كارثة إنسانية وصحية تهدد السودان

هروب جماعي من الموت في الخرطوم إلى المدن والأرياف

أحد المصابين في مستشفى بالخرطوم يكتظ بالجرحى (أ.ب)
أحد المصابين في مستشفى بالخرطوم يكتظ بالجرحى (أ.ب)
TT

كارثة إنسانية وصحية تهدد السودان

أحد المصابين في مستشفى بالخرطوم يكتظ بالجرحى (أ.ب)
أحد المصابين في مستشفى بالخرطوم يكتظ بالجرحى (أ.ب)

لا أحد في السودان يستطيع أن يرسم حدود المآسي الناجمة عن الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، مثلما فعل الناشط محمد جالي على صفحته بموقع التواصل «فيسبوك». وجالي إنسان عادي، جعلته الحرب يقدر أنه وحده من يدفع ثمن الحرب، بغض النظر عمن يخسرها أو يكسبها من المتقاتلين، لأنها في كل الأحوال تفقده «أحد شقيقيه» اللذين يقاتل أحدهما في صفوف الجيش والآخر في صفوف «الدعم السريع».
يرسل محمد جالي رسالته إلى شقيقه الأكبر مصعب في القوات المسلحة، ليبلغه أن شقيقه الأصغر يعقوب، الجندي في قوات «الدعم السريع» رُزق بطفل، وهو لا يعلم بذلك، ربما لانشغاله بالقتال، أو لعدم استطاعته العودة إلى بيته بسبب القتال.
يقول محمد جالي لشقيقه الأكبر: «إذا وقع (شقيقك) أسيراً في يدك، أو وقعت أسيراً في يده، فأخبره بهذا الخبر، وأسأل الله أن يحفظكما جميعاً في هذه المعركة التي أرى أن الخاسر الوحيد فيها أنا».
وقبل أن تبلغ رسالة جالي إلى أحد شقيقيه، كان أغلب سكان العاصمة الخرطوم قد وجدوا أنفسهم في «سجن» يحيطه الموت والخوف من كل الجهات: موت بالرصاص أو القذائف العمياء، أو حتى بالصواريخ الموجهة لقنص الطائرات العمياء التي ترمي بحممها في كل اتجاه، أو من الجوع الناجم عن حالة الإغلاق الجبري، أو العطش الناجم عن توقف شبكات المياه، أو غيرها من أثمان يقدمها شعب أجبر على حرب لا لزوم لها.

آثار الدمار داخل منزل أصيب خلال اشتباكات في الخرطوم (رويترز)

ووفقاً لما يجري تداوله في وسائط التواصل، وبين مراسلي الصحف، ومنهم مراسلو «الشرق الأوسط»، فإن غالب سكان المدينة عالقون في منازلهم، من دون مياه شرب أو كهرباء أو طعام، ومع ذلك لا يستطيع أغلبهم النظر حتى من النافذة، خشية رصاصة طائشة تُلحقه بالكثيرين الذين ذهبوا جراء الحرب، وتجاوز عددهم المئات.
وزادت الأوضاع الإنسانية قسوة نتيجة تصاعد حدة الاشتباكات يوماً بعد آخر، وبكافة الأسلحة، الخفيفة والثقيلة والطيران الحربي والمدرعات الثقيلة وغيرها من آلات القتل الهمجي، ما دفع منظمات إنسانية محلية وإقليمية ودولية للتحذير من استمرار القتال، الذي أدى إلى نقص الغذاء والدواء والحاجات اليومية للمواطنين الصائمين. وأطلقت مستشفيات كبرى وتنظيمات أطباء ومجتمع مدني، استغاثات كثيرة، تحذر فيها من كوارث إنسانية نتيجة لنفاد مخزونها من الأدوية المنقذة للحياة، أو نتيجة لكون كادرها الطبي من دون طعام أو غذاء، أو بسبب سقوط مقذوفات على مبانيها ومقتل عدد من الأطباء، فيما ناشدت مستشفيات أخرى المواطنين تزويدها بمياه شرب أو مياه للاستخدام الصحي، بسبب انقطاع المياه، فيما طلبت مستشفيات من المواطنين تزويدها بوقود لمولدات الكهرباء الخاصة بها، والتي ظلت تشتغل طوال أيام بسبب انقطاع خدمة الكهرباء العامة، ما أدى لنفاد وقودها، في ظل توقف محطات الوقود عن العمل.
فمنذ اليوم الأول للاشتباكات، شلت الحياة تماماً، وأغلقت الأسواق أبوابها، وتعطلت حركة المواصلات العامة والخاصة في معظم مدن وأحياء العاصمة الخرطوم، وتوقفت على أثر ذلك الحركة تماماً في الشوارع، وخلت إلا من الجنود بأزيائهم وبنادقهم النهمة للأجساد الطرية.
وانقطع التيار الكهربائي عن مناطق واسعة في مدن الخرطوم الثلاث: الخرطوم، الخرطوم بحري، وأم درمان، عقب اشتعال القتال مباشرة، كما انقطعت خدمة مياه الشرب عن الكثير من الأحياء والمنازل، بسبب سقوط القذائف بالقرب من مراكز توزيعها أو تعطلها بسبب هرب العاملين فيها، كما نفدت مخزونات الأسر الغذائية البسيطة التي درجت الأسر على الاحتفاظ بها للاستهلاك اليومي؛ فالحرب نشبت فجأة ودون تمهيد، ما دفع كل مزودي الخدمات بدورهم إلى إغلاق محلاتهم خوفاً من الموت برصاصة طائشة أو صاروخ يضل طريقه. وقالت الهيئة الرسمية المسؤولة عن خدمة المياه، في بيان، إن موظفيها غير قادرين على إصلاح الأعطال في شبكات المياه التي تضررت جراء الإتلاف عمداً بالأسلحة النارية، ما يعني استمرار معاناة المواطنين في ظل تواصل القتال.

وأدت الحرب كذلك إلى تعطيل كل مؤسسات الدولة العامة والمرافق الخدمية الخاصة، فتوقفت البنوك عن العمل، وأصابت خدماتها الإلكترونية أعطاب تقنية لا يمكن إصلاحها قبل العودة إلى العمل، ما عقّد الحياة بصورة غير مسبوقة في البلاد.
وأدى القتال الضاري إلى تعطيل وصول المرضى إلى المستشفيات والمرافق الصحية، ومن يستطيع الوصول يجد أنها تعاني انقطاع الكهرباء والمياه ونقص الدواء. وقالت مصادر طبية لـ«الشرق الأوسط»، إن معظم المستشفيات الحكومية والخاصة في طريقها للتوقف عن تقديم الخدمة للمرضى في حال استمرار الاشتباكات، هذا بجانب تعرض مستشفيات مثل «مستشفى الشعب - الخرطوم» للقصف العشوائي من قبل المتقاتلين.
ولأن «مواجهة الموت أهون من انتظاره»، يخاطر الكثير من المواطنين بالخروج من المنازل وسط الرصاص ودوي المدافع، علهم يحصلون على رغيف خبز أو بعض ماء، ويوقتون خروجهم عادة مع «أذان المغرب» وساعة تناول الإفطار، متوقعين أن يقل تبادل إطلاق النار، لكن هذا التوقع عادة لا يصدق، لأن المتقاتلين حسب رواية ساخرة، يفطرون عن صيامهم بطلقات الرصاص الفارغة.
والموت الذي يحوم بلا هدى في شوارع الخرطوم وأسواقهما وأحيائها، دفع الكثير من رجال الأعمال والتجار إلى إغلاق متاجرهم ومحلاتهم، بل ومخابزهم التي تزود الناس بالخبز، وبقيت أعداد قليلة منها تخاطر بالعمل. لكنها، ومع المخاطرة الكبيرة، مهددة بنفاد مخزونها من السلع الرئيسية، خصوصاً دقيق الخبز، ما يجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات الناس اليومية.
ولا تنحصر المأساة في انعدام السلع والخدمات أو البقاء الإجباري في المنازل وبين الحيطان، فالكثير من المناطق والأحياء لم تتركها الرصاصات، خصوصاً تلك القريبة من مقر قيادة الجيش في الخرطوم، والتي تركز فيها القتال. وذكرت التقارير أن القذائف التي تقع على المنازل أزهقت أرواح عشرات المواطنين، وأصابت كثيرين منهم بإصابات بليغة، فضلاً على الدمار الذي تسببه للعقارات والمقتنيات.
ومثلما لجأ معظم المواطنين إلى جدران منازلهم ليحتموا بها، فإن كثيرين عجزوا عن العودة إلى منازلهم بسبب القتال، وبسبب إغلاق الطرق والجسور، فتحولوا إلى «رهائن» محتجزين في أماكن عملهم أو دراستهم، محاصرين من كل الاتجاهات، دون ماء أو غذاء أو حتى هدوء وقدرة على النوم، ما أدى لإطلاقهم استغاثات تطالب بإتاحة ممرات آمنة، وطالبوا طرفي القتال والمجتمع الإنساني بإخلائهم.
ووفقاً لإحصاءات صادرة عن منظمات طبية أو مدنية، فإن أكثر من مائة طالب، ومعهم بعض العمال، لا يزالون محتجزين في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم التي تبعد أمتاراً قليلة عن قيادة الجيش، حيث يدور القتال الأعنف. وزاد: «الطين بلة» أن رصاصة غادرة أصابت أحدهم في الصدر، وأردته قتيلاً في أثناء محاولته الخروج تزامناً مع هدنة أعلن عنها لم يجرِ الالتزام بها، وظلت الجثة وسط الطلاب المحتجزين أكثر من يوم، ما اضطرهم لدفنها في أحد ميادين الجامعة، في أول حادثة من نوعها في تاريخ الجامعة العريقة.
ولا يستطيع أحد الجزم بما يحدث في الشوارع في أثناء القتال، فكل طرف ينقل الأحداث بما يخدم «حربه النفسية» ضد الآخر، لكن التسريبات تشير إلى انتشار أعداد كبيرة من الجثث في المدن والأحياء، لا يستطيع أحد الاقتراب منها حتى لا يلحق بها، ما يهدد بكارثة صحية كبيرة، في حال تحلل هذه الجثث.
ولأن لا أحد يعرف متى تتوقف الحرب الجارية بين قوات الجيش والدعم، ولا كيف يتجنب أخطار «البقاء» في الخرطوم، ومواجهة الواقع الصعب والقاسي الذي أفرزته الحرب، فإن الكثير من الأسر بدأت «هجرة عكسية» من المدينة إلى الريف، لتبتعد عن مرمى الرصاصات الناتجة عن القتال، لكن حتى هذه الهجرة هي «مغامرة» غير مأمونة العواقب، ويضطر الهاربون إلى سلوك «دروب» غير معهودة للهرب، قد تستغرق ساعات طويلة قبل الوصول إلى مقاصدهم، وقد تفاجئهم الرصاصة نفسها وهم يهربون.


مقالات ذات صلة

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

شمال افريقيا الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

كثَّفت المملكة العربية السعودية، جهودَها الدبلوماسية لوقف التصعيد في السودان، إلى جانب مساعداتها لإجلاء آلاف الرعايا من أكثر من مائة دولة عبر ميناء بورتسودان. وأجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أمس، اتصالات هاتفية، مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف، بحث خلالها الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف السودانية، وإنهاء العنف، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين، بما يضمن أمنَ واستقرار ورفاه السودان وشعبه.

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

البرهان يسمح للمنظمات الإغاثية باستخدام 3 مطارات لتخزين مواد الإغاثة

قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يؤدي التحية العسكرية خلال فعالية في بورتسودان 25 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)
قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يؤدي التحية العسكرية خلال فعالية في بورتسودان 25 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

البرهان يسمح للمنظمات الإغاثية باستخدام 3 مطارات لتخزين مواد الإغاثة

قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يؤدي التحية العسكرية خلال فعالية في بورتسودان 25 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)
قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يؤدي التحية العسكرية خلال فعالية في بورتسودان 25 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

قال مجلس السيادة السوداني، اليوم (الاثنين)، إن رئيس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان وجّه بالسماح لمنظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة باستخدام 3 مطارات بوصفها مراكز لتخزين مواد الإغاثة الإنسانية.

وأوضح المجلس، في بيان له، أنه تمّ السماح لتلك المنظمات بالاستفادة من مطارات كل من مدينة كادوقلي بولاية جنوب كردفان، ومدينة الأبيض بولاية شمال كردفان، ومطار مدينة الدمازين في إقليم النيل الأزرق بوصفها «مراكز إنسانية لتخزين مواد الإغاثة».

كما سمح رئيس المجلس بتحرّك موظفي وكالات الأمم المتحدة مع القوافل التي تنطلق من تلك المناطق، والإشراف على توزيع المساعدات، والعودة إلى نقطة الانطلاق فور الانتهاء.

وتسبّبت الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) من العام الماضي في أكبر أزمة نزوح في العالم.