«ناتو» على حدود روسيا... وموسكو تعزّز قدراتها غرباً

انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الغربي يعيد تشكيل خريطة أوروبا الأمنية

حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
TT

«ناتو» على حدود روسيا... وموسكو تعزّز قدراتها غرباً

حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)
حرب أوكرانيا غيّرت القناعات والاعتبارات في أوروبا (أ.ف.ب)

لم يشكل الإعلان الرسمي عن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو»، يوم 4 أبريل (نيسان) الحالي، نقطة التحول الأكبر في تاريخ علاقات الحلف الغربي مع الروس. وروسيا «المعاصرة»، التي وضعت على كتفيها العباءة السوفياتية، وحملت تركة الدولة العظمى في السابق لعقود، واجهت عدة مراحل لتوسع الحلف على مقربة من حدودها. وبعد ضم الجزء الأعظم من بلدان النفوذ السوفياتي السابق، في شرق أوروبا، خلال عام 1999، واصل الحلف تمدده داخل جغرافيا الاتحاد السوفياتي السابق، عبر انضمام جمهوريات حوض البلطيق (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) عام 2004، وإطلاق مسار «الشراكة الأطلسية» مع عدد من البلدان الأخرى، وعلى رأسها أوكرانيا وجورجيا، وبدرجة أقل مولدافيا. هذا الأمر أثار غضب «الكرملين»، الذي جادل، لسنوات، بأن الحلف «خان تعهداته» الشفهية، عندما وعد بألا يتوسع شرقاً، بعد «اتفاق توحيد ألمانيا»، أما النتيجة فكانت حرباً في جورجيا، عام 2008، عطّلت مسيرة تكاملها مع أوروبا، أو انضمامها إلى «ناتو»، ثم حرباً انفصالية مدمّرة في أوكرانيا أطلقت شرارتها الأولى في 2014، ولم تلبث أن أشعلت، في 2022، مواجهة كبرى ما زالت تداعياتها تتصاعد.
عنوان المواجهة في أوكرانيا، كان منع هذا البلد من التحول إلى قاعدة أمامية لـ«ناتو»، على مقربة من حدود روسيا، وإجبار الغرب على إعادة النظر في مواقفه، وتحويل «التعهدات الشفهية»، في السابق، إلى اتفاق أمني مكتوب ومُلزِم للأطراف، ويحدد مناطق النفوذ ويحترم المصالح المتبادلة.
ولكن في غمار تطورات متسارعة، لم يخطر في بال «الكرملين» أن المرحلة الجديدة للتوسع الأطلسي ستكون على حدود روسيا الشمالية الغربية. وبعدما كان الهدف المعلَن من الذهاب إلى أوكرانيا منع اقتراب الحلف من الحدود، تُعِدُّ روسيا، اليوم، لواقع جديد تغدو معه البنى التحتية لـ«ناتو» على بُعد 200 كيلومتر فقط من عاصمة القياصرة «سان بطرسبورغ».
لقد غيّرت الحرب في أوكرانيا الوضع الأمني في أوروبا كلياً، وأعادت التداعيات الأولى بانضمام فنلندا رسمياً إلى الحلف، وانتظار استكمال انضمام السويد، قبل قمة الحلف المقرّرة في بداية يوليو (تموز) المقبل، طرح السؤال الذي تكرّر طويلاً، خلال الأشهر الماضية: هل أصبحت روسيا أكثر أمناً بعد الحرب الأوكرانية؟
- نتائج أولية مباشرة
في النتائج الأولية المباشرة، فإن وجود فنلندا ضمن «ناتو» يعني أن طول الحدود المشتركة بين الدول الأعضاء في الحلف مع روسيا - التي يُنظر إليها حالياً على أنها «معسكر الأعداء» - يتضاعف ليصل إلى 2600 كيلومتر. وهذا «السيناريو» سيعني أن الحلف سيعمل على زيادة قدراته ونشر بناه التحتية على طول هذه المسافة، التي باتت تحتاج إلى حماية مباشرة وقوية. وهو أمر قد تضطر موسكو إلى الرد عليه بخطوات سريعة وفعالة لحماية مناطقها الغربية بمواجهة التطويق العسكري الكامل.
لكن ثمة تداعيات عدة أخرى لا تقتصر على الملفّين الأمني والعسكري اللذين يتطلبان من موسكو تخصيص موارد هائلة، وهي تنسحب على كل الملفات المتعلقة بالتوازن الاستراتيجي، والمصالح المتعددة في مناطق حيوية، كملف حوض البلطيق الذي غدا واقعياً «بحيرة أطلسية».
هذا الأمر يزيد أعباء موسكو الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ويعقِّد التنافس على منطقة القطب الشمالي، حيث تخوض موسكو، منذ سنوات، مواجهة دبلوماسية وأمنية وعلمية واستخباراتية قاسية لانتزاع الاعتراف بحقوقها فيها.
وقبل ذلك كله، لا بد من إلقاء نظرة تاريخية لتحديد الفروقات، بالنسبة إلى موسكو، بين خطوات فنلندا والسويد. هنا تكمن اختلافات لها أهمية خاصة؛ لأن انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي شكّل امتداداً طبيعياً للمواجهة التاريخية مع الروس، خلافاً للوضع مع السويد الذي شكّل الحياد بالنسبة إليها جزءاً من هويتها الوطنية وثقافة شعبها، ما يعني أن هذا التحول يشكل علامة فارقة تضاف إلى النتائج الأولية الكبرى للحرب في أوكرانيا، مثل إطلاق ألمانيا أكبر برنامج تسليح في تاريخها المعاصر، وميل أوروبا عموماً إلى العسكرة في مواجهة طموحات «الكرملين».
- الواقع الجيوسياسي
لطالما كان موضوع التخلي عن سياسة «عدم الانحياز» حاضراً في فنلندا، رغم الإجماعين الاجتماعي والسياسي على أنه لا جدوى من ذلك، فقد ظلت الهواجس المتعلقة بإمكانية حدوث مواجهة عسكرية جديدة في أوروبا لمدة 30 سنة، حاضرة في سياسات هلسنكي، وإن كانت النخب السياسية هناك لا تميل كثيراً إلى التشاؤم في هذا الأمر.
وكما هي حال أكثرية شعوب أوروبا، صدمت عودة الحرب إلى أوروبا الفنلنديين، الذين قرروا فوراً التخلي عن «عدم الانحياز»، والانضمام إلى «ناتو». الجدير بالذكر هنا أنه لم يدُر أي نقاش تقريباً حول ما إذا كان الوضع المحايد ليس طريقة أكثر موثوقية لضمان الأمن القومي، إذ اعتُبرت العضوية في كتلة عسكرية هي الخيار الوحيد.
وصحيحٌ أن انضمام فنلندا إلى «ناتو» كان أحد الموضوعات الرئيسة في النقاش الداخلي، خلال الأشهر الأخيرة، لكن الفنلنديين كانوا قد ناقشوا هذه القضية منذ سنوات عدة. وفي عام 2016، بعد مرور سنتين فقط على ضم شبه جزيرة القرم، واندلاع المواجهة في أوكرانيا وحولها، نشرت وزارة الخارجية الفنلندية تقريراً عن العواقب المحتملة لمثل هذه الخطوة. وعرض التقرير 3 استنتاجات رئيسة؛ أولها أن مسألة الانضمام يجب أن تُحسم في استفتاء. واتضح لاحقاً أن التصويت على المستوى الوطني ما عاد مطلوباً؛ لأن الأحداث الأخيرة ضمنت بالفعل دعماً عاماً واسعاً للانضمام إلى «ناتو».
أما الاستنتاجان الثاني والثالث، وهما الأكثر أهمية، فقضى أحدهما بأن تنضم فنلندا إلى «ناتو» برفقة السويد، وقضى الآخر باعتبار روسيا مصدر التهديد الأساسي لأمن البلاد. وكانت الخلاصة أنه على فنلندا مواجهة طموحات موسكو؛ ليس لمفردها، بل مع دول الحلف الأخرى.
الواقع أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اقتنع الفنلنديون بأنهم يستطيعون ضمان أمنهم، من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحده. وفي هذا، بالمناسبة، اختلفوا مع السويديين، الذين كان الاتحاد الأوروبي، في الأساس، شريكاً تجارياً لهم. وهذا جزئياً هو سبب إضافة ما يسمى «خيار ناتو» إلى عقيدة الأمن القومي الفنلندي في عام 2004. وبعدها، فإن «خيار ناتو» شكّل انعكاساً للبراغماتية المتأصلة في الفنلنديين، بعكس السويديين الذين كان رفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية جزءاً من هويتهم الوطنية. فبالنسبة لفنلندا، الحياد ليس أكثر من ضرورة ووسيلة لضمان بقائها.
- حرب غيّرت قناعات
قبل الحرب الروسية في أوكرانيا، اعتقدت فنلندا أن التعاون الوثيق مع «ناتو»، والتكامل العسكري مع السويد - الذي يتعمق منذ عام 2014 - والتعاون المتزايد مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، عوامل كافية لضمان أمنها، لكن مع هذا، سارت هلسنكي بحذر؛ لأنها لم ترغب في قطع كل أشكال التعاون مباشرة مع موسكو، ومع ذلك اتضح، في النهاية، أن روسيا نفسها هي التي انفصلت... ليس فقط عن فنلندا، ولكن أيضاً مع أوروبا والغرب بأَسْره.
كان من الطبيعي أن توقظ الحرب الأوكرانية ذكريات الفنلنديين حول أحداث عام 1939، عندما أنكر الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين حق فنلندا في الوجود، وأطلق العنان لـ«حرب الشتاء». وبعد مرور أكثر من 80 سنة، كانت الحرب الأوكرانية، وليس تصريحات موسكو بـ«أنه ليس لفنلندا والسويد الحق في الانضمام إلى ناتو»، السبب في تغير المزاج الشعبي.
- سنوات من التحضير
مع ذلك، بدأت فنلندا الاستعداد لمواجهة محتملة مع جارتها الشرقية العملاقة منذ وقت طويل، وأدى العمل المستمر على تعزيز القدرات الدفاعية إلى جعل فنلندا مالكة أقوى القوات المسلَّحة في شمال أوروبا، إذ لا يزال فيها نظام التجنيد الشامل الإلزامي للخدمة العسكرية، ويمتلك الجيش الفنلندي أيضاً عدداً كبيراً من جنود الاحتياط الذين يشاركون بانتظام في التدريبات العسكرية.
تعتز فنلندا بتقاليدها العسكرية الطويلة، وبعكس السويد أو ألمانيا، على سبيل المثال، لم تنتقل من الدفاع الإقليمي إلى الدفاع السريع، بل دأب الجيش الفنلندي دائماً على تقييم مدى ملاءمة المشاركة في العمليات الاستكشافية، من حيث حجم المساهمة في تعزيز الدفاع الإقليمي.
من جهة ثانية، تفيد تقارير بأن وحدات مدفعية الجيش الفنلندي هي الأكبر في أوروبا، وكان لإرث الحرب العالمية الثانية تأثير في ذلك، بما يتوافق تماماً مع القول الستاليني «المدفعية هي إله الحرب». وأيضاً يشير خبراء إلى أن المهندسين العسكريين الفنلنديين متخصصون من الدرجة الأولى في تجهيز الخطوط الدفاعية والعقبات والفِخاخ وتعدين التضاريس.
أما بالنسبة للطيران، فبعدما استقبلت القوات الجوية الفنلندية 64 مقاتلة من طراز «إف 35»، ستحلُّ محل طائرات «إف 18» الموجودة حالياً في الخدمة، سيتيسر للقوات الجوية الفنلندية، بالتعاون بسلاسة مع أعضاء «ناتو»، بما في ذلك ضمن «القوات المشتركة لشمال أوروبا»، التي تشارك فيها الولايات المتحدة بريطانيا، والنرويج، وإيطاليا، وكندا، وبولندا، والدنمارك، وهولندا.
وبالإضافة لما سبق، تعمل عضوية «ناتو» على دمج القوات المسلَّحة الفنلندية بشكل أفضل في التحضير والتخطيط مع الحلفاء الآخرين، وقد شاركت قوات فنلندا، بانتظام، في تدريبات «ناتو» بصفتها شريكاً منذ بعض الوقت.
وقد أورد تقريرٌ، صدر، نهاية العام الماضي، عن «مركز ويلسون» في واشنطن، 3 مجالات رئيسة يتوقع أن تفيد فيها فنلندا الحلف: قوات الاحتياط، والوصول إلى التكنولوجيا، وقوات المدفعية. ويشرح التقرير «أن قوات المدفعية الفنلندية هي الأكبر والأفضل تجهيزاً في أوروبا الغربية... ومع حوالي 1500 قطعة مدفعية، بما في ذلك 700 مدفع هاوتزر، و700 مدفع هاون ثقيل، و100 قاذفة صواريخ متعددة، تتمتع المدفعية الفنلندية بقوة نيران أكبر، مما تستطيع القوات المسلَّحة المشتركة لبولندا وألمانيا والنرويج والسويد حشدها حالياً».
وينوّه تقرير المركز أيضاً بالمستوى العالي من الأمن السيبراني في فنلندا، مذكّراً بأن البلاد هي موطن شركة نوكيا، التي هي «المزوِّد الرئيسي للبنية التحتية لشبكات الجيل الخامس»، كما أنها واحدة من أكبر 3 مزوّدين للبنية التحتية للجيل الخامس في العالم.
وتابع التقرير أيضاً أن فنلندا تستطيع تجنيد 900 ألف جندي احتياطي سبق تدريبهم بصفتهم مجندين في قواتها المسلحة، على الرغم من حقيقة أن عدد القوات المسلحة الفنلندية في زمن الحرب يبلغ 280 ألف فرد عسكري.
يضاف إلى هذا كله حقائق التاريخ والجغرافيا، إن إلقاء نظرة واحدة على الخريطة كافٍ لفهم أنه من منظور أوسع، سيكون لانضمام فنلندا والسويد إلى «ناتو» عواقب سياسية وأمنية وعسكرية خطيرة على موسكو. ويكفي القول إن لدى روسيا وفنلندا حدوداً مشتركة ضخمة بطول 1300 كيلومتر من المناطق المشجرة وذات الكثافة السكانية المنخفضة، من مورمانسك، إلى بطرسبورغ. وليس من الواضح كيف ستدافع موسكو عنها، على الرغم من إعلان وزارة الدفاع الروسية عن برنامج ضخم لاستحداث قطع عسكرية جديدة وإعادة توزيع مناطق الانتشار على الحدود الشمالية والغربية.
وللتذكير، تقاسمت روسيا، حتى لحظة انضمام فنلندا إلى «ناتو»، حوالي 1215 كلم من الحدود البرية، مع 5 أعضاء في الحلف هم النرويج وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا.
- طريق السويد
طريق السويد إلى الحلف لم يكن سهلاً أيضاً، مع أن الموقف السويدي يظل أكثر توقعاً إلى حد ما، إذ قالت رئيسة الحكومة السويدية ماجدالينا أندرسون، العام الماضي، إن ستوكهولم «ستدرس، بسرعة وبشمولية، الوضع الأمني الجديد». ويشرح خبير الدفاع جاكوب ويستبرغ: «في السويد نعتقد أنه على مدار 200 سنة، منذ عهد نابليون، كان لدينا سلام؛ لأننا رفضنا دائماً التحالفات العسكرية»، ثم يستدرك مضيفاً أن هذا التصور الذاتي للحياد الفعال يتعرض، الآن، للتهديد، «وعلينا الآن أن ننظر إلى الوضع الأمني بطريقة مختلفة تماماً. كانت الحرب ضد أوكرانيا نقطة تحوّل».
للموافقة على الانضمام إلى «ناتو»، تعيَّن على الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحاكم في السويد، تغيير موقفه الأولي بشأن هذه القضية. وإذا انضمت السويد - كما هو متوقع قريباً - إلى الحلف، فسيتغير الميزان الاستراتيجي كلياً في الشمال الأوروبي. ومع أنه ليست للسويد أي حدود مباشرة مع روسيا، سيغدو أسهل على «ناتو» إجراء عمليات واسعة في بحر البلطيق، وفي هذه الحالة ستكون جميع الدول، التي لها منفذ إلى بحر البلطيق، باستثناء روسيا، أعضاء في الحلف.
أيضاً، يعني انضمام السويد إلى «ناتو» انتقال أراضي جزيرة غوتلاند، الواقعة في هذا البحر، إلى سيطرة الحلف. ووفق الخبير ويستبرغ، «سيكون من الأصعب، بالنسبة لروسيا، العمل في بحر البلطيق، ما يعني تحوله إلى بحيرة أطلسية، فضلاً عن أن السويد تمتلك 5 غواصات حديثة جداً ستكمل أساطيل بولندا وألمانيا».
أيضاً، تمتلك القوات الجوية السويدية أكثر من 100 مقاتلة حديثة، وهذا، مع أنه، على مدى العقود الماضية، جرى تخفيض القوات البرية السويدية بشكل كبير، كما هي الحال في عدد من دول «ناتو». ويتوقع ويستبرغ مرور 10 سنوات قبل تغيير هذا الوضع.

ردود الفعل الروسية على التمدد الأطلسي

> كما هو متوقع، تعمل القيادة الروسية على التحرك بسرعة، لمواجهة تداعيات توسيع أسرة «ناتو». وقد بدأت موسكو، بالفعل، تحركات لتعزيز تجميع القوات البرية والدفاع الجوي بشكل جدي، وأيضاً نشر قوات بحرية كبيرة في خليج فنلندا، كما لوَّحت بنشر أسلحة نووية في منطقة حوض البلطيق.

فنلندا تنضم لـ«ناتو» والسويد على طريق الانضمام (رويترز)

غير أن التداعيات الأساسية، بالنسبة إلى موسكو، قد تظهر على محورين، وفقاً لخبراء:
- المحور الأول يتضح مع مدى جدية «ناتو» في نقل بناه التحتية العسكرية إلى مقربة من الحدود الروسية، وهذا الأمر بدأت موسكو التحضير له، من خلال قرارات توسيع نشر الأسلحة النووية لتشمل بيلاروسيا ومناطق في الشمال الروسي.
- المحور الثاني يكمن في تعزيز نزعة الانتقال من «الحياد» إلى «معسكر الأعداء»، ليشمل كل أوروبا، التي لم يتبق فيها إلا 3 دول تقف رسمياً على الحياد، هي سويسرا والنمسا وآيرلندا.
من الناحية الاستراتيجية، يقول خبراء في موسكو إنه بالنسبة إلى روسيا، لا يزال الدور الرئيس في إعداد القدرات العسكرية يلعبه الساحل في منطقة مورمانسك، حيث تحتفظ روسيا بقوات لضربة نووية انتقامية، في حين أن أهمية بحر البلطيق ثانوية، حتى لو كانت طرق النقل التي تربط بين بطرسبورغ وكالينينغراد تمر عبرها.
بسبب هذه الظروف، جزئياً، فضّلت الأوساط الرسمية والإعلامية الروسية تجنب التهويل من تداعيات انضمام فنلندا والسويد لاحقاً إلى «ناتو»، لدرجة أن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف - الذي تحوَّل إلى أحد أبرز «الصقور» خلال الحرب الأوكرانية - تعمّد التقليل من أبعاد الخطوة، واكتفى بتكرار صياغة «الكرملين» أن «قرار فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو خطأ فادح، ستقدم روسيا إجابة متناسقة عليه».
إلا أن خبراء يشيرون إلى أن التداعيات البعيدة المدى ستكون أخطر على روسيا من مجرد مواجهة انتشار عسكري محدد على مقربة من الحدود. كذلك فإن التداعيات النفسية والسياسية مع حال التغيير الشامل في المزاج الأوروبي ستكون بدورها لها آثار أعمق وأبعد مدى.


مقالات ذات صلة

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

العالم موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

أكد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) نشر وحدات عسكرية إضافية في أوروبا الشرقية، وقام بتدريبات وتحديثات للبنية التحتية العسكرية قرب حدود روسيا، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك»، اليوم الأربعاء. وأكد باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفستيا» الروسية، أن الغرب يشدد باستمرار الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي على بلاده، وأن الناتو نشر حوالى 60 ألف جندي أميركي في المنطقة، وزاد حجم التدريب العملياتي والقتالي للقوات وكثافته.

العالم إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية، الجمعة، أنها استدعت السفير الروسي في مدريد، بعد «هجمات» شنتها السفارة على الحكومة عبر موقع «تويتر». وقال متحدث باسم الوزارة، لوكالة «الصحافة الفرنسية»، إن الغرض من الاستدعاء الذي تم الخميس، هو «الاحتجاج على الهجمات ضد الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي».

«الشرق الأوسط» (مدريد)
العالم {الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

{الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب يوم الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

اعترضت مقاتلات ألمانية وبريطانية ثلاث طائرات استطلاع روسية في المجال الجوي الدولي فوق بحر البلطيق، حسبما ذكرت القوات الجوية الألمانية اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. ولم تكن الطائرات الثلاث؛ طائرتان مقاتلتان من طراز «إس يو – 27» وطائرة «إليوشين إل – 20»، ترسل إشارات جهاز الإرسال والاستقبال الخاصة بها.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.