«ناتو» على حدود روسيا... وموسكو تعزّز قدراتها غرباً

انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الغربي يعيد تشكيل خريطة أوروبا الأمنية

حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
TT

«ناتو» على حدود روسيا... وموسكو تعزّز قدراتها غرباً

حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)

لم يشكل الإعلان الرسمي عن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو»، يوم 4 أبريل (نيسان) الحالي، نقطة التحول الأكبر في تاريخ علاقات الحلف الغربي مع الروس. وروسيا «المعاصرة»، التي وضعت على كتفيها العباءة السوفياتية، وحملت تركة الدولة العظمى في السابق لعقود، واجهت عدة مراحل لتوسع الحلف على مقربة من حدودها. وبعد ضم الجزء الأعظم من بلدان النفوذ السوفياتي السابق، في شرق أوروبا، خلال عام 1999، واصل الحلف تمدده داخل جغرافيا الاتحاد السوفياتي السابق، عبر انضمام جمهوريات حوض البلطيق (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) عام 2004، وإطلاق مسار «الشراكة الأطلسية» مع عدد من البلدان الأخرى، وعلى رأسها أوكرانيا وجورجيا، وبدرجة أقل مولدافيا. هذا الأمر أثار غضب «الكرملين»، الذي جادل، لسنوات، بأن الحلف «خان تعهداته» الشفهية، عندما وعد بألا يتوسع شرقاً، بعد «اتفاق توحيد ألمانيا»، أما النتيجة فكانت حرباً في جورجيا، عام 2008، عطّلت مسيرة تكاملها مع أوروبا، أو انضمامها إلى «ناتو»، ثم حرباً انفصالية مدمّرة في أوكرانيا أطلقت شرارتها الأولى في 2014، ولم تلبث أن أشعلت، في 2022، مواجهة كبرى ما زالت تداعياتها تتصاعد.
عنوان المواجهة في أوكرانيا، كان منع هذا البلد من التحول إلى قاعدة أمامية لـ«ناتو»، على مقربة من حدود روسيا، وإجبار الغرب على إعادة النظر في مواقفه، وتحويل «التعهدات الشفهية»، في السابق، إلى اتفاق أمني مكتوب ومُلزِم للأطراف، ويحدد مناطق النفوذ ويحترم المصالح المتبادلة.
ولكن في غمار تطورات متسارعة، لم يخطر في بال «الكرملين» أن المرحلة الجديدة للتوسع الأطلسي ستكون على حدود روسيا الشمالية الغربية. وبعدما كان الهدف المعلَن من الذهاب إلى أوكرانيا منع اقتراب الحلف من الحدود، تُعِدُّ روسيا، اليوم، لواقع جديد تغدو معه البنى التحتية لـ«ناتو» على بُعد 200 كيلومتر فقط من عاصمة القياصرة «سان بطرسبورغ».
لقد غيّرت الحرب في أوكرانيا الوضع الأمني في أوروبا كلياً، وأعادت التداعيات الأولى بانضمام فنلندا رسمياً إلى الحلف، وانتظار استكمال انضمام السويد، قبل قمة الحلف المقرّرة في بداية يوليو (تموز) المقبل، طرح السؤال الذي تكرّر طويلاً، خلال الأشهر الماضية: هل أصبحت روسيا أكثر أمناً بعد الحرب الأوكرانية؟
- نتائج أولية مباشرة
في النتائج الأولية المباشرة، فإن وجود فنلندا ضمن «ناتو» يعني أن طول الحدود المشتركة بين الدول الأعضاء في الحلف مع روسيا - التي يُنظر إليها حالياً على أنها «معسكر الأعداء» - يتضاعف ليصل إلى 2600 كيلومتر. وهذا «السيناريو» سيعني أن الحلف سيعمل على زيادة قدراته ونشر بناه التحتية على طول هذه المسافة، التي باتت تحتاج إلى حماية مباشرة وقوية. وهو أمر قد تضطر موسكو إلى الرد عليه بخطوات سريعة وفعالة لحماية مناطقها الغربية بمواجهة التطويق العسكري الكامل.
لكن ثمة تداعيات عدة أخرى لا تقتصر على الملفّين الأمني والعسكري اللذين يتطلبان من موسكو تخصيص موارد هائلة، وهي تنسحب على كل الملفات المتعلقة بالتوازن الاستراتيجي، والمصالح المتعددة في مناطق حيوية، كملف حوض البلطيق الذي غدا واقعياً «بحيرة أطلسية».
هذا الأمر يزيد أعباء موسكو الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ويعقِّد التنافس على منطقة القطب الشمالي، حيث تخوض موسكو، منذ سنوات، مواجهة دبلوماسية وأمنية وعلمية واستخباراتية قاسية لانتزاع الاعتراف بحقوقها فيها.
وقبل ذلك كله، لا بد من إلقاء نظرة تاريخية لتحديد الفروقات، بالنسبة إلى موسكو، بين خطوات فنلندا والسويد. هنا تكمن اختلافات لها أهمية خاصة؛ لأن انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي شكّل امتداداً طبيعياً للمواجهة التاريخية مع الروس، خلافاً للوضع مع السويد الذي شكّل الحياد بالنسبة إليها جزءاً من هويتها الوطنية وثقافة شعبها، ما يعني أن هذا التحول يشكل علامة فارقة تضاف إلى النتائج الأولية الكبرى للحرب في أوكرانيا، مثل إطلاق ألمانيا أكبر برنامج تسليح في تاريخها المعاصر، وميل أوروبا عموماً إلى العسكرة في مواجهة طموحات «الكرملين».
- الواقع الجيوسياسي
لطالما كان موضوع التخلي عن سياسة «عدم الانحياز» حاضراً في فنلندا، رغم الإجماعين الاجتماعي والسياسي على أنه لا جدوى من ذلك، فقد ظلت الهواجس المتعلقة بإمكانية حدوث مواجهة عسكرية جديدة في أوروبا لمدة 30 سنة، حاضرة في سياسات هلسنكي، وإن كانت النخب السياسية هناك لا تميل كثيراً إلى التشاؤم في هذا الأمر.
وكما هي حال أكثرية شعوب أوروبا، صدمت عودة الحرب إلى أوروبا الفنلنديين، الذين قرروا فوراً التخلي عن «عدم الانحياز»، والانضمام إلى «ناتو». الجدير بالذكر هنا أنه لم يدُر أي نقاش تقريباً حول ما إذا كان الوضع المحايد ليس طريقة أكثر موثوقية لضمان الأمن القومي، إذ اعتُبرت العضوية في كتلة عسكرية هي الخيار الوحيد.
وصحيحٌ أن انضمام فنلندا إلى «ناتو» كان أحد الموضوعات الرئيسة في النقاش الداخلي، خلال الأشهر الأخيرة، لكن الفنلنديين كانوا قد ناقشوا هذه القضية منذ سنوات عدة. وفي عام 2016، بعد مرور سنتين فقط على ضم شبه جزيرة القرم، واندلاع المواجهة في أوكرانيا وحولها، نشرت وزارة الخارجية الفنلندية تقريراً عن العواقب المحتملة لمثل هذه الخطوة. وعرض التقرير 3 استنتاجات رئيسة؛ أولها أن مسألة الانضمام يجب أن تُحسم في استفتاء. واتضح لاحقاً أن التصويت على المستوى الوطني ما عاد مطلوباً؛ لأن الأحداث الأخيرة ضمنت بالفعل دعماً عاماً واسعاً للانضمام إلى «ناتو».
أما الاستنتاجان الثاني والثالث، وهما الأكثر أهمية، فقضى أحدهما بأن تنضم فنلندا إلى «ناتو» برفقة السويد، وقضى الآخر باعتبار روسيا مصدر التهديد الأساسي لأمن البلاد. وكانت الخلاصة أنه على فنلندا مواجهة طموحات موسكو؛ ليس لمفردها، بل مع دول الحلف الأخرى.
الواقع أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اقتنع الفنلنديون بأنهم يستطيعون ضمان أمنهم، من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحده. وفي هذا، بالمناسبة، اختلفوا مع السويديين، الذين كان الاتحاد الأوروبي، في الأساس، شريكاً تجارياً لهم. وهذا جزئياً هو سبب إضافة ما يسمى «خيار ناتو» إلى عقيدة الأمن القومي الفنلندي في عام 2004. وبعدها، فإن «خيار ناتو» شكّل انعكاساً للبراغماتية المتأصلة في الفنلنديين، بعكس السويديين الذين كان رفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية جزءاً من هويتهم الوطنية. فبالنسبة لفنلندا، الحياد ليس أكثر من ضرورة ووسيلة لضمان بقائها.
- حرب غيّرت قناعات
قبل الحرب الروسية في أوكرانيا، اعتقدت فنلندا أن التعاون الوثيق مع «ناتو»، والتكامل العسكري مع السويد - الذي يتعمق منذ عام 2014 - والتعاون المتزايد مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، عوامل كافية لضمان أمنها، لكن مع هذا، سارت هلسنكي بحذر؛ لأنها لم ترغب في قطع كل أشكال التعاون مباشرة مع موسكو، ومع ذلك اتضح، في النهاية، أن روسيا نفسها هي التي انفصلت... ليس فقط عن فنلندا، ولكن أيضاً مع أوروبا والغرب بأَسْره.
كان من الطبيعي أن توقظ الحرب الأوكرانية ذكريات الفنلنديين حول أحداث عام 1939، عندما أنكر الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين حق فنلندا في الوجود، وأطلق العنان لـ«حرب الشتاء». وبعد مرور أكثر من 80 سنة، كانت الحرب الأوكرانية، وليس تصريحات موسكو بـ«أنه ليس لفنلندا والسويد الحق في الانضمام إلى ناتو»، السبب في تغير المزاج الشعبي.
- سنوات من التحضير
مع ذلك، بدأت فنلندا الاستعداد لمواجهة محتملة مع جارتها الشرقية العملاقة منذ وقت طويل، وأدى العمل المستمر على تعزيز القدرات الدفاعية إلى جعل فنلندا مالكة أقوى القوات المسلَّحة في شمال أوروبا، إذ لا يزال فيها نظام التجنيد الشامل الإلزامي للخدمة العسكرية، ويمتلك الجيش الفنلندي أيضاً عدداً كبيراً من جنود الاحتياط الذين يشاركون بانتظام في التدريبات العسكرية.
تعتز فنلندا بتقاليدها العسكرية الطويلة، وبعكس السويد أو ألمانيا، على سبيل المثال، لم تنتقل من الدفاع الإقليمي إلى الدفاع السريع، بل دأب الجيش الفنلندي دائماً على تقييم مدى ملاءمة المشاركة في العمليات الاستكشافية، من حيث حجم المساهمة في تعزيز الدفاع الإقليمي.
من جهة ثانية، تفيد تقارير بأن وحدات مدفعية الجيش الفنلندي هي الأكبر في أوروبا، وكان لإرث الحرب العالمية الثانية تأثير في ذلك، بما يتوافق تماماً مع القول الستاليني «المدفعية هي إله الحرب». وأيضاً يشير خبراء إلى أن المهندسين العسكريين الفنلنديين متخصصون من الدرجة الأولى في تجهيز الخطوط الدفاعية والعقبات والفِخاخ وتعدين التضاريس.
أما بالنسبة للطيران، فبعدما استقبلت القوات الجوية الفنلندية 64 مقاتلة من طراز «إف 35»، ستحلُّ محل طائرات «إف 18» الموجودة حالياً في الخدمة، سيتيسر للقوات الجوية الفنلندية، بالتعاون بسلاسة مع أعضاء «ناتو»، بما في ذلك ضمن «القوات المشتركة لشمال أوروبا»، التي تشارك فيها الولايات المتحدة بريطانيا، والنرويج، وإيطاليا، وكندا، وبولندا، والدنمارك، وهولندا.
وبالإضافة لما سبق، تعمل عضوية «ناتو» على دمج القوات المسلَّحة الفنلندية بشكل أفضل في التحضير والتخطيط مع الحلفاء الآخرين، وقد شاركت قوات فنلندا، بانتظام، في تدريبات «ناتو» بصفتها شريكاً منذ بعض الوقت.
وقد أورد تقريرٌ، صدر، نهاية العام الماضي، عن «مركز ويلسون» في واشنطن، 3 مجالات رئيسة يتوقع أن تفيد فيها فنلندا الحلف: قوات الاحتياط، والوصول إلى التكنولوجيا، وقوات المدفعية. ويشرح التقرير «أن قوات المدفعية الفنلندية هي الأكبر والأفضل تجهيزاً في أوروبا الغربية... ومع حوالي 1500 قطعة مدفعية، بما في ذلك 700 مدفع هاوتزر، و700 مدفع هاون ثقيل، و100 قاذفة صواريخ متعددة، تتمتع المدفعية الفنلندية بقوة نيران أكبر، مما تستطيع القوات المسلَّحة المشتركة لبولندا وألمانيا والنرويج والسويد حشدها حالياً».
وينوّه تقرير المركز أيضاً بالمستوى العالي من الأمن السيبراني في فنلندا، مذكّراً بأن البلاد هي موطن شركة نوكيا، التي هي «المزوِّد الرئيسي للبنية التحتية لشبكات الجيل الخامس»، كما أنها واحدة من أكبر 3 مزوّدين للبنية التحتية للجيل الخامس في العالم.
وتابع التقرير أيضاً أن فنلندا تستطيع تجنيد 900 ألف جندي احتياطي سبق تدريبهم بصفتهم مجندين في قواتها المسلحة، على الرغم من حقيقة أن عدد القوات المسلحة الفنلندية في زمن الحرب يبلغ 280 ألف فرد عسكري.
يضاف إلى هذا كله حقائق التاريخ والجغرافيا، إن إلقاء نظرة واحدة على الخريطة كافٍ لفهم أنه من منظور أوسع، سيكون لانضمام فنلندا والسويد إلى «ناتو» عواقب سياسية وأمنية وعسكرية خطيرة على موسكو. ويكفي القول إن لدى روسيا وفنلندا حدوداً مشتركة ضخمة بطول 1300 كيلومتر من المناطق المشجرة وذات الكثافة السكانية المنخفضة، من مورمانسك، إلى بطرسبورغ. وليس من الواضح كيف ستدافع موسكو عنها، على الرغم من إعلان وزارة الدفاع الروسية عن برنامج ضخم لاستحداث قطع عسكرية جديدة وإعادة توزيع مناطق الانتشار على الحدود الشمالية والغربية.
وللتذكير، تقاسمت روسيا، حتى لحظة انضمام فنلندا إلى «ناتو»، حوالي 1215 كلم من الحدود البرية، مع 5 أعضاء في الحلف هم النرويج وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا.
- طريق السويد
طريق السويد إلى الحلف لم يكن سهلاً أيضاً، مع أن الموقف السويدي يظل أكثر توقعاً إلى حد ما، إذ قالت رئيسة الحكومة السويدية ماجدالينا أندرسون، العام الماضي، إن ستوكهولم «ستدرس، بسرعة وبشمولية، الوضع الأمني الجديد». ويشرح خبير الدفاع جاكوب ويستبرغ: «في السويد نعتقد أنه على مدار 200 سنة، منذ عهد نابليون، كان لدينا سلام؛ لأننا رفضنا دائماً التحالفات العسكرية»، ثم يستدرك مضيفاً أن هذا التصور الذاتي للحياد الفعال يتعرض، الآن، للتهديد، «وعلينا الآن أن ننظر إلى الوضع الأمني بطريقة مختلفة تماماً. كانت الحرب ضد أوكرانيا نقطة تحوّل».
للموافقة على الانضمام إلى «ناتو»، تعيَّن على الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحاكم في السويد، تغيير موقفه الأولي بشأن هذه القضية. وإذا انضمت السويد - كما هو متوقع قريباً - إلى الحلف، فسيتغير الميزان الاستراتيجي كلياً في الشمال الأوروبي. ومع أنه ليست للسويد أي حدود مباشرة مع روسيا، سيغدو أسهل على «ناتو» إجراء عمليات واسعة في بحر البلطيق، وفي هذه الحالة ستكون جميع الدول، التي لها منفذ إلى بحر البلطيق، باستثناء روسيا، أعضاء في الحلف.
أيضاً، يعني انضمام السويد إلى «ناتو» انتقال أراضي جزيرة غوتلاند، الواقعة في هذا البحر، إلى سيطرة الحلف. ووفق الخبير ويستبرغ، «سيكون من الأصعب، بالنسبة لروسيا، العمل في بحر البلطيق، ما يعني تحوله إلى بحيرة أطلسية، فضلاً عن أن السويد تمتلك 5 غواصات حديثة جداً ستكمل أساطيل بولندا وألمانيا».
أيضاً، تمتلك القوات الجوية السويدية أكثر من 100 مقاتلة حديثة، وهذا، مع أنه، على مدى العقود الماضية، جرى تخفيض القوات البرية السويدية بشكل كبير، كما هي الحال في عدد من دول «ناتو». ويتوقع ويستبرغ مرور 10 سنوات قبل تغيير هذا الوضع.

ردود الفعل الروسية على التمدد الأطلسي

> كما هو متوقع، تعمل القيادة الروسية على التحرك بسرعة، لمواجهة تداعيات توسيع أسرة «ناتو». وقد بدأت موسكو، بالفعل، تحركات لتعزيز تجميع القوات البرية والدفاع الجوي بشكل جدي، وأيضاً نشر قوات بحرية كبيرة في خليج فنلندا، كما لوَّحت بنشر أسلحة نووية في منطقة حوض البلطيق.

فنلندا تنضم لـ«ناتو» والسويد على طريق الانضمام (رويترز)

غير أن التداعيات الأساسية، بالنسبة إلى موسكو، قد تظهر على محورين، وفقاً لخبراء:
- المحور الأول يتضح مع مدى جدية «ناتو» في نقل بناه التحتية العسكرية إلى مقربة من الحدود الروسية، وهذا الأمر بدأت موسكو التحضير له، من خلال قرارات توسيع نشر الأسلحة النووية لتشمل بيلاروسيا ومناطق في الشمال الروسي.
- المحور الثاني يكمن في تعزيز نزعة الانتقال من «الحياد» إلى «معسكر الأعداء»، ليشمل كل أوروبا، التي لم يتبق فيها إلا 3 دول تقف رسمياً على الحياد، هي سويسرا والنمسا وآيرلندا.
من الناحية الاستراتيجية، يقول خبراء في موسكو إنه بالنسبة إلى روسيا، لا يزال الدور الرئيس في إعداد القدرات العسكرية يلعبه الساحل في منطقة مورمانسك، حيث تحتفظ روسيا بقوات لضربة نووية انتقامية، في حين أن أهمية بحر البلطيق ثانوية، حتى لو كانت طرق النقل التي تربط بين بطرسبورغ وكالينينغراد تمر عبرها.
بسبب هذه الظروف، جزئياً، فضّلت الأوساط الرسمية والإعلامية الروسية تجنب التهويل من تداعيات انضمام فنلندا والسويد لاحقاً إلى «ناتو»، لدرجة أن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف - الذي تحوَّل إلى أحد أبرز «الصقور» خلال الحرب الأوكرانية - تعمّد التقليل من أبعاد الخطوة، واكتفى بتكرار صياغة «الكرملين» أن «قرار فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو خطأ فادح، ستقدم روسيا إجابة متناسقة عليه».
إلا أن خبراء يشيرون إلى أن التداعيات البعيدة المدى ستكون أخطر على روسيا من مجرد مواجهة انتشار عسكري محدد على مقربة من الحدود. كذلك فإن التداعيات النفسية والسياسية مع حال التغيير الشامل في المزاج الأوروبي ستكون بدورها لها آثار أعمق وأبعد مدى.


مقالات ذات صلة

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

العالم موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

أكد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) نشر وحدات عسكرية إضافية في أوروبا الشرقية، وقام بتدريبات وتحديثات للبنية التحتية العسكرية قرب حدود روسيا، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك»، اليوم الأربعاء. وأكد باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفستيا» الروسية، أن الغرب يشدد باستمرار الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي على بلاده، وأن الناتو نشر حوالى 60 ألف جندي أميركي في المنطقة، وزاد حجم التدريب العملياتي والقتالي للقوات وكثافته.

العالم إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية، الجمعة، أنها استدعت السفير الروسي في مدريد، بعد «هجمات» شنتها السفارة على الحكومة عبر موقع «تويتر». وقال متحدث باسم الوزارة، لوكالة «الصحافة الفرنسية»، إن الغرض من الاستدعاء الذي تم الخميس، هو «الاحتجاج على الهجمات ضد الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي».

«الشرق الأوسط» (مدريد)
العالم {الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

{الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب يوم الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

اعترضت مقاتلات ألمانية وبريطانية ثلاث طائرات استطلاع روسية في المجال الجوي الدولي فوق بحر البلطيق، حسبما ذكرت القوات الجوية الألمانية اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. ولم تكن الطائرات الثلاث؛ طائرتان مقاتلتان من طراز «إس يو – 27» وطائرة «إليوشين إل – 20»، ترسل إشارات جهاز الإرسال والاستقبال الخاصة بها.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.