم شعور؟ هل يتطلب منا أن ننظر إلى المسيء بمحبة، أم أن مجرد التغلب على رغبتنا في الانتقام كافٍ؟
نحن أناس غير كاملين نعيش في عالم غير كامل، ومع ذلك، فإننا نتوقع علاقات مثالية. عندما يخفت ضوء الحب، تصبح النزاعات أمراً لا مفر منه. الغفران هو المرهم الذي يشفي من خيانة الحب، لكن قلة من الناس يعرفون ما يعنيه التسامح، ناهيك عن معرفة كيفية التسامح. الغفران يتطلب الانضباط وقوة الشخصية. تحدث الخيانة عندما نتوقع من الناس أن يتصرفوا بطريقة معينة وهم لا يفعلون ذلك. لا يمكن أن تحدث الخيانة إلا عندما توجد علاقة ثقة، فلا يمكن للأشخاص الذين لا نثق بهم أن يخونونا لأنه ليس لدينا توقعات سلوكية. من دون توقعات، المسامحة ليست ضرورية. لا تقتصر الخيانة على الصداقة ومصالح الحب، حيث تكون التوقعات السلوكية متأصلة في تلك العلاقات. نحن نشكل علاقات ثقة مع المجتمع ككل. نتوقع من الناس، حتى لو لم نعرفهم، أن يتصرفوا باحترام. عندما نصبح ضحايا لجرائم شخصية، نشعر بالخيانة لأن توقعاتنا من السلوك البشري قد انتهكت. الغفران مطلوب فقط عندما يفشل الأشخاص في الارتقاء إلى مستوى توقعاتنا. تخلق الخيانة حاجزاً بيننا وبين أعز الناس إلينا لا يمكن تجاوزه إلا بالمغفرة.
إن الغفران ليس شعوراً. الغفران عمل. يجب أن نقرر بوعي أن نغفر لمن لم يرقَ إلى مستوى توقعاتنا. يجب علينا أن نتصرف لكي نغفر ولا ننتظر حتى يخفف النسيان من آلام خيبة الأمل. التسامح هو عملية نشطة نتخذ من خلالها قرارات واعية لمتابعة فعل التسامح، بغض النظر عن مشاعرنا. إذا اعتمد التسامح على المشاعر، فلن يغفر إلا القليل من الناس.
باختصار، يمكن القول إن الغفران هو اختيار مؤلم بتناسي الإساءة. يصعب أحياناً نسيان الإساءة، خاصة إذا كانت خطيرة. يحدث الغفران الحقيقي عندما نتخذ قراراً متعمداً بعدم التفكير في الأخطاء، أو تناسي الأخطاء. غالباً ما يؤدي التفكير في الإساءة إلى إعادة إشعال الألم العاطفي المرتبط بالخيانة. في كل مرة نركز فيها على فعل الخيانة، نعيد بوعي أو بغير وعي بناء حاجز الخيانة بالتفكير.
عندما نختلف مع شخص ما، نميل في جدالنا معه إلى استخدام عبارة «تذكر عندما...»، ونكرر الحديث عن الإساءة التي تعرضنا لها يوماً من الأيام من ذلك الشخص. قد يؤدي إحياء الأخطاء السلوكية التي تم التغاضي عنها مرة واحدة إلى الفوز بالجدل، ولكنه سيكون انتصاراً آنيّاً. الشخص الذي أطلق القنبلة العاطفية يخسر لأنه يعيد إشعال ألم الخيانة. يتحول الألم العاطفي المتبقي إلى غضب إذا تُرك لتتفاقم، ولا يمكن تهدئة هذا النوع من الغضب إلا بالانتقام. إن كسب حجة باستخدام التسامح سلاحاً هو عمل انتقامي يمكن استخدامه مراراً وتكراراً ما دام أن الغضب يزعج قلب الإنسان. سيشعر المتلقي للانفجار العاطفي بالخيانة لأنه كان يعتقد أنه قد تم العفو عن الإساءة. المسامحة تبني علاقات المحبة ولا تدمرها.
كما أن المسامحة الحقيقية لا تسمح باللجوء للتشهير. التشهير شكل خفي من أشكال الانتقام لأن المعتدي يتعرض للتشهير ويصبح هدفاً للإذلال العلني. قد تساعد استشارة صديق موثوق به في عملية التعافي من الغضب. لكن التشهير يؤدي بالتأكيد إلى نتائج عكسية.
المسامحة تتطلب الانضباط. يجب ألا يتحمل الشخص الذي يسامح آلام الخيانة فحسب، بل يجب عليه أيضاً أن يتخذ قراراً مستمراً بعدم تذكر الإساءة، وعدم استخدام التسامح سلاحاً، ويجب عليه الامتناع عن التشهير. في جميع العلاقات، سوف نفشل، في وقت ما، في الارتقاء إلى مستوى توقعات الآخرين. يتم تقليل وطأة الخيانة بمجرد أن ندرك أنه في عالم غير كامل يسكنه أشخاص غير كاملين، لا توجد علاقة مثالية. المسامحة تمنع استمرار حاجز الخيانة وتسمح لنا بالاستمرار في تقوية علاقاتنا. المسامحة جزء أساسي من الحياة. يجب أن نتعلم أن نغفر للآخرين لأننا في وقت ما سنحتاج إلى أن يغفر لنا الآخرون.
- باحث ومترجم سوري


مقالات ذات صلة

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».